التراث المتجدد.. الكل أو لا شيء!

غالبا ما تنتهي الدراسات المتحفزة إلى البناء التفكيكي أو التشريحي لاستحالة الوصول إلى فهم متماسك متواضع عليه، بعد عمليات تحليل وتفسير نسقيين تفضي إلى هدم النظريات وإعادة تأسيس بدائل. حدث ذلك على أعلى مستوى في التفكير الفلسفي والاجتماعي والنفسي، في قضايا مصيرية ترتبط بالتراث والتجديد والحداثة والماهيات المتصلة بالقيم والأخلاق والوجود والكينونة ..إلخ.
لكن الفهم النمطي للتراث كمحرك سيروري للمعرفة والتاريخ والوجدان الحضاري والثقافي، يظل السؤال الأكثر حضورا في الأنساق الفكرية المتواترة طيلة قرنين من الزمان، تقاطعت فيه حدود التأويل المبطن للتراث وتضارباته والتحولات التي خلخلت جوانب إبستمولوجية في صلب تجسيده للظاهرة الدينية أو اللاهوتية بمعناها الغربي.
المشاريع المحدثة لطفرات إعادة تقديم التراث كروح تفصل بين الأنا والآخر، بين تراث الأنا كعلوم للغايات، وتراث الآخر كعلوم للوسائل. بين تراث يستقل بالعلوم المستقبلية ويطورها ويحتمي بفعالياتها، وتراث يركب على القيم الجامدة التي تكرس العقل السلفي وتتباهى به وتحتفي بذاكرته.
وهي المشاريع التي ظلت ردحا من الزمن تتلوى بين ناظر متهول وسارد متحرر من التبعية والاستنساخ.
ولم يعد لنا من كل هذه التجارب وتلك سوى القراءة المستبطنة لدرجات اختلال واختلاف فهم التراث. ليس لأن كل المشاريع المقدمة قد نبذت طيفا من أطياف شغور أبنية التراث وتلفها تحت وقع الهزات الجديدة لمعارك الباراسيكولوجيا وعلوم تحليل الزمان وهندسة المعلوميات والفورماتيكا ، بل لأن القراءات المتعددة في أوديسا التعدد الثقافي الحداثي أضحت تختزل أنظمة فائقة السرعة ومتسقة الأهداف في رؤيتها للكون الثقافي المبدع، وقياسات الوحدة الجماعية التراثية، وانسجام ذلك كله مع المصير الثقافي المشترك.
لا يمكن بأي حال من الأحول أن نظل مقيدين بالموانع التراثية، مترددين على الحواشي الكامنة في الثلاثية التقليدية المبتذلة، حول متاهة تراثنا القديم ونظيره الغربي وموقفنا من الدافع. كأن التصدير في وتوقيتها وانكماشها على المخزون الذاتي، يوفر هامشا لتحويل أفق الانتظار إلى ورش للقطيعة والتحول الفكراني!
وأحيل هنا ـ حسب دراسة قمت بتأطيرها لفائدة باحثين عرب خلال مؤتمر بحثي بعمان العاصمة سنة 2010 ـ إلى أنموذجين مفصليين، أحدهما للمفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، من خلال كتابه « نحن والتراث : قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي» وهو أرضية حقيقية لمشروع فكري طموح للعقل العربي وللنهضة. والثاني يرتبط بالمفكر المصري حسن حنفي، خصوصا ما يتعلق بمشروع كتابه القيم « مقدمة في علم الاستغراب» الذي يمثل جزءا من رؤيته الفلسفية للتراث والتجديد في آن واحد.
إن القراءة الناظمة بين الأنموذجين، رغم اختلاف المدرستين أيديولوجيا وعلميا، وكذا منهجي بحثيهما ومستوى تنظيرهما وحدود تمايزهما، تشكلان عاملا موحدا واعتبارا فريدا لطرحنا الاستدلالي، الذي يقارب التفسير الامتدادي للتراث من موقع يعجز عن التفكير من داخل باراديجم الزمن وتحولاته الحتمية الصاعدة، وانتقاليته الى الحيوات الجديدة التي تنتج التاريخ والعلوم والخوارق الصناعية والتكنولوجية، عبر الإشارات التماثلية والتحول الرقمي، الذي يقلب رأس التاريخ ويجسد معمعان الرأسمال الثقافي وهويته الثاقبة.
فبينما ينشد الجابري إعادة قراءة التراث الفلسفي الإسلامي كأرضية لمشروع فكري طموح للعقل العربي بآليات منهجية ومنطلقات إبيستيمولوجية أراد بها تأسيس هذه القراءة للتراث، بمنطلقات ومرتكزات راهنية جديرة بالتأمل والتفكير، يشاغب المفكر المصري حسن حنفي وضعية تلقي التراث وإنتاجه بخلفيات فلسفية متحولة، تبادر إلى تفكيك « الاستغراب» كعلم قائم الذات، يحاول تأصيل العملية الجدلية القائمة بين « النحن» و» الآخر»، وكذا مستوى تحرر الأنا الثقافي والحضاري والعلمي من هيمنة الآخر؟!.
وهي قوة لا محالة تنتصر للبداهة والاستدلال الفلسفيين، حيث تنحاز نظرية المعرفة في الحالتين للتبرير والحجاج، والانعقاد التدريجي للمنطق والاستنتاج الاستنباطي والاستدلال الاستقرائي. كأني بالكتابات الأولى لعلوم الكلام القائمة أساسا على إثبات أو إقامة الأدلة على صحة وصدق العقائد، تعيد نفسها وتتشاكل محايثة لتفكرات قرائية متوترة بقياسات وتعاقدات جديدة، بغض النظر عن توجهات الفلسفتين ووجهتيهما في القراءة والاستنباط، وحدود تقييمهما للعناصر والأهداف.
ومع أن التجربتين الرائدتين نهلتا من موسوعة الكونيات الثقافية والتعددية الفكرية التاريخية وأنماطها الهوياتية والحضارية السائدة، وانتصارهما للحرية الفكرية والنهضة العقلانية والحداثة المتنورة، إلا أن الحتميات الدائرة الآن في صلب الأنثروبولوجيا الثقافية ومفاهيم الثقافة التراثية تستدعي الانتباه لمشكلات تفكك القراءات المتحولة للتراث وعدم اقتدارية بناءاتها على مقاومة الأبعاد والآفاق الجديدة، حيث النمو المتزايد لفروع المعرفة، من خلال نظرية « الحضارة والمدنية» لألفريد فيبر، التي تجسد القيمة المضافة للتراث الثقافي المتحول « الثقافة = التراث : الروح الحقيقية» حسب ألفريد فيبر.
نعم ، إننا نقرأ التراث كخلفية أو رسمة جمالية أو واجهة الصيغ الرسومية، لأجل تثبيت التاريخ المكتوب أو المعدود ، وتمجيد الانتماء واستثارة العواطف وإرباك السارد من هاجس الوحدة وعزلة الزمن، لكننا بإزاء هذه الاحتمالات الكلاسيكية والهاوية للركون و»التحلزن» حول الذات مدعوون لإعادة صياغة مفاهيم جديدة لقراءة التاريخ بعيون التراث المركب والمتغير والمحير. تراث يستفيق من خفوته الفاغر وغموضه المحتد وانقسامه المتداعي. تراث معرفي يتعامل مع الإنسان كطاقة لا محدودة، وفعل واع بالكينونة يضاهي حجم التمثلات السوسيوثقافية والهوياتية المتحولة، المتداركة والمغامرة، في المجتمع الثقافي المتنامي، المبادر للغوص بعيدا في عمق حضارة الاتساع الإيقاعي والفجوة الحاسمة.
التراث الذي نبغي، قيمة إضافية للمعاصرة وللتفوق والإيجابية والعلم الأيقوني والذي وصفه أحد خبراء العصر الرقمي الجديد الخبير الألماني كريستوف بورنشاين ب» التراث المتجدد .. الكل أو لاشيء!».


الكاتب : د.مصــطفى غَــلْمَـان

  

بتاريخ : 11/12/2018