«التــأريخ الكــبــيــر لديفيد كريتسشيان» 2/2 لِماذا نحتاجُ إلى تعليم قصّة الأصل الحديثة ؟

لإعادة كتابة تأريخنا الطبيعي والبشري بطريقة تستفيد من الرؤية العلمية التي تعتمد على منظور الأنساق المعقدة المتفاعلة مع بعضها في إطار مركّب حيوي واحد . ثمة مؤرّخون خرجوا على سياقات البحث التأريخي في أصول النشأة الأولى الخاصة بكلّ مجتمع وراحوا ينقّبون بجهد وصبر في حكاية الأصول الأولى الخاصة بالبشرية باعتبارها مركّباً بشرياً واحداً شاملاً بصرف النظر عن التباينات العرقية والبيئية المحلية ، ويدعى هذا البحث ( التأريخ الكبير Big History) – ذلك المبحث الذي أسّسه المؤرّخ (ديفيد كريستشيانDavid Christian) وجعل منه برنامجاً بحثياً حافلاً بشتى الكشوفات المعرفية التي أثارت إعجاب الكثيرين ومنهم (بل غيتس) الذي تبرّع للمشروع بعشرة ملايين دولار على أمل أن يصبح المشروع برنامجاً دراسياً في الثانويات والجامعات الأمريكية بديلاً عن التواريخ التقليدية التي تعلي شأن الوقائع بدل الأفكار .

يمكنُ بالطبع لكلّ منّا أن يتعلّم الكثير بشأن بواكير قصص الأصل الخاصة بالمجتمعات الأخرى، أو بشأن قصص الأصل الأولى الخاصة بنشأة تقاليدنا الثقافية رغم أنّ هذه القصص قد تتناغم بأقلّ الحدود الممكنة مع عالمنا الذي نعيش فيه اليوم . يمكن للمرء أيضاً في دروس التأريخ الجامعية أن يتعلّم الكثير بشأن قصص الأصل الأنثروبولوجي للأمم؛ لكنّ هذه القصص تنفع مع مجتمعاتٍ بذاتها دون سواها.
إنّ مايعوزُنا هو قصّة أصلٍ كونية تنفع مع كلّ المجتمعات المعولمة في يومنا هذا ، وكنتيجة لهذه القصّة العالمية فإنّ المعلّمين سيعلّمون، والمتعلّمين سيتعلّمون، من غير الحاجة إلى هياكل تنظيمية كبرى والركون إلى حسّ التكييف (المحلي، المترجمة) التي تستلزمها قصص الأصل الأخرى (غير العالمية، المترجمة).
من غير هذه البنى تبدو المعرفة ذاتها متشظية، ويحصل في الغالب أن يغادر الطلبة مدارسهم وجامعاتهم بأحساسٍ طافح من إنعدام المعنى وبنوعٍ من فقدان المعايير الإجتماعية أو الأخلاقياتية – ذلك الإنزياح الذي وصفه عالم الإجتماع الفرنسي إميل دوركهايم بمفردة anomie.
إنّ الفشل في تعليم قصة الأصل الحديثة موضوعة مثيرة للفضول لأنّ مثل هذه القصة تندسُّ بين ثنايا العلم الحديث، وهي قابعة تنتظر من يستخلصها من تلك الثنايا.
قصة الأصل الحديثة هيكلٌ واسع لكنه متداعٍ ولاأساس متيناً يثبّتُ عناصره المختلفة : نتفٌ من الفيزياء النووية ، بعض الكوسمولوجيا (علم الكونيات)، حكايات بشأن قوة وإبداع الحمض النوو DNA ، التنوّع المدهش للعضويات المتطورة، التأريخ الغريب لنوعنا البشري ذاته والذي تكتنفه تفاصيل جديرة بالدراسة المكثفة . لكن برغم كلّ شيء يمكن حقاً لمّ شمل كلّ هذه النُتف والأجزاء المبعثرة في إطار قصّة متماسكة متناغمة الأجزاء تتأسّسُ على شواهد مستمدّة من أفضل النظريات العلمية الراسخة . إنّ «التأريخ الكبير» Big History، ذلك البرنامج الدراسي الذي عملتُ على تدريسه في الجامعة لأكثر من عشرين سنة، يسعى لأن ينهض بعبء تلك المهمّة: سردُ قصّة الكون ومكانتنا فيه بمعونة أفضل ماهوَ متاحٌ في خزائن العلوم والإنسانيات من الرؤى والنظريات.
يبدأ التأريخ الكبير مع الإنفجار العظيم ، قبل 13.7 بليون من السنوات. يخبِرُنا هذا التأريخ كيف تشكّلت النجوم والكواكب، وكيف إنبثقت الحياة وتطوّرت على أرضنا، أما الأجزاء الأخيرة من هذا التأريخ فتخبِرُنا عن تلك القصة الغريبة والمثيرة التي تخصّ نوعنا البشري المميز والخطير في الوقت ذاته. يسعى التأريخ الكبير – باختصار – للجمع بين الإنسانيات والعلوم في أطروحة متماسكة بشأن الكيفية التي استحالت بها الأشياء لتكون على ماهي عليه في وقتنا الراهن.
عندما شرعنا في تعليم التأريخ الكبير إكتشفنا سريعاً أنّ طلبتنا لم يكتفوا بقصة تنتهي في يومنا هذا، بل أرادوا فوق ذلك أن يتساءلوا إلى أي مدى يمكن أن تمضي هذه القصة: هل سيستمرّ النمو (البشري والإقتصادي)؟ هل سيكون ثمة إنهيارٌ (في كوكب الأرض) طالما أننا نقلّل من شأن التأثيرات البيئية الخطيرة التي يتسبّب بها المجتمع البشري الحديث؟ هل سنطوّرُ علاقة أكثر استدامةً مع بيئتنا؟
يأخذنا البرنامج الدراسي للتأريخ الكبير أيضاً إلى المستقبل من خلال طرح التساؤل التالي: ماالذي نحتاج لفعله؟. تثبتُ قصة الأصل الحديثة ، مثل سواها من القصص، إنها مليئة بالدلالة الأخلاقياتية، وتطرح تساؤلات عميقة بشأن الكيفية التي ينبغي أن توجّه سلوكياتنا البشرية.
يوجد اليوم مايقاربُ الخمسين برنامجاً دراسياً في (التأريخ الكبير) في الجامعات والكليات، ومعظم تلك البرامج الدراسية تُدرّسُ في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن ثمة البعض منها يُدرَّس أيضاً في أستراليا، كوريا، هولندا، روسيا. بالإضافة لما تقدّم تمّ تأسيس الجمعية العالمية للتأريخ الكبير International Big History Association عام 2010، وقد عقدت هذه الجمعية مؤتمرها الأوّل في غشت 2012.
اقتنعتُ لسنوات طويلة أنّ البرامج الدراسية الخاصة بالتأريخ الكبير ينبغي تدريسها على مستوى الدراسة الثانوية، لكن لم تكن لديّ فكرة بشأن كيفية البدء بهذا المشروع ، ومن أين ينبغي البدء به. حصل عام 2008 أن تناهى لمسامع (بل غيتس) فكرة التأريخ الكبير، وقد شعر أنّ مثل هذه البرامج الدراسية يجب تعليمها على نطاق المدارس الثانوية.
اتصل غيتس معي، وأنشأنا معاً مشروع التأريخ الكبير Big Histoy Project الذي تكفّل عام 2013 بعبء تطوير برنامج دراسي مفتوح المصدر online مجاني في مادة (التأريخ الكبير) للمدارس الثانوية في الولايات المتحدة وكذلك لكلّ من يرغب بالتعلّم الذاتي المستقل على نطاق العالم كله.
يبدو الأمر وكأننا نكتشف رويداً قصة الأصل الحديثة الخاصة بنا – نحن الجنس البشري – تلك القصة التي تشدُّ أركان كلّ المجتمع العالمي الذي يضمُّ سبعة بلايين من البشر في عالم اليوم. هذه القصة ستكون قصة الأصل الأولى في القرن الحادي والعشرين التي تتناول كلّ البشرية (ولاتقتصر على مجموعة بشرية دون سواها، المترجم).
أؤمنُ – بالنظر إلى السبب الوارد أعلاه – أنّ التأريخ الكبير سيوفّرُ قوة جامعة عظيمة الشأن في عالمٍ ستغدو فيه المشاركة العالمية عنصراً أكثر حيوية من ذي قبلُ، لكن ربما ماهو أكثر أهمية من هذا هو أملي في أنّ التأريخ الكبير سيوفّرُ للدارسين – طلبةً وعامّة الناس – إحساساً بموضعهم في الصورة الأكبر للعالم الذي يتشاركونه مع الآخرين من البشر.