البعد الغنائي في تجربة الشاعر أحمد الجوماري(1)

مُدْخَلٌ تَأْصِيلِيّ:

تحتاج القصيدة المغربية المعاصرة عودة متيقّظة لإثارة أسئلة الشعر التي أمْسَتْ مغيّبة في المناولات النقدية، في لحظتنا التاريخية، إذ لايمكن فهم الحاضر واستشراف المستقبل دون الوعي بالنتاج السابق، وعليه فالاشتغال عليه يغدو ضرورة هوياتية وحضارية، فاستيعاب مسار القصيدة المغربية، يستدعي الحفْر والتّنقيب عمّا تزخر به هذه القصيدة، لأن وجودها مرتبط بموجود هو خالقها ومُشَكِّل كينونتها، تلك سيرة الشعر المغربي المعاصر. الذي شهد التحوّل والتغيّر جرّاء سياقات مختلفة كانت خلْف خلق شكلها وهويتها النصية، ولعلّ ستينيات القرن الماضي تمثّل الإرهاصات الأولى لميلاد نصّ منسلخ عن جبّة الفقيه والعالم،ومعلن عن شعرية مَدْمَكُها أصالة التجربة وعمق الرؤى البانية لخطابها الشعري .
ومن بين رواد القصيدة المغربية الذين شكّلوا ذاكرتنا الشعرية، وأسهموا في تأسيس خطاب شعري مفعم بحرارة المرحلة التاريخية، مرحلة الأحلام والمد القومي العربي؛ والرغبة في التخفّف من أثقال التخلف لمعانقة نهضة حقيقية متولّدة من رحم الذات بدل استيرادها من الآخر، فجاء صوت الشعراء الأوائل معبّرا عن هذا الحلم والمشروع، فأنتج تجارب شعرية انخرطت بشعرها في معمعان اللحظة، ومن بين هذه الأصوات الشعرية الشاعر أحمد الجوماري الذي ينتمي إلى القصيدة ذات « المرجع الساخن الذي اغتذت القصيدة المغربية من مرارته وارتوت من ملوحته، في هذه العقود الثلاثة. وكلما تدرجنا مع هذه العقود صعدا، ازدادت نسبة المرارة و الملوحة، وأصبح للقصيدة المغربية طعم حريف ولاسع»(2)، والواضح، من خلال رأي نجيب العوفي، يتبين أن الشعر المغربي الستيني وليد صيرورة تاريخية مليئة بالكثير من المعضلات سواء الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية، لذا هيمن صدى الشعر على بعض التجارب الشعرية وفرض عليها مناحي تعبيرية ملتصقة بصوت الواقع.
(1) في بلاغة التجربة:

ولاغرو من القول إن الشاعر أحمد الجوماري من الأصوات الشعرية المؤسسة للقصيدة المغربية المعاصرة، التي اتسمت برؤية واضحة للكتابة الشعرية تتمثل في حتمية الانخراط في المجتمع والسعي نحو التعبير عنه وتشكيله وفق متخيّل يُصْغي لرجّات الواقع وانعطافاته ، ولا ترتضي الإيغال في الالتباس . فالشاعر الجوماري ظل منغمسا في أتون المجتمع معبّرا عنه ، ومرتبطا بأسئلته المضنية والمؤرقة، لذا فبلاغة هذه التجربة تتجلى في قدرتها على صياغة ونسج الواقع في قوالب شعرية عمادها الخروج عن نمطية التقليد وشحنها بدينامية الإيقاع وعمق زاوية النظر المنطلَق منها و الاتكاء على ثقافة الشعر المتجذّرة، و في استطاعة الشاعر تذويت التاريخ ، من خلال، كتابة إبداعية تجعل التاريخ الفردي والجماعي في صُلْب التجربة الشعرية، وإعطاء الجمالي والوظيفي قيمته، فهي من جهة حاضنة لانشغالات الذات ورؤاها، وصائغة الواقع بلغة شعرية قادرة على التأثير في ذائقة المتلقي.
وما يشفع لتجربة الجوماري الشعرية أن القصيدة المغربية تعيش طفولتها الأولى، و لم تتشكل كينونتها إلا في منتصف الستينيات، هذه المرحلة المدموغة بمناخ سياسي متوتر، و تخلف اجتماعي وجموح ثقافي ومعرفي، يروم التخلص من آثار المرحلة الاستعمارية، والحالم بالتحرر والانعتاق والتغيير، ففي ظل هذه الحيثيات انبثق صوت الشاعر الجوماري مبحوحا، صارخا، معاتبا، و رافضا لواقع الحال المتكلس والمتصلب، والغارق في الجهل والصراع بين الأمل والألم. وهي تجربة تلبي نداء الذات بتاريخها الشخصي، وسيرتها الحياتية، ووجودها من جهة، ومن جهة ثانية تصغي لنداء الواقع المثخن بالجروح، والمكلّل بالخيبات، والحالم بأفق مغاير ومخالف للكائن المجتمعي، وعليه « فقيمة النص الأدبي تقوم على علاقة هذا النص بمراجعه التي يحيل عليها. وهذه العلاقة بين النص وما يحيل عليه تنهض عند القارئ على مستوى المتخيل والذاكرة». وبالتالي فالإطار الخارجي لهذه التجربة الشعرية جليّ في النص الشعري كمرآة عاكسة لما يمور به من انعطافات، وما يصبو إليه من تحقيق مجتمع تسوده العدالة الوجودية، ولا غرابة في تجربة الجوماري الصوت الشعري الذي تصدح كتاباته الإبداعية ببلاغة الواقع، وتغنّي أمانيه وتعانق استشرافاته،فجاء شعره تعبيرا عن هذه الرغبة، وإفرازا منطقيا للسياق العام المُنْتِج لفكر وثقافة مَحْتِدُهَا الإنسان. إضافة إلى أن الكتابة الشعرية عنده ظلَّت مشدودة إلى نداء المجتمع، وبهذا المعنى – كما يقول رولان بارت- « أخلاق الشكل، هي اختيار المجال الاجتماعي الذي يقرّر فيه الكاتب أن يُمَوضع داخله لغته « (3) وبالتالي فعمق التجربة من عمق الوعي بجدوى اللغة في تشكيل خطاب يتماهى مع صوت الواقع تماهيا نلمس فيه تجذر الذات في أرض المجتمع، وتلك سجية الشعراء المؤمنين بأحقية الإنسان في الشعور بالكينونة والوجود. وهذه التجربة الشعرية، قدْ تخلّقت من رحم سيرورة شعرية ميزتها الإبدال الشعري الناتج عن « تغيير الذائقة الشعرية العربية التي سمحت بظهور شكل شعري جديد لا يعيش على الهامش الشعري التقليدي، بل يعيش داخل التجربة الشعرية المعاصرة وتداخلاتها وتشابكاتها مع لحظات الوجع الإنساني، وتخاطب الروح الإنسانية عبر الفني والجمالي» (4)

(2) اَلْغِنَائِيةُ الذَّاتِيةُ
فِي لُبُوسٍ دْرَامِيّ :

إن ما نرمي إليه من هاته العنونة يدخل في إطار التصور المؤطر لقراءتنا، ويعتبر أن القصيدة عند الجوماري عبارة عن مرثية ذاتية مجتمعية ذات نفَس كارثي، ورؤية غارقة في سوداوية عمياء، تبرز حقيقة الذات وهي تواجه مصيرها في واقع مظلم، دامس، داكن، تنتفي فيه أيّة كوة، عَبْرَهَا، تُعلن الذات حقيقة وجوها، لكنها، في جوهرها، تعزف كورال السقوط والهزيمة، والشللية على آلات اللغة المفلولة والعرجاء الإيقاع، الأمر الذي يشعر معه قارئ التجربة بإحساس مقرف، حيث معالم الغثيان تبدو جلية سواء في الصور الشعرية المغدقة في سوداوية موجعة موثيرة، وهذا ما أوصل هذا المنحى الكارثي إلى الباب المسدود، ومن تمّ الاصطدام مع بؤس العالم وقتامته، وعليه فالذات تشكل بؤرة هذا الكورال الجنائزي، هي ذات لاقدرة لها على مواجهة مصيرها في وجود يلعق دمه ويبصق آلامه، عالم نتن موبوء بالموت، ومطوّق بالعدمية الموغلة في اللايقين.فالسؤال المقلق يشرع عوالم شعرية تنعدم فيها الحياة حيث تتساءل الذات بلغة إنشائية طلبية « لماذا أراني أمدد في تابوت الكأس/ فيه أشم احتراق عبير المحبة؟» مما يزكّي فجائعيتها ومآلها؛ فالألفاظ الموظفة تعبير صادح بهذه الغنائية الطاغية على الخطاب الشعري ذات الصبغة الدرامية.
لكن لابد من تسليط الضوءعلى هذا المصطلح الشائع في الأدبيات النقدية، والمستقى من التقسيم الثلاثي الذي وضعه أرسطو للأنواع الأدبية ملحمي، تراجيدي، غنائي، مما يجعلنا نتجاوز التحديد الذي حصر فيه المصطلح المتمثل في التعبير عن الوجدان أي العاطفة؛ إلى دلالة أوسع ترتبط بكل ما يجعل الذات الشاعرة متواشجة مع انشغالات الذات الجماعية، لكن الشاعر يعجن الوجدان بهموم المجتمع ، ليخلق لنا مستويات في التعبير تؤكد على تلك الصلة الوثيقة بين آلام وآمال الإنسان، وأحمد الجوماري تمكّن من تجذير علاقته بالواقع، لأن الكتابة تضفي «الموضوعية» على «الأنا» تدرجها في سياق التاريخ، وتقدّم لنا التاريخ «مذوتا» والذات موضع. من هنا تغدو الكتابة، عند بارت، مُلتقى للغة والإيديولوجيا، للذات المشتهية التاريخ الموضوعي(5)، وهذا ما سعى إليه الشاعر حيث يشرع عمله الشعري «أشعار في الحب والموت» بقصيدة عنوانها رُكّب بصيغة استفهامية تثير الكثير من القراءات و التآويل، ذلك أن ثنائية الحضور والغياب حاضرة تشوبها ملامح الخيبة والضياع ، فهذه «اللماذا» تشكّل مدخلا حقيقيا لتبئير هذه المسحة الغنائية، فالأسلوب الاستفهامي دليل على الحسرة والشعور بالاستلاب الوجوي، والذات ممدّدة في تابوت الكأس وعبير المحبة مصاب بالاحتراق و رياح الجنوب محمّلةبالقتل والأسر كتجسيد لصراع الذات في الحياة مع الموت، فهذه التراجيدية الممزوجة بالغنائية منحت للخطاب الشعري رؤية ملتبسة للذات والواقع. هذا الالتباس الذي يعتور الرؤية منبثق من المفارقة بين واقع جديد محلوم به و واقع كائن مرفوض، واقع مطوق برياح الجنوب القاتلة، فهذا الملفوظ اللغوي، ووفق تصور تأويلي، يحمل النقيض فالرياح لها دلالة إيجابية في الثقافة العربية ، المتمثلة في الخصب والحياة، في حين أن لفظ الجنوب يحيل إلى ما هو سلبي أي إحالة ضمنية على الصحراء وما تحمله من معنى اللاحياة، وفي هذا تأكيد على وضع معكوس في الرؤية للحقيقة، فالخطاب الشعري مشحون بالتناقض بين ذات راغبة في مرغوب، وواقع محبِط ومُحبَط، فالزمن حالك، والمكان مقاصل، واللاقيم عنوان المرحلة، والكينونة مهدّدة في وجودها، أليس هذا تعبيرا عن حالة اليتم والضياع والتيه التي تتخبط فيها الذات الشاعرة، و الحالمة بعالم النور، لكن النور تمت سرقته من مقل الأبرياء يقول الشاعر: ( أيا سارق النور من أعين الإخوة/ أيا نائر الحقد، والرعب، والجوع في الوطن/ متى ترفع الظلم عنا/ فلم يبق في جحر أكواخنا ما نقدم/ إلا عيون جياع( هكذا يعزف الشاعر نشيده الجنائزي على آلة الألم والتفجّع بسبب ما يتعرض له المجتمع من نهب من لدن لصوص الحياة وقتلها؛ ومغتصبي اللغة في أفواه الجميع، ويؤكّد على « صوت الشاعر الذاتي وغنائيته المسرفة في العواطف» (6)
إن الوعي الشعري الذي يشكّل إطارا مرجعيا للكتابة الشعرية لدى الجوماري الكامن في رؤيته الخاصة لمفهوم الشعر، فالشعر عنده إذا لم يلتحم بالكائن والكينونة لا يعتدّبه، خصوصا في ظل المد القومي العربي والفكر الماركسي، وأدب الالتزام -كما نظر إليه كل من سارتر وغرامشي- فمهمة المثقف بصفة عامة، والشاعر خاصة هي التعبير عن الواقع بلغة تمس جوهر الإنسان، وعليه فالجوماري يمكن عدّه شاعر اعضويا، لأن كتاباته في تلك الفترة الحامية بأسئلتها الحارقة ومشروعها المجتمعي المحلوم به تنبض بالالتزام، لذا نجده صوت المجتمع الرازح تحت نير الجهل والتخلف والظلم والاستغلال مهيمنا على الخطاب يقول : ( اسودّت دماء الحنين/ وزلزل حقد رهيب رؤاي/ وأحرقت الذكريات الحبالى/ حروف رسائل كنا نعانق أحرفها في حنان/ رماد اللقاء هنا…/ في عروقي تلطخ بالندم المستفيق/ وروعة قبلاتنا الباردة/ جحيم يعض بأنيابه الدامية/ ليالي الصفاء) فالعالم المشيَّد معالمه سوداوية، وحالكة في ظل رؤية مرتبكة وغير واضحة، ولعل استعارة المقول الشعري « جحيم يعض بأنيابه الدامية ليالي الصفاء» يحيل على عالم الغابة حيث التوحّش ميزته .لذا نجدالشاعر يكتب وجعه بلغة الألم والمكابدة.
والقصيدة عند الجوماري ذات بؤرة مأساوية تنحت شعريتها من لغة تفيض بالاستعارات والمجازات والكنايات التي تشحن التجربة حرارة وإبداعية، والمتأمّل في هذه الصور الشعرية (شاحبا يجتر في صمت مرير رعب السؤال/ لمحنا على السطح ألف غراب يمزق وجه الربيع الضحوك بلعناته الحاقدة/ أكلت الفراغ، شربت صقيع السأم/ وعنّبت عريشة الندم/ ألعق الجراح/ ويداي حبل من دماء/ اللحن الذي زرع النور في أحزان المساء…) فالأساليب المجازية وما ينبثق منها من تعابير أخرى أسهمت في تخصيب الخطاب الشعري، بلغة انزياحية وسّعت الدلالات وتركت المعنى مشرعا على اللانهائي، لذاابتغى الشاعر الجوماري تفادي السقوط في لغة تغذي خيالات المتلقي أثناء فعل القراءة لأنها « قادرة على تصوير الأحاسيس الغائرة، وانتشالها، وتجسيدها تجسيدا يكشف عن ماهيتها وكنهها بشكل يجعلنا نتفاعل تفاعلا عميقا بما تنضوي عليه، فهي بذلك أداة توصيل جيدة تصور ما يحدث في صدر الشاعر وتنقله إلى المتلقين بشكل مؤثر»(7)، فالتخييل الشعري مصدره الصورة الشعرية التي تؤدي وظيفة جمالية ذات غايات ليست تزيينية، وإنما ذات صبغة منتجة للخطاب الشعري، و عليه فتجربة الجوماري لا تخرج عن هذا المسعى، فما تقدمه، هذه التجربة، من صور تعتمد الانزياح سبيلا، تمثل جوهر التجربة « تمنح القارئ اتساعا في الخيال، وقدرة على الإثارة الحسية والعقلية في آن واحد»(8) يقول الشاعر بلغة تنزُّ بدم الحيرة والتساؤل : ( إلى أين أيتها الخيول الجامحة/ جئناك من زمن النبوءات الكاذبة/ جئناك من رحم الفصول الفاجرة/ جئناك يمكن أن نقول: بدموع طهر/ وكنز محبة، وحلم براءة متوسلة/ جئناك تدفعنا إليك/ روائح النعناع، ريح البحر، عشب البحر، وهج العشق، أغنية الرحيل/ إلى شواطئ، ضمّخت حلم النوارس/ والنسور…) فاللغة الشعرية جامحة بمجازات تعكس واقع الذات الملتبس بالكذب والفجور في مقابل لغة تتزيا الطهر والمحبة والأحلام البريئة ، هنا مكمن المفارقة بين عالمين تمّ تشكيلهما في صور مدهشة ومربكة، وهنا تتجلى قدرة الشاعر الجوماري على تشييد عوالم شعرية نابضة بحياتين حياة الشاعر وحياة الشارع/ الواقع.

(3) تَسْرِيدُ الشِّعْر :

لا غرو من التأكيد على أن ما يشفع للشاعر الجوماري شعريته قدرته الخارقة على المزج بين لغة إيحائية وأخرى تأخذ من السرد بعض سماته، وهذا ما جعل تجربته تنطبع بأسلوب السرد لجعل المتلقي يندغم مع النص الشعري، والسبب في هذا الطابع السردي في تجربة الجوماري الشعرية يكمن في انفتاح الأنواع الأدبية على بعضها البعض، الأمر الذي أفضى إلى تجسير صلات النصوص الإبداعية واحتواء بعضها مميزات الآخر، هذا التداخل أسهم في تحقيق درامية النص الشعري الذي لا يمكنه الاتصاف بهذا الملمح « مالم تتمثل وراءه أو فيه العناصر الأساسية التي لا تتحقق الدراما بدونها، وأعني بذلك الإنسان والصراع وتناقضات الحياة، فالإنسان والصراع وتناقضات الحياة هي العناصر الأساسية لكل قصيدة لها هذا الطابع الدرامي» (9)، وديوان « أشعار الحب والموت» زاخر بهذا الملمح الدرامي الناجم عن تفاعل العناصر المذكورة سلفا في قصائده الديوان، ومنها قصيدة ( حكاية صديق قديم) التي يفصح عنوانها عن غلبة جانب السرد عليها يقول:( أذكره من ندبة سوداء، كانت كالوسام/ على جبينه تضيئ/ تذهلني رؤيتها، كانت تهز خافقي/ فيولد الربيع في عيني،، يومض البريق، وفي دمي يعربد الحريق …. كان الجبين ما أزال أذكر/ يطاول السحاب، يرنو النجوم، كانت فيه كبرياء/ حدثني يوما،، وكان دائما حديثه حزينا / عن الأشراف الذين يقتلون غيلة…) والقصيدة بأكملها تسير على منوالية سردية تخترق بنية القصيدة،و تكشف عن تشظي الذات الشاعرة وصراع الصديق القديم مع واقع القتل والاغتيالات والخيبات، ممّا حقّق « درجة عالية من الحركية والفاعلية والحضور الشعري الذي يمنح النص شكلا عضويا متماسكا، وبنية أدائية وتعبيرية واضحة(10) ، وقصيدة (رأس شاعر يسقط) هي الأخرى بُنِيَتْ على نسق حكاية تتحدث عن شاعر يَقُصُّ حُلما رآه في منامه يَخُصُّ الخليفة ، فقتله، فدرامية المشاهد الشعرية اتّسمَت بإيقاع غنائي كارثي فجائعي ، فسقوط رأس الشاعر هو إعلان عن قتل اللغة والخيال والحلم ، وتزكية للسيف رمز السلطة الاستبداد، وشتان بين اللغة والسيف، وتلك قصة أخرى. ثم قصيدة ( يوميات تبحث عن فجر) يقول: ( منكفئا على جبينه الجريح/ رأيته يموت/ ذات صباح أخضر، قديم،/ رأيته يموت/ وحوله رجال، كانوا غاضبين/ يحدقون في نزيف ألف ثقب يحرق الجريح…) فالنّفَس القصصي له سطوة على القصيدة تفحم المتلقي في عالم متخيّل تحضر فيه كل مقومات السرد من أحداث وفواعل سردية و زمان ومكان، فتحول فضاء القصيدة إلى مسرح لتجسيد موت البطل، ومن هنا تبرز حنكة الشاعر في تحويل الشعري إلى سردي مما يعمّق وعي الشاعر ويزيد النسيج الشعري متانة، كمااستلهم الشاعر تقنيات الكتابة السردية كالتصوير المشهدي واللقطة الشعرية للتعبير عن « القلق الوجودي والكوني والإنساني العميق الذي بدأ الشاعر يحمله، وأن عملية إبداع قيم إنسانية جديدة يخلق بمقتضاها عالما غريبا عن الواقع «(11)، وتبئير الوعي بقيمة هاته الآليات في تماسك البناء الشعري، يقول بلغة تصويرية تشحن الخطاب الشعري بأبعاد جديدة يقول: ( وذات مساء/ وكان حزينا تدثّر بالمطر الغاضب/ لمحنا على السطح ألف غراب/ يمزق وجه الربيع بلعناته الحاقدة…) فهذه الملامح السردية غدت» تمارس حضورها وحركتها في بنية النص».(12)

مُخْرَجٌ تَأْوِيلِيٌّ:

إن الشعر لم يعد يعتمد على الجانب الزخرفي، في الشعر العربي المعاصر، وإنما أصبح يؤدي وظيفة أخرى تتمثل « في كونه تشكيلا جماليا باللغة إلى جانب كونه نشاطا إنسانيا يعكس حركة واقع اجتماعي تاريخي محدّد عكسا خاصا» (13) ولعل هذا ما قام به الشاعر أحمد الجوماري، من خلال ديوانه، إذ استغل كل الممكنات الأسلوبية لضخ تجربته بغنائية درامية زادت من تفخيخ الخطاب الشعري وتحويله إلى عوالم متخيَّلة منسوجة برؤية عميقة هاجسها الأول والأخير الانغماس فيما هو ذاتي بتواشج مع قضايا المجتمع وانشغالاته.

المراجع والمصادر:

* (1) أحمد الجوماري: أشعار الحب والموت (ديوان شعري) ،دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ( د،ت). * (2) نجيب العوفي: ظواهر نصية،عيون المقالات، الدار البيضاء،ط1، 1992،ص20
* (3) رولان بارت: الدرجة الصفر في الكتابة،ترجمة محمد برادة،الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط، المغرب، ط3،1985،ص13. * (4) د. محمود جابر عباس: قراءة في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح، الملامح السردية في شعره، مجلة عالم الفكر ، مج 32، ع2، أكتوبر/دسمبر، 200. * (5) رولان بارت: درجة الصفر في الكتابة، ترجمة محمد برادة، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط، المغرب،ط3،1985، ص 9. * (6) د. محود جابر عباس: قراءة في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح،( مصدر مذكور)، ص 53.
* (7) عبد القاهر الجرجاني : أسرار البلاغة، تحقيق محمود شاكر، دار المدني، القاهرة، 1991،ص 20. – * (8) أحمد الصغير: تداخلات الصورة وانزياحاتها في شعر الحداثة،مجلة علامات في النقد، مج18، الجزء 71، النادي الأدبي ، جدة، نوفمبر 2010،ص 229. * (9) العربي الحمداوي: شعرية القصيدة الوجدانية في المغرب، الدار العالمية للكتاب، ط1، 1998، ص 27. – * (10) د. محمود جابر عباس: قراءة في تجربة عبد العزيز المقالح، مصدر مذكور، ص 50. * (11) نفسه،ص55
* (12) عبد الناصر هلال: آليات السرد في الشعر العربي المعاصر، مركز الحضارة العربيى، القاهرة، ط1، 2006،ص 10. – *(13) عبد المنعم تليمة: نظرية الأدب، دار الثقافة، القاهرة، 1973، ص120.


الكاتب : صالح لبرين

  

بتاريخ : 22/11/2019

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *