التحديث القسري في العالم العربي

 

عندما نتعامل مع متغيرات التاريخ العربي المعاصر بلغة وضعية، ونحاول تشخيص معطياته دون مواقف وأحكام قبلية، فإن الوقائع والأحداث تتخذ مواصفات تختلف عن تلك التي يمكن أن تتخذها في حال المقاربة المسنُودَة بمواقف لا تاريخية. وبناء على روح هذا المبدأ العام، يتحول تاريخنا المعاصر بمختلف إشكالاته في الفكر والسياسة والمجتمع والاقتصاد، إلى محصلة تتداخل فيها مؤشرات مركَّبة ومتناقضة، مؤشرات داخلية متصلة بإيقاع التحول التاريخي البطيء، الذي شكل سمة ملازمة لأزمنة ما يعرف في الكتابة التاريخية العربية «بزمن الانحطاط»، ومؤشرات خارجية مرتبطة بآليات الصراع العالمي كما تبلورت ملامحه في سياق تطور نمط الإنتاج الاقتصادي الرأسمالي في القرن التاسع عشر، حيث سيشكل المد الامبريالي في مختلف الصور التي اتخذ المظهر الأبرز للسطوة الأوروبية على العالم…
يُقرأ الحدث الاستعماري في لغة حركات التحرير الوطنية، كما نشأت وتبلورت في الزمن الاستعماري، بطريقة تختلف عن الطريقة التي يمكن أن يقرأ بها اليوم في إطار التحولات العامة للتاريخ في بعده العالمي، وفي مستوياته المركَّبة والمتشابكة، حيث تتقلص الشحنة الأخلاقية المرتبطة أساساً بوقائع محدَّدة، لتترك المجال للغة بل للغات صراع المصالح في التاريخ. ونحن لا نريد أن نتحدث هنا عن القراءة المقاوِمَة، ولا عن القراءة المبرِّرَة لما حدث. إننا نتجه للتفكير أولاً وقبل كل شيء لمقارية كيفيات تلقي العرب للحداثة والتحديث السياسي، وذلك من أجل المساهمة في إعادة تنظيم سياقات وآليات تَشَكُّل جوانب من المرجعية السياسية الحداثية وآليات عملها في تاريخنا المعاصر. ولهذا السبب تصبح الأحداث الكبرى في التاريخ من قبيل الحدث الاستعماري الغربي ظاهرة مركَّبة بكل معاني الكلمة، ويصبح سياق النظر إليها في مقاربتنا، متحكماً في نوعية التأويل الذي نتجه لبناء بعض عناصره بكثير من الاختزال والتركيز.
شكَّلت الظاهرة الاستعمارية في العالم العربي حدثاً متعدد الأبعاد والدلالات، وقد صنعت لحظة تشكُّلها وتطوُّرها أحداثاً ومقاومات. ومقابل ذلك، بنت الظاهرة المذكورة تاريخاً جديداً حققت بواسطته مشاريعها في الهيمنة والاستغلال، ومارست في الآن نفسه، دوراً آخر ساهم بطريقة أو بأخرى في خلخلة المقومات التاريخية الموروثة والحافظة لذات تاريخية أخرى محاصرة.. وهو الأمر الذي انعكس من جهة ثانية على الذات المذكورة، وعمل على إلحاق تغييرات فاعلة فيها وفي مصيرها التاريخي..
لا يمكن إذن أن نقرأ الحدث الاستعماري كظاهرة سلبية وبصورة كلية ومطلقة. كما لا يمكن أن نتعامل معه بمعايير اللغة الأخلاقية وحدها، أو بمواقف التنديد والإدانة السياسيين وحدهما. وعندما نتخلص من المواقف التي ذكرنا، ونواجه الحدث الاستعماري من زاوية مغايرة، نقف على جملةً من المعطيات المتناقضة، أي يمكننا على سبيل المثال أن نتبين فيه كثيراً من عناصر السلب وكثيراً من عناصر الإيجاب أيضاً، حيث يصبح لهذا الحدث دور الفاعل المساهم في بناء جوانب من الملامح التاريخية المؤسسة لتاريخنا المعاصر في أبعاده المختلفة، وذلك رغم عدم قبولنا لكثير من المعطيات المرتبطة بالحدث.
يعلمنا التاريخ في هذا الباب، أن التطور والتغيّر لا يكون دائماً وبالضرورة بفعل المؤثرات الداخلية وحدها، بل تسببه عوامل عديدة من بينها العوامل التي يمكن أن تكون في بعض مفاصل وحلقات التاريخ أجنبية وخارجية. وإذا كان الوطنيون العرب في مختلف البلدان العربية، قد تغنوا بشعار الحرية والاستقلال، فإنه ينبغي أن لا نغفل أنهم استعملوا في تركيب هذا الشعار مفاهيم الفكر السياسي الحديث والمعاصر، كما نشأت وتطورت في التاريخ الغربي ذاته، بحكم أنها تعكس في أبعادها العامة روح الخيارات الإنسانية المطابقة لطموحاتهم وطموحات إرادة التحرر، كما يمكن أن تتبلور في أمكنة وأزمنة لا حصر لها..
ورغم درجات اختلاف المد الاستعماري في الأقطار العربية، حيث يظهر التشخيص المباشر بعض أوجه الاختلاف بين الاستعمار البريطاني والفرنسي والايطالي والاسباني، في هذا القطر العربي أو ذاك، إلا أن ما حصل من تحول في مختلف المجتمعات العربية إبان المرحلة الاستعمارية، صنع قاعدة جديدة للتحول السياسي والاقتصادي، ورسم أفقاً جديداً لخيارات تاريخية، في الفكر وفي العمل تختلف عن خيارات المرجعية التاريخية الذاتية الأكثر رسوخاً، الأمر الذي فتح المشروع النهضوي العربي على دوائر أخرى في الفكر وفي المجتمع، دوائر لم يعد بالإمكان تجاهلها، ولا الاستغناء عنها من أجل فهم أكثر عيانية وأكثر قرباً من مكونات الأحداث والوقائع، كما حصلت في التاريخ وفي تاريخنا بالذات..
من هنا أهمية الدعوة إلى إعادة قراءة الفعل الاستعماري في بناء الذات العربية والتاريخ العربي المعاصر.. صحيح أن العنف الاستعماري وَشَمَ تاريخنا ومجتمعنا بكثير من صور الاستغلال والاستبداد، وصحيح أيضاً أنه مارس كثيراً من أنماط الاغتصاب المادي والنفسي على ذواتنا وممتلكاتنا، بل إنه يمكننا أن نتحدث عن دوره الكبير في تعطيل وتوقيف ديناميات التطور الداخلي الذاتي.. إلا أنه رغم كل ذلك، ساهم بطرقه الخاصة في بناء المؤسسات والقواعد الإدارية والاقتصادية والمؤسسية الحديثة في بلداننا، ووضع مجتمعاتنا على قاطرة الانخراط في الأزمنة الحديثة بما لها وما عليها.. وهو لم يفعل كل ذلك إلا في إطار سعيه لمزيد من تهييء شروط أفضل لاستغلال خيراتنا. وهنا لا ينبغي أن ننسى أن جوانب من مبررات ما حصل في زمن الاستعمار، تعود إلى الوهن التاريخي الذي لحقنا، في إطار ما يعرف في فلسفات التاريخ الكلاسيكية بدورة الزمان ومكر التاريخ..
وعندما نتجه اليوم لفهم ما ذكرنا، في علاقته بمسألة الحداثة والتحديث السياسي في العالم العربي، سنكتشف أن اللحظة الاستعمارية ستعمق بطريقتها الخاصة، مختلف التحولات التي انطلقت في العالم العربي تحت تأثير مشروع النهوض الأوروبي. والفرق بين إسهام المصلحين السياسيين الذين سبقوا لحظة المد الاستعماري، وما سيعمل المشروع الاستعماري على توليده وتركيبه في الواقع، يتحدد في الأهداف والطموحات التي كان يتجه كل منهما لتحقيقها في الواقع، وهي أهداف متقاطعة، لكن نتائجها في المدى البعيد قابلة لأكثر من قراءة ترى في كثير معطياتها عناصر تتام وتكامل.. ولابد من التوضيح داخل هذا السياق، أن الآلة الاستعمارية في العالم العربي لم تنجز ما أنجزت بهدف حماية وتطوير مجتمعاتنا، حيث أطلقت على فعل الغزو التاريخي الذي مارست على مجتمعاتنا إسم «الحماية»، إلاّ أن ما أنجزته كان يشكل في العمق جزءاً من مشروع حمايتها لمشروعها الاستعماري، وذلك بمزيد من ترسيخ قوتها وحضورها في العالم. ولهذا السبب نقول اليوم ونحن نُراجِع ما حصل، إن نتائج المشروع الاستعماري في الواقع العربي، ومآثر المشروع الحضاري الغربي في الفكر الإنساني، تقدم نموذجاً واضحاً على التركيب التاريخي الجامع بين المتناقضات والنقائض.
ساهم الحدث الاستعماري في خلخلة أنظمة السياسية وقواعدها في مجتمعاتنا، وترتب عن هذه العملية انطلاق مسلسل بناء قنوات وقواعد التحديث السياسي في التجربة التاريخية العربية بمختلف السمات والمواصفات التي اتّخذت.. نستطيع أن نشير هنا إلى المظاهر السلبية العديدة التي اتخذها مشروعنا الحداثي بفعل حصوله العنيف والمفاجئ، وبفعل عدم وجود الروافع المجتمعية والاقتصادية والفكرية المساعدة على تحقيق ما يرتبط به من أهداف. لكننا نستطيع في الوقت نفسه، تبين بعض المظاهر الايجابية في الفعل المذكور، بحكم أن التحول كما قلنا لا يخضع دائماً لمقتضيات التحول الداخلي وحده، بل تتحكم فيه أيضاً العوامل الخارجية، وقد تكون لهذه الأخيرة قيمتها العظمى في اللحظات المفصلية الفاعلة في التاريخ، من قبل اللحظة التي نحن بصددها، حيث يصنع التاريخ بفعل القَسر، وحيث يولِّد القَسر مفعولاتٍ فاعلة ومؤثرة رغم تناقضها، فينشأ عن ذلك ترتيب جديد في المصير التاريخي للمجموعات البشرية، ترتيب يفعل في التاريخ بضغط من الديناميات الخارجية التي تتجاوز التصورات المرتبطة بالطموحات الذاتية وحدها.. وفي تاريخنا المرتبط بأزمنة أخرى، معطيات مماثِلة لما نحن بصدد الحديث عنه في الأزمنة الحديثة والمعاصرة.. ولهذا السبب نعتبر أن ديناميات التحديث في مجتمعاتنا ترتبط بالزمن الاستعماري وأدواره في تطوير وتكوين حداثتنا الموسومة بخصائص محددة..


الكاتب : كمال عبد اللطيف

  

بتاريخ : 22/11/2019

أخبار مرتبطة

743 عارضا يقدمون أكثر من 100 ألف كتاب و3 ملايين نسخة 56 في المائة من الإصدارات برسم 2023/2024   أكد

تحت شعار «الكتابة والزمن» افتتحت مساء الأربعاء 17 أبريل 2024، فعاليات الدورة الرابعة للمعرض المغاربي للكتاب «آداب مغاربية» الذي تنظمه

الأستاذ الدكتور يوسف تيبس من مواليد فاس. أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز ورئيسا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *