إنزال الشعر من الغيم

1
مخطئ من يظن أن الشعر يُكتب بالديناميت، وأنه كي يستمر عليه أن يؤثر في حركة التاريخ. الشعر ليس فيلقا حربيا، وهو لهذا السبب غير قابل للتدمير. نعم، التاريخ يخبرنا أن آلاف الأدباء والشعراء والمثقفين تعرضوا للقتل، لكنه يخبرنا أيضا أن الأدب لم يسحق الطغاة والمستبدين، بل خلدهم وجعلهم ينتمون إلى بلاد الشمس غير الآفلة للخالدين.

2
الشعر منظرٌ طبيعيّ وطريقة ما في الاعتناء بالحديقة أو الأغراس البيتية.. لكنه حين يتحول إلى وعي «محسوس» بالألم (قال الفرزدق: قلع ضرس أهون علي من قول بيت شعر)، فسنكون أمام «سقوط حر» في الجحيم..

3
الشاعر قبل كل شيء (وبعده) هو تنفس بالكلمات المتدحرجة من الأعالي. حياة أخرى تطفح بتلك الأقدام الحافية التي تتسلق جبلا أجرد، لأنها تؤمن بأن وراءه كل أمجاد الماء الزلال.
إنه ذلك الطموح المُلتبس الذي يعتري «طباخ السلطان» لاختراع حساء «بذرة الخلود»، لا لـ «تدوم نفسه»، بل ليرغم الفصول المتعاقبة على تجاهل جسد السلطان (الشعر). وفوق كل ذلك، فالشاعر «بائع بطاقات يانصيب خاسرة سلفًا»، لأنه يدرك أكثر من غيره أنه يكتب «دفاتر الخسران»، حتى وإن كان المعنى أنيقا وساحرا ويجبر الأرض على التوقف عن الدوران. إنه بتعبير دقيق يكتب «الأرشيف» و«يشوه» الأحلام ويضع لها وجها ويَدَيْن وذاكرة.

4
الشعر أصبح على الفايسبوك مثل خبز الإعاشة.. يؤكل فاسدا ومغشوشا ومملوءا بالحصى. وعليك أن تبحث كثيرا لتقرأ قصيدة تجعلك تنفعل وتضيء وتتحول، وترى السواقي تنهض من غفوتها لتمدد رجليها أمام حقل أو شجرة.. من حسن الحظ أن بيننا شعراء حسهم الفني شاهق، ويكتبون كالمحمومين..

5
لا يمكن التسلل إلى الشعر من جهة ضيقة، فهو أرحب من إغفاءة تحت ضرع ضخم ينبت في سهل أخضر فسيح؛ وأغزر من نهر أزرق يتدفق من السماء، ليعبئ الأرض بالموسيقى ويعجنها بيديه الفسيحتين أشجارا ومروجا وأضواء.
للشعر رائحة القرنفل الأسود المنثور في أدراج مغارة مظلمة وباردة؛ وله أسرار الأرواح التي تبحث، بكل الأسلحة المتاحة، عن رحيق مصفد بعواصف الكلام؛ وله جسد من الكريستال اللامع الذي يليق بالطرق الجديدة لإماطة اللثام عن سواقي الانفعال اللذيذ؛ وله سرير معبأ بالليل المديد ينام فوقه جرح لا يتوقف عن الوثب العالي، يتبرع كل يوم بعشرة سنتمترات من دمه الحار، ويتخفف من كل اهتزاز يابس، لأنه يدرك في قرارة نفسه أنه كوكب مذبوح.
الشاعر ليس حذاء لامعا أو ربطة عنق باهظة. كما أنه أيضا ليس بنطلونا ممزقا، ولا شعرا أشعث، ولا قميصا مهشم الأزرار. والشاعر ليس إقامة دائمة في زجاجة نبيذ، ولا اغتسالا أبديا في الغيم الجبلي المُعْشِب.

6
الشعر نبيذ الأرواح، وهو تلك الموسيقى التي تكتب الأرض بشفرة حادة، أحدّ من جناح زورق يضع عنقه رهن إشارة الماء..

7
الشاعر ليس نبيا (وما ينبغي له)؛ إنه جسد تظلله الاستعارات، وتاريخ حافل من الانغماس في حرارة الحواس. لا علاقة للشاعر بالسماء، بل له ارتباط وثيق بالجمر الذي يصهره حتى يغتسل ويشف ويرى ما لا يراه الآخرون. إنه الرائي الذي لا تستهويه الأجنحة، بل يضاهي عناقيد القوافي وهي تطير «بين القوس والوتر»، دون أن يكون منشغلا بالأتباع والمريدين والمؤمنين. لا جنة للشاعر. يعبر بقايا الأبدية بنعال من ريح ويستحم بأصوات لا يسمعها سواه. كأنه يمشي تحت شمس باردة، يناجي الأشياء ويحرضها على الارتطام ببعضها البعض، لتلد صورا أكثر لمعانا والتهابا.
الشاعر لا يدعي أنه يسمع أصوات الآلهة، بل يصر على أنه يصطاد كلمات تنزلق من بئر نفسه التي تضج بالأقمار والسحب والرماد، ثم يحولها إلى نهر من دمع متدفق، أو إلى حربة فولاذية تخترق الخاصرة، أو إلى مهرجان من المرافئ التي يتحيز إليها العشاق المأخوذون بالأساور والأقراط والزنود، أو إلى بحيرة من القُبل الضارية.. ولهذا، فالشاعر ليس شيخ طريقة، وليس صاحب مذهب، وليس مهتما بـ «تربية الجواسيس «.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 15/03/2019