أوراق مهاجر : الهجرة والعربية 16

ترك مونديال روسيا لكرة القدم أجواءً وانطباعا إيجابيا عن الهجرة والمهاجرين بصفة عامة. فقد تألق ابناؤهم او وحاملو الجنسيات المزدوجة بكبريات المنتخبات العالمية، وصنعوا الفرجة بعدد منها ، سواء بالمنتخب الفائز بكاس العالم، والذي لم يتردد عدد كبير من الصحفيين ومنشطي المنتديات الاجتماعية في أن يطلقوا عليه «منتخب افريقيا وفرنسا». وهو تعبير قريب من الواقع. ومن علاقة فرنسا بمستعمراتها القديمة، منتخب بلجيكا هو الآخر كانت له نفس المواصفات بالإضافة إلى منتخب بريطانيا. وهي المنتخبات التي احتلت المربع الأخير، وكان الاستثناء هو كرواتيا باعتبارها بلدا أوربيا فقيرا في أوربا الوسطى، والذي انفصل عن يوغوسلافيا في السنوات الأخيرة ولا يسمح اقتصاده باستقبال هجرة خارجية.
هذه السنة كانت صعبة فيما يخص أوضاع الهجرة، فقد ارتفع عددهم هذه السنة بسبب استمرار النزاعات المسلحة بالشرق الأوسط وافريقيا، وكذلك استمرار الجفاف ببعض المناطق باسيا وافريقيا، مقابل وضع في اوربا تميز بسيطرة أفكار المحافظة والفاشية ووصول بعضها إلى الحكم كما حصل في إيطاليا والنمسا . صورة السفينة الإنسانية «اكواريوس» التي صدمت العالم سفينة تجوب البحر المتوسط ،محملة بالنساء والأطفال والشباب ، رفضت استقبالها عدة بلدان من القارة العجوز: إيطاليا ، مالطا وفرنسا قبل أن تأخذ الحكومة الاشتراكية باسبانيا مبادرة استقبالها، وتنقذ ماء وجه أوربا.
الهجرة اليوم ظاهرة كونية، ولا يمكننا أن نختار من العولمة فقط السلع ونرفض الإنسان.المغرب بدوره اختار الطريق الصحيح، ورغم أنه مازال بلدا مصدرا للكفاءات البشرية ،فإن اقتصاده اليوم في حاجة إلى بعضها سواء من افريقيا أو آسيا.

 

المهاجرون واللغة العربية من بين الإشكالات الكبرى المطروحة بالهجرة، وتعليم اللغة لأبناء المهاجرين هي إحدى القضايا الأساسية التي تشغل بال العائلات بديار المهجر، غير أننا اليوم سوف نتطرق إلى إشكال آخر وهو تأثير العربية على الفرنسية بصفة عامة، سواء عبر التاريخ أو حاليا بفعل الهجرة والاحتكاك اليومي مما يجعل اللغة العربية أو العامية المشتقة منها تؤثر على اللغة الفرنسية وتدخل بانتظام كلمات إلى القاموس الفرنسي. والغرض من هذه الحلقة هو طرح هذه العلاقة بين اللغة العربية والهجرة.
ولفهم هذا الإشكال فتحنا نقاشا مع الأستاذ حسن بنطسيل من جامعة باريس ناتير، وهو متتبع للشأن الفرنسي وكذا للقضايا اللغوية والثقافية بفرنسا حول تأثير اللغة العربية على الفرنسية الذي مازال مستمرا حتى الآن ولم يقتصر على الماضي فقط، وذلك بفعل الهجرة المغربية والمغاربية المهمة بفرنسا، والتي أدخلت العديد من الكلمات إلى قاموس لغة فولتير بسبب الاحتكاك اليومي مما يجعلها اليوم اللغة الثالثة بعد الإنجليزية والإيطالية في إغناء معجم اللغة الفرنسية بالكلمات الجديدة» يقول عالم القاموس جون بغيغو: « الجميع اليوم يعرف التأثير الكبير للغة العربية على الفرنسية لكنه معطى لا تعرفه الأغلبية».
وفي هذا الإطار كتبت مديرة اليونيسكو أودري ازولاي، وهي فرنسية من أصل مغربي من منطقة الصويرة، رسالة مهمة هذه السنة بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية قالت فيها إن «تاريخ اللغة العربية يزخر بالشواهد التي تبين الصلات الكثيرة والوثيقة التي تربطها بعدد من لغات العالم الأخرى، إذ كانت اللغة العربية حافزا على إنتاج المعارف ونشرها، وساعدت على نقل المعارف العلمية والفلسفية اليونانية والرومانية إلى أوربا في عهد النهضة، وأتاحت اللغة العربية الحوار بين الثقافات على طول المسالك البرية والبحرية لطريق الحرير من سواحل الهند إلى القرن الإفريقي». وهذه تعتبر شهادة جميلة من مهاجرة تعكس الدور الذي يلعبه المهاجرون اليوم في إغناء اللغة العربية وإعطائها حقها في شهاداتهم أو عند تحملهم المسؤولية، مضيفة في نفس السياق وفي شهادة جميلة أخرى من مهاجرة ومن رئيسة منظمة عالمية أن «العربية هي ركن من أركان التنوع الثقافي للبشرية، وهي من إحدى اللغات الأكثر انتشارا واستخداما في العالم، إذ يتكلمها يوميا ما يزيد عن 290 مليون نسمة من سكان العالم».
أما بالنسبة لحسن بنطسيل فالسياق المرتبط باللغة العربية صعب حيث صرح قائلا: « سياق مثل الذي نعيشه والذي يشبه اليوم إلى حد كبير ما أسماه هينيغتون «صراع الحضارات»،هو نوع من رد الاعتبار لهذه اللغة وللمتكلمين بها، فالسياق الخاص الذي تعرفه فرنسا منذ العمليات التي أودت بحياة أكثر من 265 فردا في باريس وفي مدينة نيس جنوب فرنسا، أدى إلى التخوف من كل ما هو عربي وزرع نوعا من الرهبة في نفوس المتلقين . لكن المنابر الرسمية لدولة الفرنسية أو المنظمات الدولية مثل منظمة اليونيسكو تستمر في تخليد هذا اليوم للاحتفاء باللغة العربية وهذا يعتبر نوعا من الاحترام لها ولهذه الحضارة. بالإضافة إلى كل ذلك هناك كتاب فرنسي مهم يحتفي باللغة العربية وبدورها في إغناء اللغة الفرنسية، واذا كان هذا الكتاب معروفا في الأوساط الأكاديمية فإن أغلب المهاجرين يجهلون وجوده، ويتعلق الأمر بمؤلَّف « أجدادنا العرب وما تدين به لغتنا إليهم» لجون بيغيغو وهو كتاب أكاديمي بالأساس ولا يدخل في إطار الكتب التي تجتذب أكبر عدد من القراء، لكن ورغم أكاديميته فهو تلميع وتحسين لصورة التاريخ والحضارة العربية كما يسهم أيضا في إقناع الرأي العام بكون ما تتناقله وكالات الإعلام الدولية من عمل إجرامي تقوم به أقليات لا يعتبر معيارا للحضارة العربية التي تبقى مساهمة بشكل كبير في بناء الحضارة الإنسانية والدليل على ذلك هو التلاقح الذي يوجد في علاقتها باللغات الأخرى، وكذا التأثير الذي مارسته اللغة العربية والذي أشار إليه الكتاب الذي ذكرت في سؤالك هو نفس التأثير الذي مارسته على لغات أخرى مثل اللغة الإسبانية،الإنجليزية والألمانية كلما كان هناك احتكاك مع هذه اللغة وشعوبها من تبادل نبيل وهو ما يعكسه هذا التواجد الكبير لمعجمها في باقي اللغات مثل اللغة الفرنسية».مضيفا أن « أغلبية الفرنسيين والعرب اليوم لا يعرفون أن اللغة العربية هي اللغة الثالثة بعد الانجليزية والإيطالية في إغناء معجم اللغة الفرنسية بالكلمات الجديدة كما ينص عليه كتاب جون بغيغو:»ابن ميمون وابن رشد كانوا وراء ترجمة مخطوطات وكتب من الفلسفة اليونانية وهي التي وصلت إلى أوربا ولولا هذه الترجمة العربية ما وصلت هذه المعرفة إلى بلدان مثل إسبانيا وفرنسا وغيرها من البلدان الأوربية، وهو ما يبين لنا أن أية حضارة تتقدم بالانفتاح والتلاقح مع الحضارات الأخرى وليس بالانكماش والانغلاق على الذات. فأي زائر لإسبانيا اليوم يرى المعمار والآثار التي تدل على عظمة هذه الحضارة، والتي يمكن أن تعطي إذا توفرت لها الحرية، معاني كبيرة للقيم الإنسانية، وهي نفس المعاني التي تحمل في طياتها، فالكراهية والعنف الذي نرى اليوم لا يمكن إلصاقه بهذه الحضارة وما نراه اليوم بالعالم العربي هو نتيجة لانتشار الجهل في المنطقة وارتفاع الأرقام القياسية للأمية، وهو الأمر الذي تعكسه كل الأرقام والدراسات الموجودة اليوم في بلد مثل اسبانيا التي ينشر بها من الكتب سنويا أضعاف كل ما ينشره 22 بلدا عربيا مجتمعين. فالأمية والجهل الذي تعيش فيه هذه المنطقة وراء ترسيخ العنف والكراهية بهذه البلدان».
ويضيف حسن بنطسيل أن «اللغة العربية ليست فقط ركنا من أركان التنوع الثقافي للبشرية بل هي وجه من وجوه ما يمكن أن تنتجه هذه البشرية، كالمعلقات العربية التي هي من أهم ما تم إنجازه في مجال الشعر، وما خلفه ابن سينا في مجال الرياضيات، وما قام به الخوارزمي في الفلك والجغرافيا،ودور ابن رشد في تنوير الفكر في الوقت الذي كانت تعيش فيه أوربا عصر الانحطاط والظلمات. إذ في الوقت الذي كانت اللغة العربية تحمل أفكار التنوير كانت أوربا تعيش الظلمات والحروب، و ماقالته مديرة اليونيسكو هو اعتراف ورد اعتبار من العالم لما أسدته هذه اللغة وهذه الحضارة لباقي الحضارات والثقافات العالمية».
ورغم المشاكل التي يعيشها العالم العربي إلا أن مستقبل هذه اللغة وهذه الحضارة مازال كبيرا، وربما هذا الانحطاط الذي تعرفه المنطقة سيكون حافزا للأجيال المقبلة من أجل النهوض بهذه الحضارة ومن أجل أن تلعب هذه البلدان دورها في الحضارة العالمية، والحضور العربي بفرنسا والذي يتكون من الهجرة المغاربية أساس يمكن أن يقوم بهذا الدور المحفز، وهذا يجرنا إلى الحديث عن الكفاءات ، كما تطرقنا إلى ذلك في إحدى الحلقات السابقة.
وحول هذا الحضور العربي بفرنسا يقول حسن بنطسيل إن «الحضور العربي بفرنسا ينتظره مستقبل زاهر وسيكون وسيلة لانتقال مجموعة من المفاهيم الإنسانية الفرنسية التي تحمل مبادئ الإخاء والمحبة وحقوق الإنسان، إذ أن الجاليات العربية، سواء بفرنسا أو باقي أوربا، ومن خلال تعليم أبنائها في هذه البلدان، سوف تخدم نفسها وبلدانها الأصلية وهي لن تعيش هذه القيم الإنسانية فقط بل ستساهم في نقلها إلى بلدانها الأم وهذا ممكن ولكنه لن يتحقق إلا من خلال المثابرة في التعليم ونقل الخبرات والتجارب التي يعيشونها والتي يحصلون عليها من بلدان المهجر إلى البلد الأصلي بالإضافة إلى تشجيع التبادل الاقتصادي والعلمي والثقافي بين بلدان الاستقبال والبلدان الأصلية، وهذا الكلام ليس قولي بل في حوار سابق لي بباريس مع المهدي المنجرة رحمه الله، حيث كنت أجتاز ظروفا صعبة في ذلك الوقت، وكنت في اشتياق لبلدي ولأهلي فقال لي الأستاذ المنجرة آنذاك إن «الإنسان المغربي بصفة خاصة أينما كان يمكن أن يخدم بلده فقط من خلال التمثيل المشرف وإعطاء نظرة حقيقية عن بلده وعن ثقافته». طبعا، كما يقول حسن بنطسيل، «يمكن للمهاجرين أن يلعبوا دورا كبيرا في نقل هذه الحضارة التي ينتمون إليها.


الكاتب : يوسف لهلالي

  

بتاريخ : 20/08/2018

أخبار مرتبطة

غدا، إن لم تعد تحكمنا دول ديمقراطية تضمن مبدأ كونية الحقوق، فثمة احتمال كبير لأن تحل القدرة الشرائية، التي هي

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

لا يمكن إلا أن نلحظ نوعا من بين الذات لدى نبوئيي وادي السيلكون. تابع «بتيرتيال» و»ايلون ماسك» دراستهما، معا، بجامعة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *