أوراق مهاجر : غياب قرار أوروبي موحد في التعاطي مع ملف الهجرة

تطرقنا في هذه السلسلة حول الهجرة، بالإضافة إلى المواضيع الأساسية للهجرة، إلى العديد من القضايا التي تشغل بال المهاجرين والتي تمحورت حول الهجرة والرياضة، والفرحة التي يصنعها أبناء المهاجرين، سواء في بلدان الاستقبال أو البلدان الأصلية للآباء، بعد أن أصبحت العديد من البلدان تعتمد عليهم من أجل التوفر على منتخبات في مستوى عالمي، كما هو حال المغرب وتونس، لكن قصصهم ليست دائما محط إعجاب، ففي بعض البلدان الأوروبية التي يلعبون لصالحها، ورغم أجواء الفرحة التي يصنعونها، إلا أنها تتحول إلى أجواء جد سلبية في حالة الهزيمة، حيث يتم التأكيد على جذورهم غير الأوروبية والتذكير، من طرف رأي عام أوروبي خائف من الهجرة، بأصولهم المهاجرة، ناظرا إليهم كتهديد له ولمجتمعه.
وقد سبق أن تطرقنا في إحدى الحلقات السابقة لقضية مسعود أوزيل وهو أهم أعضاء المنتخب الألماني الذي فاز معه بكاس العالم، لكن الهزيمة الأخيرة التي مُني بها دفعت ببعض الصحف الألمانية إلى التعامل معه بكثير من العنصرية.
إذن فالخوف من الهجرة والأجواء السلبية التي تتولد عن ذلك جعل البلدان الأوروبية تنهج سياسة مرتبكة في هذا المجال، متبعة سياسة شعبوية تسعى إلى الإرضاء الآني لرأي عام محافظ والسير على منواله، رغم أن هذا الشعور مبني على تحليلات خاطئة تطعمها وتشجعها تيارات عنصرية منتشرة على الشبكات العنكبوتية بالدول الغربية، وهو ما يخلق أجواء الخوف وعدم الاستقرار لدى العديد من المهاجرين المقيمين بأوروبا.
ولأهميتها القصوى أصبحت قضية الهجرة تشغل اليوم بال السياسيين بهذه القارة، حيث عقدت بخصوصها في الشهور الأخيرة عدة قمم أوروبية تطرقت لنفس الموضوع، سواء قمة المجلس الأوروبي في شهر يونيو الأخير، أو القمة الفرنسية الإسبانية في يوليوز أو الإسبانية الألمانية في شهر غشت بالأندلس، وتم خلالها اتخاذ تدابير ثنائية في هذا المجال، كما أن مدريد طالبت بضرورة منح إمكانيات للمغرب لمواجهة هذه الظاهرة وإيجاد حلول لها، لكن ورغم هذه اللقاءات المتعددة بين البلدان الأوروبية، إلا أن القرار الموحد عن بروكسيل بقي غائبا، وأصبح كل بلد يأخذ القرار الذي يلائمه ويلائم وضعه السياسي الآني والذي يتعارض أحيانا مع مصالح الدول الأخرى على المدى المتوسط والبعيد، بل إن قضية الهجرة، حسب العديد من السياسيين، أضحت تهدد استمرار الوحدة الأوروبية نفسها، حيث بدأ يتشكل محور في شرق أوروبا تتزعمه المجر وبولونيا ويضم أحزابا حاكمة محافظة ومعادية للهجرة، وتمكنت هذه الحركة حتى الآن من إضعاف مواقف بلدان مؤسسة للاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا وفرنسا، لهذا أصبح الجميع يتكهن اليوم بأن مستقبل هذا الاتحاد أصبح رهينا ليس بالأداء الاقتصادي بل بتدبير ملف الهجرة، وهي مفارقة يعيشها أكبر تجمع سياسي واقتصادي في العالم، وما شجع هذه السياسة المواقف المحافظة والمعادية للهجرة لساكن البيت الأبيض دونالد ترامب، الذي يهدد منذ انتخابه ببناء جدار مع المكسيك وتقوية الجدار الموجود حاليا بين البلدين ونهج سياسة متشددة تجاه الهجرة، وهي السياسة التي من شأنها تقوية التيارات العنصرية والمعادية للأجانب بالبلدان الغربية.
لقد دفعت هذه الوضعية الهجرة الدولية لتعود إلى واجهة العلاقات الدولية، بل إن عددها في نمو مستمر حسب التقرير الأممي الأخير، وذلك راجع لبؤر التوتر التي تعرفها العديد من البلدان بسبب النزاعات السياسية من جهة ومن جهة ثانية بسبب التغييرات التي يعرفها المناخ والتي تجعل السكان يهجرون العديد من المناطق نحو مناطق أخرى أكثر اعتدالا، وهي ظاهرة سوف تستمر حسب العديد من الدارسين لظاهرة الاحتباس الحراري والذين يلاحظون ارتفاعا في درجة الحرارة وتراجعا في المساحات المزروعة بل وصعوبات في إيجاد الماء ببعض المناطق وفيضانات كبيرة بمناطق أخرى.
وهذه الخلافات حول تدبير الهجرة، سواء بمختلف بلدان العالم أو بأوربا، أصبحت تهيمن على العلاقات الدولية، وقد كاد هذا الأمر أن يعصف بعلاقات بلدين صديقين ومؤسسيين للاتحاد الأوروبي وهما إيطاليا وفرنسا، وذلك بسبب تدبير هذا الملف ووصول حكومة شعبوية تعتبر أن الهجرة ملف محوري في سياستها الدولية لذا قررت غلق أبواب موانئها في تناقض واستهتار بالقوانين والأعراف الدولية التي تنص على استقبال البواخر عندما تكون حياة الأشخاص في خطر.
ورغم أن المقاربة السلبية أصبحت طاغية وسط أوروبا ووسط بلدانها المحافظة جدا في تعاملها مع هذا الملف، إلا أن إسبانيا تشكل استثناء منذ وصول رئيس الحكومة الإسبانية الجديد بيدرو سانشيز إلى سدة الحكم باسم الحزب الاشتراكي الإسباني، حيث تغيرت مقاربتها في التعامل مع الهجرة، وتحول هذا البلد من الاعتماد على المقاربة الأمنية لوحدها الى مقاربة أكثر إنسانية، ولم يتردد وزير خارجية اسبانيا جوزيب بوريل في التصريح بأن «أوروبا في حاجة إلى دماء جديدة»، وهو التصريح المتناقض تماما مع ما تعيشه أوروبا التي يسيطر عليها الخطاب الشعبوي، انطلاقا من إيطاليا، النمسا، بولندا،هنغاريا بالإضافة إلى بلدان أخرى لا تحكمها الأحزاب الشعبوية، ولكن تسيطر عليها أفكار شعبوية ومحافظة كما الشأن بالنسبة لفرنسا وألمانيا. من هنا فإن تصريح وزير الخارجية الإسباني يبقى متميزا واستثنائيا.
ورغم كل السلبيات التي ترتبط بظاهرة الهجرة، إلا أن هناك أشكالا إيجابية كثيرة متمثلة في وصول العديد من أبناء المهاجرين المغاربة والمغاربيين إلى قبة البرلمان الفرنسي، وهو ما يعكس دينامية هؤلاء الشباب ومشاركتهم في الحياة السياسية بخلاف آبائهم الذين كانوا يعيشون على هامش المجتمع والذين كانوا يفكرون في العودة إلى البلدان الأصلية رغم أن هذه العودة تظل صعبة التحقيق في الواقع، إذ يستمر الجيل الأول في الإقامة ببلد الاستقبال حتى بعد التقاعد.
وتعتبر المشاركة في الحياة السياسية ظاهرة جديدة يعكسها عدد النواب من أصول غير أوروبية داخل العديد من البرلمانات الأوروبية، سواء بفرنسا بلجيكا وإسبانيا أوغيرها من البلدان الأخرى وكذا وجود وزراء في حكومات أوروبية متعددة خلال السنوات الأخيرة وحتى اليوم، وهذا يعد مؤشرا على استقرار واندماج هؤلاء المهاجرين وأبنائهم في مجتمعات الاستقبال رغم تصاعد موجات العنصرية والأحزاب اليمينية المتطرفة ووصول بعضها إلى السلطة في العديد من البلدان الأوروبية كإيطاليا والنمسا.
ومن بين الإشكالات الكبيرة التي قمنا بتناولها خلال هذه السلسلة الصيفية حول الهجرة المغربية إلى الخارج والهجرة بصفة عامة نذكر قضايا الممارسات الدينية أو الثقافية في البلدان المستقبلة وأحد أكبر إشكالاتها هو تنظيم الإسلام بفرنسا الذي أثار جدلا كبيرا، خاصة بعد قرار الرئيس الفرنسي إعادة تنظيم الإسلام ببلده ودفع شباب من أصول مهاجرة إلى تحمل المسؤولية في هذه المؤسسات، وهو الأمر الذي أثار جدلا بين الرئاسة والمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وهو ما يبين اختلاف المقاربات واختلاف الأجيال في رؤيتها وفي تدبيرها لقضية تنظيم هذه الديانة التي أصبحت ثاني ديانة بفرنسا من حيث عدد الممارسين أو المنتمين إليها، حيث تتحدث الاحصائيات عن 5 ملايين نسمة من أصل 65 مليون فرنسي، وهو عدد مهم وأقلية دينية كبيرة بهذا البلد اللائكي ذي الثقافة الكاثوليكية، لكن فرنسا مازالت لم تتوصل بعد إلى أحسن السبل لتنظيمها ودمجها في المؤسسات الدينية للجمهورية.
كما جرنا الحديث عن الثقافة في هذه السلسلة إلى الحديث عن اللغة العربية أيضا، لكننا لم نتطرق إلى قضية تدريس هذه اللغة بل إلى التلاقح الموجود بينها وبين اللغة الفرنسية، وذلك التأثير الذي مارسته اللغة العربية على الفرنسية منذ قرون في فترة الترجمة إبان القرون الوسطى، وهو تأثير لايزال مستمرا حتى اليوم بفعل تواجد جالية مغربية وعربية مهمة بهذا البلد مما يجعل القاموس الفرنسي حتى الآن يدمج كلمات جديدة قادمة من هذه اللغة التي مازال ينتظرها مستقبل كبير، حسب المختصين في هذا المجال الذين يشتغلون على هذا الموضوع في الجامعات الفرنسية.
ومن أهم القضايا التي عالجناها في هذه السلسلة كذلك قضية الكفاءات المغربية المقيمة بفرنسا، وهي قضية ذات أهمية كبرى بالنسبة للبلد الأصلي، نظرا لدورها الكبير في نقل الخبرات والمعارف وطرق التدبير الجديدة، وهو ما يتطلب من المغرب وضع قوانين وتشريعات تسهل هذا التنقل وهذا التبادل بينه وبين العديد من هذه البلدان التي تضم كفاءات مغربية أو من أصول مغربية في الكثير من المجالات.