أصيلة تحتفي بالذكرى العشرين لتأسيس مجلة «بانيبال» الأدبية الأدب أولا، الأدب أخيرا

اختار موسم أصيلة الثقافي لهذه السنة الاحتفاء بمرور 20سنة على تأسيس أول مجلة عربية تعنى بترجمة الأدب العربي للإنجليزية، مجلة بانيبال، المشروع الذي لا يرتبط بشخص مؤسسيْها صمويل شمعون وزوجته الباحثة مارغاريت أوبانك بقدر ما يرتبط بتجربة ومسار أدبي، وباجتهادات وبمآلات حلم أدبي.
في كلمته التقديمية لليوم الاحتفائي بمجلة بانيبال الأدبية، اعتبر محمد بن عيسى أمين عام منتدى أصيلة أن مؤسسي المجلة، ومنذ البداية، راهنا على التحديث في تقديم خدمة أساسية للأدب العربي عجزت عن القيام بها المؤسسات الحكومية مثلما «فشلت دونها محاولات فردية تعثرت بسبب افتقادها الاقتناع الصادق بالوسيلة والهدف»، مشيرا إلى أن دافعهما لخوض التجربة كان هو الوعي بأن الأدب العربي وخاصة السردي والشعري بلغ مرحلة النضج، وأصبح قابلا وجديرا بالترجمة إلى اللغة الإنجليزية الأكثر تداولا وانتشارا وتأثيرا في عالمنا المعاصر، وهي تجربة استفادت من تعثرات التجارب السابقة في الترجمة ما شكل حافزا لها للتميز والتفرد، مؤكدا على أن الترجمة كانت ولاتزال «الوسيلة المثلى للتعرف والانخراط في منظومة ثقافية مغايرة، بما تحتضنه من حيوية خلاقة وتجاذب متوتر بين القديم المنسحب والجديد الوافد».
واعتبر وزير الثقافة سابقا محمد الأشعري، في كلمة تلاها بالنيابة عنه الأستاذ شرف الدين ماجدولين، أن المجلة نذرت نفسها لتقديم الإبداع العربي للعالم برؤية تراهن على «ضرورة الأدب في بناء علاقات إنسانية متحررة من رواسب الهيمنة والعنف والخوف من الآخر»، مشيرا إلى أن تجربة بانيبال قدمت نصوصا وتجارب مرتبطة في سياقاتها التاريخية، راصدة التحولات كما واكبت أصواتا واتجاهات وحساسيات متعددة، و»جعلت غايتها التعريف بأدب الهامش والظل»، كما لم تغفل أصوات الأجيال الشابة، معتبرا هذا الغنى في الروافد سجلا حيا لتاريخنا التثقافي والاجتماعي في العشرين سنة الأخيرة. «سجل لم يكن فقط موجها للخارج ساهم في تقريب القراء الأجانب من خصوصيات الأدب العربي واتجاهاته، بل كان في نفس الوقت خطابا موجها إلى الداخل كـ»نوع من تأمل إبداعنا في مرآة الآخرين وإلى الاقتناع بأننا « لا ننتج لأنفسنا إلا ما نعبر به نحو الأخر».
بدوره رسم الروائي التونسي حسونة المصباحي ملامح إنسانية مقربة لشخص صامويل شمعون من خلال لقاءاتهما بجغرافيات الاغتراب، مشيرا إلى أن «صام» كما يدعوه، لم يكف يوما عن الحلم بأن يقدم مشروعا مغايرا للموجود وهو ما تحقق بعد انتقاله إلى لندن وتعرفه على مارغريت، ليقرر تحويل موقعه الالكتروني «كيكا» إلى مجلة ورقية ناجحة عرف من خلالها بكبار الأدباء العرب، وليثبت قدرته على تحويل الأحلام الجميلة التي راودته سنوات التشرد والعيش المرير في إسطبلات اللجوء إلى واقع، منجزا من خلال بانيبال ما لم تتمكن من إنجازه كل المراكز الثقافية العربية في أوربا.
هارتموت فيندرش، المتخصص في الترجمة من العربية إلى الألمانية، وأستاذ العربية والتاريخ والحضارة الإسلامية، عاد بالحضور إلى عصر بانيبال الملك الآشوري الذي أسس أكبر وأقدم مكتبة بالتاريخ، مؤكدا أننا في عالم متعدد اللغات والثقافات وأن الترجمة عمليا تبقى مسرح المترجمين، الذين اعتبرهم أذكياء في تقبلهم لسلوك الآخر ومعتقداته، ورغبتهم الصادقة في التعرف عليها والتعريف بها، مشيرا إلى أن دعوة ميخاييل نعيمة «لنترجم» مازالت صالحة حتى الآن.
في شهادتها حول تجربة المجلة، قدمت المترجمة اليابانية كاورو يامامونو، أستاذة الأدب العربي وعضو طاقم الترجمة بالمجلة، الملامح العامة عن ترجمة الأدب العربي بخلفياتها الاجتماعية والسياسية، وعلاقتها الشخصية بهذا الأفق الذي انفتح أمامها مع أولى ترجماتها لهذا الأدب برواية «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» لإميل حبيبي، مشيرة إلى حركية الترجمة الدؤوبة من الأدب العربي إلى اللغة الإنجليزية وخاصة اليابانية التي أبدى دوما شعبها مساندته وتضامنه اللامشروطين مع قضايا العالم الثالث، مؤكدة أن المجلة شكلت جسرا للقراء الناطقين بالإنجليزية نحو الاطلاع على الأدب العربي لمواكبة أحدث إبداعاته واكتشاف أسماء جديدة، بعوالمه وتعبيراته الجمالية والفنية. وأضافت كاورو أن المجلة فتحت أيضا أواصر العلاقات النقدية مع الرواية والقصة للتعرف على خصائص كتابتها عربيا، بالانفتاح على نصوص كتاب مشهورين كنجيب محفوظ، عبد الرحمان منيف، أسية جبار، رشيد بوجدرة، الطاهر بنجلون…
بدوره أكد وليد حمارنة أستاذ الدراسات الأدبية المقارنة بجامعة ريتشموند، أن المجلة فتحت آفاقا واسعة للقارئ للاطلاع على إنتاجات الأدباء العرب، باعتبارها المجلة الوحيدة في المجال الأنجلوسكسوني، ليقرأ الأدب العربي الجديد، كما أنها شكلت دوما أحد المصادر الأساسية للعاملين في الدراسات العربية من خارج اللغة العربية. وأشار حمارنة إلى أن هذا الإشعاع مطروح أمامه تحديات لضمان استمراره، لعل أولها عملية النشر الرقمي للمجلة وتطويرها وإضافة كتاب من خارج العالم العربي مع التركيز على كتابات الشباب وتحسين بعض الترجمات، وضرورة توسعها إلى المجال الأنجلوسكسوني خارج المملكة المتحدة.
وحول تفرد تجربة المجلة، اعتبر الكاتب والشاعر فاضل العزاوي، عضو هيئة تحرير «بانيبال»، أن المجلة تعكس بشكل كبير الوضع الثقافي العربي في تنوعه، كما أنها ليست مجلة ذات مطامح محدودة. فقد حرصت على أن تكون نصوصها أدبية مدافعة عن القيم الحضارية الكونية دون اصطفافات عقائدية أو سياسية أو اقتصادية، داعيا إلى تحويلها إلى مؤسسة لأن بقاءها بمجهودات شخصية فيه إرهاق واستنزاف كبيران للساهرين على نشرها، وهو ما لن يتأتى دون التفكير في خلق صناديق خاصة لدعم الترجمة.
من جهته ركز الروائي والمؤرخ والباحث بجامعة أوكسفورد، روبرت إيروين، في حديثه عن المجلة على الخلفية التاريخية التي تحكمت في إصدار هذا المشروع الترجمي، والتي حددها في فراغ الساحة الترجمية التي اتسمت بالانقطاع وبالطابع المؤقت، وهو الفراغ الذي سجل بكثرة في مجال الرواية العربية، الشيء الذي انتبهت إليه مجلة بانيبال، محاولة الارتقاء على الاعتبارات السياسية والانتصار لقيم الأدب فقط، الأدب الذي يعلي من مبادئ الإنسانية والمساواة بعيدا عن الأنماط الغربية في الكتابة، و مراعاة التنوع في الترجمات التي تتوزع بين النقد والحوار والكتابة الإبداعية، مشيرا إلى إشكالية هامة في هذا المجال وهي اختيار النصوص المترجمة.
وأعاد الكاتب والمترجم الألماني، ستيفان فايدنر، الإشعاع الذي تعرفه حركة الترجمة من الأدب العربي اليوم، إلى مساهمة المجلة الحثيثة في التعريف بالتجارب الإبداعية العربية، مسجلا أن البطء الذي كان يسم هذه العملية منذ الستينات، تغيرت وتيرته إذ نجد اليوم أن هناك 300 رواية مترجمة إلى الألمانية وما بين 40 إلى 50 ديوانا شعريا مترجما وكلها في 25 سنة الماضية، وهي المهمة المطروحة اليوم على المثقفين المهاجرين خصوصا من سوريا والعراق للاهتمام بنشر الثقافة والأدب العربيين خاصة في ألمانيا التي تعرف تدفقا للاجئين من هذه البلدان.
وعرض الروائي والقاص المغربي إسماعيل غزالي، تجربته التي اعتبرها فارقة مع مجلة «بانيبال « التي بادرت إلى ترجمة أحد نصوصه «الحديقة اليابانية» باقتراح من مؤسس المجلة صمويل شمعون، مشيرا إلى انبهاره بالطريقة الاحترافية في الترجمة التي لا تهمل إحداثيات النص وتحترم لعبة التخييل في العمل الأدبي. وأشار غزالي إلى أن تجربة المجلة لا تكتسب فرادتها من الترجمة الجسورة والمهنية للنصوص فقط، بل من عدم احتكامها إلى مركزية جيلية في اختيار أو الاقتصار على حساسية دون أخرى، مضيفا أن استمرارها يؤكد تجاوزها لحدود رهانها التأسيسي وانزياحها إلى خلق مؤسسة ثقافية متعددة لا يمكن تجاوز أو إنكار قيمتها المضافة إلى المشهد الأدبي العربي.
مارغريت أوبانك وصمويل شمعون اعتبرا في كلمتهما أن مشروعهما لم يكن وليد صدفة بل نتاج وعي راسخ بأن الأدب العربي جزء من الثقافة العربية، ونابعا من الحاجة إلى حوار ثقافات حقيقي يراعي التنوع والاطلاع على آداب الآخر. فقد اعتبرت مارغريت أن الترجمة ولعقود كان مقصورة على الدوائر الأكاديمية ومن مهمة الخبراء، لذا كان القرار بكسر هذه الصورة النمطية في محاولة لإيصال رسالة الكتاب العرب للناطقين بالإنجليزية، فيما اعتبر صمويل شمعون أن ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية كانت تتم ببطء واحتشام وبداعي التضامن مع العرب خاصة من طرف الكتاب الروس والشرق-آسيويين في الخمسينات، وهو ما تغير بعد السبعينات والثمانيات ببروز جيل جديد من الكتابة والكتاب، خاصة بعد خروج العديد منهم من بيروت والتوجه إلى قبرص وباريس، معيدا عقارب الزمن إلى البدايات الأولى للمجلة وما صاحبها من قلق الاستمرار، بالنظر إلى فشل العديد من التجارب السابقة. واعتبر صمويل أن نجاح المجلة واستمرارها إلى اليوم ارتبط بكونها مجلة عربية منبثقة عن المشهد الأدبي العربي ومتابعة له على الدوام، بالإضافة إلى العلاقة المواكبة اليومية بين المشرفين والمترجمين، والتحولات الطارئة على المجتمع الدولي خاصة بعد أحداث شتنبر 2001 وما رافقها من رغبة في التعرف على ثقافات وأدب هذا العربي.


الكاتب : أصيلة: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 22/07/2017