التعليم بالعالم القروي خارج رهانات الرؤية الاستراتيجية للإصلاح .. فرعيات منفرة معزولة، غياب الحماية والمرافق الصحية والحماية، طرق تدريس متقادمة، غياب التواصل والتحفيز

يتسم التعليم بالعالم القروي والمناطق النائية بالوضع المقلق رغم المجهودات المبذولة من طرف المسؤولين ، حيث لازال نساء و رجال التعليم يعانون مرارة التهميش والإقصاء والحرمان من أبسط شروط العيش الكريم ، مؤسسات متباعدة و فرعيات متشتتة بدون مرافق صحية ولا ماء ولا كهرباء ، ما يجعل الحديث عن تنزيل الرؤية الاستراتيجية 2015/2030 بهذا المجال صعب التحقيق, ناهيك عن وضعياتها الجغرافية ,حيث يتسم الوصول لبعض منها ( المؤسسات ) بالمجازفة بالحياة ,حيث الخلاء و المسالك الوعرة وانتشار قطاع الطرق والكلاب الضالة … مما يهدد حياة العاملين بالعالم القروي والمناطق النائية ، مؤسسات تفتقر للوسائل و التجهيزات و الأدوات الدراسية اللازمة، وكم يقشعر بدنك حين تقف على وضع مؤسسة تعليمية معزولة تماما عن محيطها لا حياة فيها. البرودة القارسة في الشتاء و الحرارة اللاسعة في الصيف، انتشار الحشرات السامة في ظل غياب أي مرفق صحي قريب أو طريق قد يسلكها لمعانقة الحاضرة أو لأجل قضاء الأغراض خصوصا المعيشية في ظروف معقولة…
أغلب المدرسين يقطعون، يوميا، مسافات طويلة بين سكناهم ومقرات عملهم سواء بالمدرسة المركزية أو الفرعية، باعتماد جميع وسائل النقل المتاحة من نقل عمومي مرخص ونقل سري محظور ودواب مختلفة، علما أن هذا التنقل محفوف بمخاطر جمة، من حوادث قاتلة إلى عاهات مستديمة إلى عجز نهائي عن العمل، وقد تستغرق رحلة الأساتذة إلى مدرسة فرعية ببعض المناطق القروية و النائية الى يوم كامل على الأرجل أو على ظهر دابة، معرضين لكل الأخطار القاتلة، من عواصف مطرية أو رملية أو رياح عاتية إلى فيضان أنهار ووديان بأشكال مباغتة، تجرف الشجر والحجر دون سابق إنذار وفي غياب قناطر وجسور رابطة بين ضفتي النهر أو الوادي

 

العزلة، تردي ظروف العمل والعيش وانعدام الحماية

عديدة هي المشاكل و المعاناة التي يواجهها نساء و رجال التعليم بالقرى و المناطق النائية في غياب تام لأي تحفيز مادي أو معنوي، فزرع مدرسة في قرية نائية في الجبل أو في الخلاء ، معزولة عن العالم، لا يعني تقريب التعليم من المواطنين، ولا تعيين مدرسين ومدرسات في أقصى المناطق التي تعيش عزلة قاسية على جميع الأصعدة، هو المساهمة في تعليم أبنائهم وتقريب الحضارة إليهم، بقدر ما نقتل في هؤلاء المدرسين والمدرسات الضمير المهني وروح المبادرة، ونهيئ لهم الظروف لنسيان ما تعلموه وما خبروه على مدى حياتهم التعلمية والتعليمية، ويستسلموا للواقع الجديد الذي كله تخلف وحياة بدائية، فيخضعوا في أحسن الأحوال للمقولة المشهورة «وكم من حاجة قضيناها بتركها»، إن لم يصابوا بخلل، ويقعوا ضحية الاضطرابات النفسية والعقلية، كما هو الشأن بالنسبة لعدد لا يستهان به من المدرسين والمدرسات في العالم القروي، خصوصا في المناطق النائية.
تتنوع معيقات تطور التعليم بالعالم القروي التي لا يمكن للوزارة الوصية وحدها التخلص أو على الأقل الحد منها ، بحيث يجب على المتدخلين في العملية التربوية جميعهم المساهمة والمساهمة الفعالة و الانخراط الجاد و المسؤول كل من جانبه قصد الرفع من مستوى التعليم بالعالم القروي ، وإلا فكيف للوزارة الوصية أن تقيم حارسا على فرعية معزولة في الخلاء تتحول بين كل فترة إلى مكان للمتسكعين أو قطاع الطرق أو ملاذا للمتشردين أو لقضاء الحاجة وتعرض تجهيزاتها إلى السرقة و التلف فلا تجد لا مقاعد ولا سبورة و لا مكتب و لا أبواب و لا نوافذ … فما إن يحل المدرسون من جديد بعد كل عطلة للقسم حتى يفاجأون بما لم يكن في حسبانهم ، كما أن غياب التوعية وانتشار الأمية و الفقر بتلك المناطق يجعل من المؤسسة فضاء دخيلا لا قيمة له في حياتهم و لا حياة أبنائهم و بناتهم المستقبلية ،فتنشب العداوة و ينتشر الاعتداء و الانتقام ، وكم من ملف معروض على أنظار العدالة بسبب الاعتداء الذي يتعرض له المدرس أو المدرسة من طرف أبناء المنطقة ( التهديد – الاغتصاب – الاختطاف – التحرش – الضرب و الجرح …) والسؤال يبقى مطروحا هنا إلى أجل غير مسمى ألا وهو من يحمي هؤلاء في مالهم و نفسهم و بدنهم ؟ من سيؤمن لهم الاستقرار و الكرامة و الاحترام ؟
في هذا الشأن تحضرني كلمة الشهيد المناضل المهدي بن بركة أمام رجال التعليم أثناء مؤتمر جامعتهم بالبيضاء يوم 2 يوليوز 1959 بحيث كان ميدان التعليم من بين المجالات التي كرس لها الفقيد الكثير من وقته و التي قال فيها : « إن مسؤولية المعلم هي كذلك المساهمة في الوصول إلى هدف تعميم التعليم كسبيل إلى التقدم و التحرير حقيقة . وهذه المسؤولية تقتضي أن لا تكون وضعية المعلم ساقطة . لهذا على الحكومة أن تضع المعلم في المرتبة التي يضعه فيها الشعب. إن رسالة رجال التعليم تتعدى المدرسة لتمتد إلى كل المجتمع . لهذا على المعلم أن يفرض مهمته التوجيهية التحريرية وسط الشعب لنخرج جميعا إلى معركة محاربة التخلف ونتخلص من حالة الكسل و الخمول. إن أسرة التعليم تتجاوب مع مشاكل المغرب و مشاغل شعب المغرب ، ومن أهمها البحث عن الأسلوب الذي يجعل بلادنا تخطو خطوات ثابتة ، وهذا يتوقف على وضع تصميمات علمية تتفق مع حاجيات البلاد…» انتهى كلام الشهيد المهدي بنبركة
غياب التواصل
يعمق المعاناة
حرمان الاساتذة والاستاذات في القرى من حقوقهم وغياب التواصل معهم يزيد من إحباط رجال و نساء التعليم بالعالم القروي غياب التواصل على مختلف مستوياته خصوصا الإداري المستمر بما يفوت الفرصة على المدرسين في الاطلاع على المستجدات التي يعرفها الحقل التعليمي وحرمانهم من حقوقهم في بعض المجالات ( كالامتحانات – الحركة الانتقالية ….) أو الوصول المتأخر للمذكرات وطابع المزاجية في تنقيطهم أحيانا ، فالمفتشون التربويون يجدون صعوبات كثيرة لزيارة المدرسين/ت والوقوف على نوعية ممارساتهم التربوية وعلاقتهم مع التلاميذ، كما لا يقومون بتأطيرهم وتتبع عملهم بالشكل المطلوب، و أيضا لا يتم تقييم عملهم إلا نادرا، كما يحرمه من حقه في الاستفادة من الترقيات في الوقت المناسب وفي المدة العادية للأقدمية المطلوبة، أما المديرون، الذين يفترض فيهم مواكبة أعمال المدرسين، فلا يستطيعون زيارة المدارس الفرعية لتفقد أحوال المدرسين للرفع من معنوياتهم ومساعدتهم على القيام بواجبهم والوقوف على نوعية المشاكل التي تعترضهم، و معرفة ما يقع بالمؤسسات التابعة لهم ( غياب الأساتذة – ضياع التجهيزات – تدبدب علاقة الأسر بالمؤسسة و هذه الأخيرة بالفاعلين…) نظرا لبعد المدرسة الفرعية عن المركزية، ووعورة المسالك وخطورتها، ومباغتة الفيضانات أحيانا، وكثرة الكلاب الضالة أو حتى بعض الحيوانات المتوحشة …
عوامل لا شك أن لها انعكاسات على أداء ومرودية المدرسين تجعل المسؤولية مشتركة بين جميع المكونات المتداخلة في العملية التربوية والتي من شأنها أن تؤدي إلى نتائج سلبية على حياة التلاميذ التعليمية بالعالم القروي والذي يحتاج منا الكثير من تضافر الجهود إن أردنا بالفعل إنصاف العاملين والمتعلمين على حد سواء في العالم القروي، عملا بمبدأ المساواة و الديمقراطية في تلقي العلم و المعرفة من جهة و أداء الواجب من جهة ثانية.
تعليم تقليدي وبيداغوجيا متقادمة

إن المتتبع لمنظومتنا التربوية يجدها مكدسة بالنصوص والتنظيمات العصرية وعندما يخرج إلى بعض المناطق النائية يصدم بالواقع المر فيتألم ويتأسف ويتعجب لتعليم تقليدي وطرق بيداغوجية متقادمة لا صلة لها بالشعارات المرفوعة اليوم « الجودة – مدرسة النجاح – الانفتاح … )، فالواقع قد يكون افظع مما يتصوره البعض منا مما أدى و يؤدي إلى العزوف عن الدراسة والنفور والهروب من جحيم المدرسة القروية وظاهرة التكرار والتسرب الدراسي والهدر المدرسي وبالتالي عدم تكيف المدرسين والتلاميذ مع ظروف غير ملائمة لتلقين وتلقي العلم والمعرفة الحال الذي ينتج عنه تناسل الجهل وتفشي الأمية.
زرت بعض المؤسسات التعليمية الابتدائية بالقرى والمناطق النائية في إطار جولة استطلاعية ببعض الجهات ،وعاينت مجموعات مدرسية تعمل في غياب الكثير من الوسائل ، بل وبصراحة في ظروف صعبة ، تفتقر لأبسط الشروط الضرورية بحيث تجدها عرضة لاجتياح الحيوانات والاقتحام المباشر لأي كان ، كونها بدون صور ولا حتى سياج, غياب مرافق صحية و أقسام في حاجة ماسة للإصلاح (نوافذ و أبواب مكسرة ، جدران متآكلة …) مطاعم كلها خراب وتغذية لا ترقى إلى ما ينتظره التلاميذ الذين يظلون في المؤسسة على لقمة خبز ومصبر لا يقي ولا يسكن من حرقة الجوع, وأقسام مشتركة تجمع بين مستويين إلى أكثر من ذلك. فضاء منفر وظروف عمل غير محفزة ان لم نقل قاهرة وصعبة ، مسالك طرقية وعرة و أماكن موحشة و مخاطر متعددة ومتنوعة ، وحياة معيشية مزرية في ظل برودة قاسية وغياب للتدفئة.
والجريدة تناقش الوضع مع أحد الأساتذة وبعد أخذ ورد، كانت كلمته الأخيرة جد وجيزة وتحمل العديد من الإشارات في طياتها حيث قال: «أخويا، فوق طاقتك لا تلام» يعيش الرجل عيشة فريدة من نوعها، حيث حول حيزا من إحدى قاعات الدرس إلى مكان للنوم واعداد الوجبات الغذائية ، يضع فوق طاولة فراشه البسيط وبركن آخر وضع أدوات الطهي المتكونة من قنينة غاز وطنجرة صغيرة وبرادا وكؤوسا وملعقة وسكينا وصحنين اثنين، وتعتمد تغذيته على المواد الغذائية المصبرة والقطاني … يفتقد الى العديد من التجهيزات الضرورية كالتلفاز باستثناء مذياع، يشتغل ببطارية يمنحه حظا بسيطا في التعرف على الأخبار وما يقع بالعالم الخارجي كما يعد بالنسبة له الوسيلة الوحيدة التي تؤنس وحدته خصوصا أثناء الليل الذي يضيء وحشته بواسطة قنينة غاز.
ان المشاكل التي يعانيها نساء و رجال التعليم بالوسط القروي والمناطق النائية، تتميز بالقساوة وأحياناً باللاإنسانية في ظل الظروف التي يشتغلون فيها ، حيث أن غياب السكن اللائق والمرافق الاجتماعية والبنيات التحتية والماء الصالح للشرب والكهرباء والطرق المُعبّدة، كلها عوامل تصرح احدى الاستاذات للجريدة تسبّبت غير ما مرة في موت العديد من نساء التعليم وهنّ في طريقهن إلى عملهن، وأضافت أن أعداداً كبيرة من نساء التعليم تعرّضن للعنف البدني واللفظي وكنّ ضحايا الضرب والسب والتحرّش والاستفزاز في مقر عملهن، وعزت ذلك لتملّص السلطات التربوية الجهوية والإقليمية من مسؤولياتها في ضمان سلامتهن وأمنهن وسلامة وأمن مؤسسات اشتغالهن.
والخلاصة أنه لا يمكن أن ننتظر من مدرسين و مدرسات يقعيشون ظروف الطبيعة القاسية و العيش الشحيح و العمل غير الملائم، بالإضافة إلى الاحتقار والإهمال باعتبارهم ارقاما يملئون به فراغا ما فقط ، الشيء الكثير ، لأنه و ببساطة كيف و الحالة هذه سيؤدون مهمتهم وواجبهم تجاه تلامذتهم ؟.
لتحقيق النجاح المطلوب لابد من العمل على تقريب أبناء سكان القرى من المراكز الحضارية وشبه الحضارية، حتى يستطيع التعليم أن ينجح ويحقق أهدافه، فبدون ذلك لا يمكن أن نجني من المجهودات المبذولة سابقا وكذلك حاليا و حتى مستقبلا سوى ضياع الوقت وهدر الطاقة البشرية والموارد المالية وتعميق التخلف والفقر والجهل…


الكاتب : اعداد: أحمد مسيلي

  

بتاريخ : 13/02/2020