التخلي‮ ‬عن إدارة مسجد في‮ ‬بروكسل رسالة مقصودة من السعودية

‬بلجيكا أعارت مسجد بروكسل الكبير للسعودية منذ‮ ‬1969
‬حكومة بلجيكا تشعر بالقلق حيال ما‮ ‬يقال بالخطب الدينية في‮ ‬المسجد
‬المسؤولون في‮ ‬المسجد‮ ‬ينفون أنه‮ ‬يدعو للعنف
‬ولي‮ ‬العهد السعودي‮ ‬يعد بالعودة إلى الإسلام المعتدل
من أليسا دو كاربونيل وستيفن كالين

‬وافقت المملكة العربية السعودية على التخلي‮ ‬عن إدارة أكبر مساجد بلجيكا وذلك في‮ ‬بادرة على أنها تحاول التخلص من السمعة التي‮ ‬لازمتها بأنها أكبر مصدر في‮ ‬العالم للتفسيرات المتشددة للإسلام‮.‬
وكانت بلجيكا قد أعارت المسجد الكبير للرياض في‮ ‬العام‮ ‬1969‮ ‬الأمر الذي‮ ‬أتاح لأئمة تدعمهم الرياض التواصل مع جالية متنامية من المهاجرين المسلمين مقابل الحصول على النفط بأسعار تفضيلية للصناعات البلجيكية‮.‬
لكن بلجيكا تريد الآن تقليص الروابط بين الرياض والمسجد الواقع قرب مقر الاتحاد الأوروبي‮ ‬في‮ ‬بروكسل بسبب مخاوف من أن‮ ‬يكون مضمون الخطب الدينية فيه داعيا للتطرف‮.‬
وتنفي‮ ‬القيادات المسؤولة عن المسجد أنها تؤمن بالعنف منهجا لكن الحكومات الأوروبية ازداد قلقها منذ هجمات إسلاميين متشددين تم التخطيط لها في‮ ‬بروكسل وأسفرت عن مقتل‮ ‬130‮ ‬شخصا في‮ ‬باريس خلال‮ ‬2015‮ ‬ومقتل‮ ‬32‮ ‬شخصا في‮ ‬العاصمة البلجيكية في‮ ‬العام‮ ‬2016‮.‬
ويمثل استعداد بلجيكا لرفع مطالبها إلى السعودية،‮ ‬التي‮ ‬تلعب دورا كبيرا في‮ ‬الاستثمارات ومشتريات السلاح في‮ ‬بلجيكا،‮ ‬خروجا على ما‮ ‬يصفه دبلوماسيون في‮ ‬الاتحاد الأوروبي‮ ‬بإحجام الحكومات في‮ ‬مختلف أنحاء أوروبا عن الإضرار بالعلاقات التجارية والأمنية‮.‬
وتشير السرعة التي‮ ‬قبلت بها الرياض ذلك إلى استعداد جديد من جانب المملكة للتأكيد على الاعتدال الديني‮ ‬وهو ما‮ ‬يمثل واحدا من الوعود الطموح التي‮ ‬قطعها ولي‮ ‬العهد الأمير محمد بن سلمان بمقتضى خططه لإجراء إصلاحات واسعة في‮ ‬البلاد وتقليل اعتمادها على النفط‮.‬
ويتزامن الاتفاق الذي‮ ‬تم التوصل إليه الشهر الماضي‮ ‬مع مبادرة سعودية جديدة لم تعلن على الملأ لكن مسؤولين‮ ‬غربيين ذكروا بعض جوانبها لرويترز وتهدف لإنهاء دعم المساجد والمدارس الدينية في‮ ‬الخارج والتي‮ ‬توجه إليها اتهامات بنشر الأفكار المتشددة‮.‬
ويمثل التحرك باتجاه الاعتدال الديني،‮ ‬والابتعاد عن التفسير المتشدد للمذهب السلفي‮ ‬والذي‮ ‬تعتنقه الجماعات المتطرفة الحديثة،‮ ‬مجازفة بإطلاق رد فعل سلبي‮ ‬في‮ ‬الداخل وربما‮ ‬يؤدي‮ ‬إلى فراغ‮ ‬يملأه الأصوليون‮.‬
غير أن الدبلوماسي‮ ‬البلجيكي‮ ‬ديرك آشتن الذي‮ ‬رأس وفدا حكوميا إلى الرياض في‮ ‬نوفمبر تشرين الثاني‮ ‬رأى فيما أخذته السعودية في‮ ‬الآونة الأخيرة من خطوات نحو الاعتدال الديني‮ “‬فرصة‮”.‬
وقال آشتن للبرلمان البلجيكي‮ ‬الشهر الماضي‮ ‬في‮ ‬أعقاب الزيارة التي‮ ‬رتبت على عجل بعد أن حث البرلمان الحكومة على فسخ عقد إعارة المسجد بلا إيجار للسعودية لمدة‮ ‬99‮ ‬عاما‮ “‬السعوديون ميالون للحوار بلا محاذير‮”.‬
غير أنه حذر أيضا من أن‮ “‬البعض لا‮ ‬يعترف،‮ ‬أو لا‮ ‬يكاد‮ ‬يعترف،‮ ‬بأن هذا الشكل من أشكال السلفية‮ ‬يقود إلى التطرف‮”. * ‬وضع اللمسات النهائية على التفاصيل
قال وزير الداخلية البلجيكي‮ ‬جان جامبون لرويترز إن التفاوض ما زال جاريا على تفاصيل تسليم المسجد لكن الأمر سيعلن الشهر المقبل‮.‬
وتستهدف بلجيكا من الاتصالات الدبلوماسية بقيادة وزيري‮ ‬خارجية البلدين منع ما وصفه جامبون بأنه‮ “‬رد مبالغ‮ ‬فيه‮” ‬من جانب السعودية فيما‮ ‬يشير إلى أن الحكومة البلجيكية سعت لضمان عدم حدوث رد فعل دبلوماسي‮ ‬سلبي‮.‬
وقال جامبون إن الوضع‮ “‬تحت السيطرة‮” ‬في‮ ‬أعقاب زيارة لبلجيكا قام بها الشهر الماضي‮ ‬وزير الخارجية السعودي‮ ‬عادل الجبير‮.‬
وقبل أن تتولى السعودية إدارته في‮ ‬أواخر الستينيات من القرن الماضي‮ ‬كان المسجد الكبير عبارة عن مبنى‮ ‬غير مستخدم شيد لكي‮ ‬يكون الجناح الشرقي‮ ‬في‮ ‬المعرض الكبير في‮ ‬العام‮ ‬1880‮.‬
وحولت الأموال السعودية المبنى إلى مسجد لكي‮ ‬يسد احتياجات مهاجرين من المغرب استقدمتهم الحكومة للعمل في‮ ‬مناجم الفحم وفي‮ ‬مصانع البلاد‮. ‬وتتولى رابطة العالم الإسلامي‮ ‬التي‮ ‬تتخذ من مكة مقرا لها إدارة المسجد‮. ‬والرابطة مؤسسة دعوية تمولها السعودية‮.‬
وتبين استطلاعات الرأي‮ ‬أن المخاوف بشأن المسجد تزايدت بعد أن بدأت جماعات متطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية تجنيد أحفاد هؤلاء المهاجرين الذين‮ ‬يقول كثيرون منهم إنهم لا‮ ‬يشعرون بالانتماء في‮ ‬المجتمع البلجيكي‮.‬
ويمثل المقاتلون الأجانب الذين سافروا من بلجيكا إلى سوريا نسبة أكبر من أي‮ ‬بلد آخر في‮ ‬أوروبا وذلك بالمقارنة مع عدد السكان‮.‬
ويشير مسؤولون بلجيكيون الآن إلى أن الهيئة التنفيذية للمسلمين في‮ ‬بلجيكا،‮ ‬والتي‮ ‬تعتبر وثيقة الصلة بالجهات الرسمية في‮ ‬المغرب،‮ ‬يجب أن تدير المسجد الكبير‮.‬
ورغم أن الحكومة السعودية نفت أي‮ ‬دور في‮ ‬هجمات‮ ‬11‮ ‬سبتمبر أيلول‮ ‬2001‮ ‬على الولايات المتحدة والتي‮ ‬راح ضحيتها أكثر من‮ ‬3000‮ ‬شخص فقد كان‮ ‬15‮ ‬من المهاجمين التسعة عشر من السعودية وربطتهم صلات بأسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة السابق العقل المدبر للهجمات‮.‬
وكان بن لادن من أتباع المذهب الوهابي‮ ‬السلفي‮ ‬الذي‮ ‬كثيرا ما وجهت له انتقادات باعتباره أساس الأفكار العقائدية للمتشددين الإسلاميين في‮ ‬مختلف أنحاء العالم‮.‬
ومع ذلك فالكثير من مواقف تنظيم الدولة الإسلامية أكثر مغالاة في‮ ‬التشدد من التيار الوهابي‮ ‬السائد في‮ ‬السعودية والذي‮ ‬أسسه في‮ ‬القرن الثامن عشر رجل الدين محمد بن عبد الوهاب‮.‬
وقال تقرير سري‮ ‬لوكالة الأمن البلجيكية أو.سي‮.‬ايه.دي‮/‬أو.سي‮.‬ايه.إم في‮ ‬العام‮ ‬2016‮ ‬إن التيار الوهابي‮ ‬الذي‮ ‬يتم الترويج له في‮ ‬المسجد دفع الشباب المسلم لاعتناق أفكار أكثر تشددا وذلك وفقا لما ذكرته مصادر مطلعة على التقرير‮.‬
وقال البرلمان البلجيكي‮ ‬إن ما‮ ‬يدعو إليه المسجد هو‮ “‬بوابة أو حتى تهيئة لإسلام أميل للعنف‮”‬،‮ ‬ودعا في‮ ‬أكتوبر تشرين الأول إلى إنهاء عقد إعارة المسجد للسعودية‮.‬
وفي‮ ‬الشهر نفسه حاول وزير الهجرة ثيو فرانكن طرد إمام المسجد الكبير المصري‮ ‬الجنسية الذي‮ ‬شغل موقعه‮ ‬13‮ ‬عاما ووصفه بأنه‮ “‬خطر‮” ‬غير أن قاضيا ألغى هذا القرار‮.‬
إلا أن مصادر أمنية بلجيكية تقول إنه لا توجد أدلة على أن الأئمة في‮ ‬المسجد الكبير‮ ‬يدعون للعنف أو تربطهم صلات بالهجمات‮.‬
وتقول المصادر إن بعض من سافروا للقتال في‮ ‬سورياحضروا دروسا في‮ ‬المسجد‮ ‬غير أن الشباب‮ ‬يقعون ضحية في‮ ‬الغالب للمسؤولين عن تجنيد الأنصار في‮ ‬الجماعات المتشددة عن طريق الانترنت وفي‮ ‬شوارع الأحياء الفقيرة مثل حي‮ ‬مولنبيك في‮ ‬بروكسل الذي‮ ‬عاش فيه مدبرو هجمات باريس‮.‬
ويقول تامر أبو السعود الذي‮ ‬عين مديرا للمسجد الكبير في‮ ‬مايو آيار الماضي‮ ‬إن ثمة مشاكل في‮ ‬النظرة إلى المسجد لكنه‮ ‬ينفي‮ ‬أنه‮ ‬يدعو للتطرف الإسلامي‮. ‬ويقول إنه على استعداد للعمل مع المسؤولين البلجيكيين‮.‬
وقال لرويترز‮ “‬ثمة تغيرات تحدث بالفعل وهناك تغييرات أكثر مقبلة في‮ ‬المستقبل القريب جدا‮”. * “‬إسلام أوروبي‮”‬
يقول قادة بلجيكيون إنهم‮ ‬يريدون أن‮ ‬يدعو المسجد إلى‮ “‬إسلام أوروبي‮” ‬يتفق أكثر مع قيمهم وهي‮ ‬نغمة مألوفة تتردد كثيرا في‮ ‬مختلف أنحاء أوروبا في‮ ‬أعقاب الهجمات التي‮ ‬شنها تنظيم الدولة الإسلامية في‮ ‬السنوات القليلة الماضية‮.‬
إلا أنه لم‮ ‬يتضح من سيدير مجمع المسجد الفسيح الذي‮ ‬يتلقى خمسة ملايين‮ ‬يورو‮ (‬ستة ملايين دولار‮) ‬سنويا من خلال رابطة العالم الإسلامي‮.‬
وقد انتهجت الرابطة في‮ ‬الآونة الأخيرة نهجا أكثر استرضائية‮. ‬فمنذ ما‮ ‬يزيد قليلا على العام بعد تعيين الأمين العام محمد بن عبد الكريم العيسى التقى بالبابا فرانسيس وأعلن موقفه على الملأ من نفي‮ ‬المحرقة‮. ‬وقال العيسى لرويترز في‮ ‬نوفمبر تشرين الثاني‮ ‬إن المهمة الجديدة للرابطة هي‮ ‬القضاء على التطرف‮.‬
وبالنسبة للسعودية‮ ‬يمثل المسجد فرصة لإثبات فتح صفحة جديدة بعد سنوات ظلت فيها موضع اتهام بأنها تغض الطرف عن الأفكار المتطرفة إن لم تكن تقرها‮.‬
وقد خطا ولي‮ ‬العهد الأمير محمد بالفعل بعض الخطوات لتخفيف القيود الاجتماعية المغالية في‮ ‬المحافظة فقلص دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي‮ ‬عن المنكر وسمح بإقامة حفلات موسيقية عامة كما أعلنت السعودية عن خطط للسماح للنساء بقيادة السيارات في‮ ‬الصيف المقبل‮.‬
غير أن ستيفان لاكروا الباحث في‮ ‬الإسلام في‮ ‬السعودية‮ ‬يقول إن هذه التغييرات ربما تكون قد جاءت متأخرة لأن معظم الجماعات المتشددة التي‮ ‬خرجت من بعض الشبكات السعودية في‮ ‬مرحلة من المراحل أصبحت مستقلة‮.‬
وقال لرويترز‮ “‬ليس صحيحا أن ذلك سيحل مشكلة الإسلام المتطرف،‮ ‬من منطلق أنه إذا تغير السعوديون فسيتغير كل شيء‮”.‬


بتاريخ : 16/02/2018