الأخلاق والحرب .. خارج علبة التفكير!

ليس صحيحا دائما أن نجعل نظرية الأخلاق أو الفضائل موكولة لأن تدعم بنظرية أخرى عن الصالح أو الخير، إذ الواجب الانتقال للبحث عن الأفعال المفضية للسعادة الإنسانية. لقد حافظ أرسطو على هذه المبدئية الأخلاقية وجعلها قطبا وسطيا في معاملات الناس وأحوالهم.
لكن دعونا نعتقد افتراضا أن الأخلاق تشكل جزءا من ممارسة الفضيلة، وأن قضية الاختيار كما يقول أرسطو هي سمة شخصية تعبر عن نفسها عن طريق اختيار يكمن في وسط خاص بنا، فلماذا ينفصل الأشخاص المنذورون لهذا الاختيار عن التذبذب بين النقيضين المتعارضين في العملية إياها؟.
سؤال أخلاقي كبير يستدعي منا تأطيرا فلسفيا وأدبيا راقيا من أجل معرفة حدود الأخلاق وطريق الفضيلة. لكن قبل ذلك، نحن منشغلون بالوعي خارج باراديغم الأخلاق، بما هي اكتمال للصورة المثالية للكالفينية التي تحدث عنها ماكس فيبر في كتابه الشهير «الأخلاق وروح الرأسمالية» بنظرها إلى الفرد والأخلاق على أنها علاقة بدون صراع، وأن ما يحكمها ليس الاختلاف بين الفضائل أو استعمالها في الغايات غير المبررة، بل الصفات الميولية الجامحة التي تتعمد الخروج عن البدائل الممكنة واتخاذ القرارات المتصلة بالتفكير في الحرب وإدارتها.
ويقع الالتباس بين اعتبار الأخلاقيات مذهبا عقلانيا ناصع البيان وعكس ذلك تماما، أي أنها غير عقلانية لا مقيدة بحقائق ولا وقائع واضحة، وهو أمر يسهم في « تقويض ثقتنا في قيمنا الأخلاقية وجعلنا لا نؤمن بالحكمة الأخلاقية أو نشعر بقدرتنا على تدريس الأخلاقيات» بحسب ديفيد فيشر.
إننا بإزاء طرح السؤال نفسه عن فداحة التفكير في ما آلت إليه أخلاق الحروب وسياسة النكوص المعتمة التي يتخذها القادة السياسيون والعسكريون في مواقع لا أخلاقية، أو لا إنسانية؟
جزء كبير من طريق الفضيلة الذي قدمنا بعض خطوطه الأولية لا يسع المطلق في المفهوم البراغماتي الحربي، ولا أخلاق الحرب ذاتها، إذا تعلق الأمر بالجنوح عكس تيار مبدئية الأخلاق واستقرار الإنسانية.
لكن بالموازاة هناك دليل جديد لقراءة نظريات الأخلاق المتصلة بأشكال الحروب الجديدة التي لا تريق الدماء ولا تحتشد في الجغرافيا، ولا تصفي الأنظمة غير الممتثلة. يتصف هذا الشكل الجديد من الحروب بالمفهوم الجديد للاستعمار الهوياتي والثقافي. وهو منحى يروم تقليل خسائر الأخلاق ويوسع من عمليات ضبط السقوف القيمية التي علق عليها الروائي البريطاني جون باينس في إحدى رواياته عن الفضيلة العسكرية من كونها « صفة للعقل والروح تجمع بين الشجاعة والانضباط الذاتي والمثابرة».
ولا أدري حقيقة ما وجه الشبه في هذه النظرية المتآمرة على حد يضعنا أحيانا أمام شخصية غربية منفصمة، غير واعية ومنشغلة بالقشور الفلسفية التي تعقل الوجه المغلف من « التفكير في الأخلاق» كسلوك بشري وتغييب انتقاله للسلوك في الظاهر.
لقد قوضت الحروب على اختلاف أسبابها ومسبباتها كل الأماني الأخلاقية وبواعثها التنظيرية والحماسية، حتى أضحت غولا جائرا، يجد مسوغاته السادية في قتل الأبرياء عن إدراك كامل بحجم الفداحة المرتكبة ضد مدنيين عزل! ولا يجد مانعا من التباهي بانتصار ناتج عن قوة عسكرية بلبوس أخلاقي هلامي؟
تحدث ديفيد فيشر في كتابه «الأخلاقيات والحرب» عن التمييز الأخلاقي، معتبرا أن ما يقوم على النية يخالف ما ينبني على سبيل التوقع، وضرب مثلا بردة فعل بطل رواية «البحر القاسي» للروائي نيكولا مونسيرات، قائد طراد بحري انجليزي خلال الحرب العالمية الثاني، حيث كانت مهمته حماية أسطول من السفن البحرية تنقل مدنيين. تعرض الأسطول لهجوم من قبل غواصة ألمانية وغرقت عدد من سفنه، بينما يحاول الناجون من أطقمها السباحة في البحر. تمثلت الوسيلة الوحيدة المتاحة للقائد البريطاني لحماية السفن المتبقية في توجيه قنبلة من عمق لتدمير الغواصة الألمانية!
بينما نحن لا نتفاعل مع القراءة في انتقاء نموذج عدواني لا أخلاقي لحقيقة تحديد مفهوم التمييز الأخلاقي في العمليات الحربية، يجب أن نميز بين ما هو أخلاقي ولا أخلاقي. والتمييز هنا ينسحب على وحدة المفهوم الأخلاقي على إطلاقه، باعتبار التمييز في الحالة التي جاءت على لسان الراوي تبتعد عن عشرات ومئات حالات الحرب اللاأخلاقية التي يمارسها الغرب على دول ومناطق كثيرة في العالم؟!
والغريب أن حالات في التمييز إياه لا تستسيغ الاعتقاد الجازم بعدالة قضية الحرب، مهما كانت قوة المبررات الدافعة إلى تحققها. والأخلاق هنا تنجلي في كشف الوجه القبيح للحرب والإصغاء للعقل الأخلاقي الرافض للعدوان وإراقة الدماء وقتل الأبرياء.

* إعلامي وشاعر


الكاتب : د . مصطفى غلمان*

  

بتاريخ : 20/04/2018

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *