التقييـــــــــــــم والامتحانـــــــــــــات : التوجيه والنجاح بين مبدأ الاستحقاق ونظام الكوطا

من الملاحظ أن كل بلدان العالم , مهما كانت درجة التطور والتقدم التي بلغتها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ,,,وكيفما كان نوع الاختيارات التي نهجتها في قطاع التربية والتعليم والتجارب التي عرفتها على هذا المستوى , تكون لها مواعيد محددة للقيام بوقفات للتأمل في نظامها التربوي ومراجعة ثوابته أو متغيراته أو هما معا … وهي إذ تقوم بذالك فإنما غالبا ما تسعى إلى ملائمة النظام التربوي والتعليمي مع التطورات والتحولات التي شهدتها مختلف مجالات الحياة وذالك ليصبح هذا النظام منتجا للإنسان , قادرا على التعامل مع المستجدات والتحولات , بل وقادر على الفعل فيها بايجابية (د. عبد الله ساعف(
من مؤشرات التطور والتحول في المنظومة التربوية الاتجاه نحو التجديد المستمر في المناهج والبرامج ومنهجيات التكوين والطرائق المعتمدة وكذا تغيير أساليب التقويم ونظمه بحيث يصبح وسيلة لتجويد التعلم وتصحيح مساره , كما انه يجب أن يبقى التقويم عملية مستمرة مصاحبة لعملية التعلم , ومن تم لن يكون تقييم المتعلم أو تقويم تعلماته بناء على اختبار أو امتحان نهائي , بل في ضوء متابعة نموه المعرفي و المهاراتي و كفاياته التواصلية و الإستراتيجية,
واعتبارا للدور الأساسي الذي يلعبه التقويم في رصد الاختلالات والإشكالات وفي اعتماد آليات وأساليب لتدبير الإصلاح التربوي قصد الرفع من جودة التعليم ,,,فانه يشكل المدخل الأساسي لكل إصلاح, فما هي أهم الملاحظات الأساسية التي يمكن تسجيلها عند محاولة تشخيص التقويم المدرسي ونظام الامتحانات في نظامنا التعليمي ؟ :
-أولا – الامتحانات وتقويم مكتسبات التلاميذ هو أساس كل إصلاح ،لكن المفارقة التي تصدمنا هي أن موقع التقويم والامتحانات داخل المنظومة غير عادل وغير حقيقي حيث لم يكن يحتل إلا مرتبة متدنية من الاهتمام لدى المشرعين التربويين وموقع هامشي في التاريخ المدرسي العام .ويمكن الاستدلال بعدد الفقرات والمواد و الدعامات التي تم تخصيصها لهذا الجزء الهام من النظام التعليمي، سواء في وثيقة مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين أو في وثيقة الرؤية الإستراتيجية للإصلاح,
-ثانيا- اختلاف أساليب التقويم والامتحانات عبر كل الأسلاك والمستويات الدراسية تبين أن نسب الهدر والتسرب الدراسي والتكرار من جهة ونسب الانتقال و التخرج من كل الأسلاك والمستويات من جهة ثانية , ما تزال تجسد المشاكل الحقيقية لكل إصلاح تربوي، سواء تعلق الأمر بتطوير النماذج البيداغوجية أو بتجويــــد المردود ية الداخلية والخارجية للنظام التعليمي.
-ثالثا- استحضار الحصيص أو ( الكوطا ) خلال الفترة السابقة ,عوض استحضار الجوانب التربوية للتقويم الدراسي التكويني منه آو الإجمالي ساعد على استفحال ظواهر سلبية تمس بمبدأ تكافؤ الفرص والإنصاف وتخلف تنافرا بين نظام التحصيل ونظام التقويم ومن ذالك مثلا :
أ – انتشار الساعات الإضافية داخل المؤسسات وخارجها مؤدى عنها أو بدون مقابل و دون ضوابط مهنية و أخلاقية وتربوية , وفي غياب الأدوات المناسبة للتشخيص والتقويم . وخطط الدعم , أو بيداغوجيا الدعم .
ب – تنامي سلوك الغش في الامتحان وتطور أساليبه التقنية وتزايد المشجعين عليـــــه من خارج المجتمع المدرسي .
أمام اكتساح هذه الظواهر غير التربوية لمؤسساتنا ومدارسنا يطرح من جديد مشكل هذا المفهوم أي التقويم / أو الامتحان في ماهيته ووظيفته وغاياته .
لقد تناول الميثاق الوطني للتربية والتكوين في الدعامة الخامسة موضوع التقييم والامتحانات عبر سبعة بنود (من البند 92 إلى البند 98) وذكر الميثاق ما يجب أن تتصف به الاختبارات والامتحانات المدرسية ذات الطابع الإجمالي من صفات تقنية و بيداغوجية : كالوثوقية والموضوعية والإنصاف – الصلاحية والمصداقية – سهولة الاستعمال و النجاعة في التمرين – الشفافية والوضوح في التنقيط .
ولتحقيق مبدأ الموضوعية والإنصاف – كما جاء في الميثاق- دعا المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في الوثيقة الإستراتيجية للإصلاح إلى ضرورة إعادة الاعتبار والمصداقية للامتحانات الاشهادية والرفع من جودتها من خلال إعطاء الأولوية لامتحانات الموحدة جهويا ووطنيا تحقيقا لمبدأ الاستحقاق وتكافؤ الفرص .
وعلى ذكر الاستحقاق فان هذا المبدأ(الاستحقاق) كما يقال : هو ستار من دخان يحجب استمرارية الامتيازات كما جاء على لسان رايمر E-REIMER لذا يجب استحضار مبدأ آخر نص عليه الميثاق وهو (تحقيق مبدأ المساواة)و(تكافؤ الفرص) و(حق الجميع في التعليم) .لان المدرسة اليوم توجد في صلب المشروع المجتمعي لبلادنا اعتبارا للأدوار التي تقوم بها في تكوين مواطني اليوم والغد وفي تحقيق أهداف التنمية البشرية و المستدامة وضمان الحق في التربية للجميع .(الرؤية الإستراتيجية للإصلاح)
فهل استطاع موضوع التقويم / الامتحانات أن يحقق مبدأ الاستحقاق في أدائه أجرأته؟
النجاح والتوجيه بين مبدأ الاستحقاق ونظام الكوطا
إن اعتماد مبدأ الاستحقاق في النجاح والتوجيه يمكن أن يرفع من جودة التربية والتكوين , لكن يمكن أيضا أن يؤدي إلى تفاوتات في الاستفادة من هذه الجودة لصالح الفئات المحظوظة , حيث أن هذه التفاوتات لها علاقة بالمفارقات الاجتماعية، أي لها علاقة بعوامل خارج عن المؤسسة, ويعتبر التقليص من هذه التفاوتات صلب العمل السياسي والثقافي والحضاري.
إن التركيز على مبدأ الاستحقاق في النجاح و التوجيه سمح بظهور عيوب النظام التعليمي واختلال نظام التقويم والامتحانات من ذالك مثلا :
1.إن اعتماد مبدأ الاستحقاق في النجاح في مقابل إلغاء نظام ( الكوطا ) جعل الفئات المحظوظة تستفيد أكثر من الإنفاق العمومي على حساب الفئات المستضعفة وهكذا تحول الاستحقاق إلى منطق انتقائي للنخب أما التلاميذ المنحدرين من أوساط ثقافية شعبية فيجدون أنفسهم في وضعية الإقصاء والفشل . لقد أثبتت البحوث السوسيولوجية (برنشتاين 1959)و(بورديو 1964) أن حظ نجاح التلاميذ مرتبط بوسطهم الاجتماعي والثقافي أكثر مما هو مرتبط بقدراتهم و مجهوداتهم الشخصية والمدرسة ليست عامل مساواة بقدر ما هي عامل استمرارية للتفاوتات الاجتماعية , ويلعب الامتحان دورا أساسيا في هذه الاستمرارية (بورديو1970)
ذالك أن التقويم لا يعتمد على معايير تربوية موضوعية بقدر ما يعتمد على معايير ثقافية اجتماعية طبقية (المكي المروني – البيداغوجية المعاصرة -116/117)
ب – إن ظاهرتي التكرار والانقطاع عن الدراسة تعرفان انتشارا كثيرا في مختلف مستويا ت التعليم الشيء الذي يترتب عنه إهدار مهم للموارد والجهود ,وهذا ما يزيد من معاناة النظام التعليمي و من عدم كفايته الداخلية زيادة على عدم تكافؤ الفرص التعليمية بين التلاميذ من مختلف الفئات الاجتماعية , بل هناك من يتحدث عن طبقية النظام التعليمي .
ج – إن ألتوجيه والتكرار والفصل والنجاح هي أصلا قرارات تربوية ناجمة عن نظام التقييم والامتحانات , وليست مواقف جافة أو أرقام خاصة بالخريطة المدرسية ولذا يجب جعل مجالس الأقسام والتوجيه مجالا للنقاش التربوي تتخذ فيه قرارات تربوية مسؤولة
لان الأمر يتعلق بدمقرطة التعليم وجعله خدمة عمومية تستفيد منه كل الفئات الاجتماعية على السواء فقيرة أو متوسطة أو غنية.
د –في السابق كانت الكوطا (الحصيص) في التعليم الإعدادي (40%)موزعة على الجميع بالتساوي وفق ما يخصصه الإنفاق العمومي على التعليم , ويتوزع هذا الحصيص بشكل متساو على الجميع مؤسسات عمومية أو خاصة.
الآن وبعد إلغاء نظام ( الكوطا ) تبين أن نسب النجاح في المؤسسات الثانوية الإعدادية يختلف من مؤسسة إلى أخرى , ومن منطقة إلى أخرى , وبين المؤسسات التعليمية العمومية والمؤسسات التعليمية الخاصة , وان كانت هذه النسب ما تزال تخضع لحاجيات وإمكانيات الخريطة المدرسية وكذا طاقات استيعاب مؤسسات استقبال التلاميذ الناجحين أو الموجهين للمستويات التعليمية العليا , مما يجعلنا أمــام ( كوطات ) عديدة وليس كوطا واحدة حيث أصبحت نسب النجاح قوية في المؤسسات التعليمية الخاصة , وفي المؤسسات التعليمية العمومية المتواجدة في المراكز الحضرية أو بالأحياء الراقية . عكس المؤسسات التعليمية المتواجدة بالوسط القروي أو المتواجدة في الأحياء الهامشية حيث الهشاشة والفقر والحرمان وضعف الرأسمال الثقافي الرمزي, كما أن نسبة النجاح تكون اكبر بكثير بل مطلقة في مؤسسات خاصة لها طابع التميز أو ما شابه ذالك . ولتفسير هذه الظاهرة المخلة بالعدالة التربوية :
يمكن القول في البدء أننا لا نتوفر على دراسات سوسيو اقتصادية أو سوسيو ثقافية لتبرير ما سبق رغم أهمية هذه الدراسات لان التأثير السوسيو اقتصادي أو الثقافي على التلميذ أو أدائه أصبح معطى مركزيا وعاملا أساسيا لفهم التغيرات الحاصلة في المجال والفضاء الدراسي .
كما يمكن الجزم عبر الممارسة التربوية القول – ونحن على يقين – بان العمل البيداغوجي يتأثر بعوامل خارجية ذات طابع سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي , فألا هداف الأساسية للتعليم هي بمثابة الركيزة الأساس للنظام التربوي وتتحدد هذه الأهداف في المجال السياسي وفي توفير الموارد المالية وتقوية البنيات وتجديد المحتويات والطرق التعليمية والممارسات التربوية , مثلا ,حين نطلق شعار(تعميم التعليم) فهو ليس مسالة بيداغوجية بالأساس بل المسالة هو قرار سياسي وتخطيط استراتيجي .
ولقد أثبتت البحوث والدراسات العلمية التربوية (بيير بورديو1964) أن حظ نجاح التلاميذ مرتبط بوسطهم الاجتماعي والثقافي أكثر مما هو مرتبط بقدراتهم ومجوداتهم الشخصية والمدرسة ليست عامل مساواة بقدر ما هي عامل استمرارية للتفاوتات الاجتماعية ويلعب الامتحان / التقويم دورا أساسيا في هذه الاستمرارية (بورديو)ذالك أن التقويم فيه لا يعتمد على معايير تربوية موضوعية بقدر ما يعتمد على معايير ثقافية اجتماعية طبقية يمكن تلخيصها في التمكن من الخطاب النخبوي الذي يحمله التعليم والذي يعبر عن نظرة وتعامل مع الواقع, خاص بفئة اجتماعية معينة هي الفئة السائدة آو المهيمنة (المكي المروني- المرجع السابق).
إننا إذا كنا نسير في السنوات الأخيرة في اتجاه دمقرطة ولوج المدرسة- خاصة في التعليم الإلزامي – إلا أننا فشلنا في دمقرطة النجاح داخلها ,لان البيداغوجيا ليست مجرد إطار مرجعي طوباوي , بل هي محتويات ثقافية – اجتماعية طبقية يكمن دورها في التمكن من الخطاب النخبوي الذي يحمله(بيير بورديو).
ما العمل أمام هذه الوضعية ؟ إن السوسيولوجيا لم تعط حلولا عملية بل اكتفت بتوجيهات عامة منها :- ضبط أهداف التعليم – ضبط اللغة المدرسية لتسهيل التواصل بين المدرس و المتمدرس لا وسلة للتمايز – ضبط محتويات التعليم – جعل الشهادات تعبر عن القدرات و المؤهلات للأفراد لا عن مراتبهم الاجتماعية .(المكي المروني – ص 117)
وقدمت الرؤية الإستراتيجية للإصلاح تصورها لتحقيق الإنصاف من اجل مدرسة الجودة للجميع حين دعت إلى ضرورة إصلاح شامل لنظام التقييم والامتحانات على نحو يكفل تكافؤ الفرص بين المتعلمين من خلال :
-تطوير دلائل مرجعية دقيقة حسب المستويات و الأسلاك للأنشطة التقييمية التشخيصية منها أو التكوينية أو الاشهادية أو المندرجة في إطار المراقبة المستمرة .
-تخصيص المناهج والبرامج لحيز يتناسب ومكانة التقييم و أهميته من حيث التوجيهات التربوية والزمن والأنشطة والوظائف.
-تبسيط ومعيرة آليات التقييم والدعم التربوي ضمانا لتوفر المتعلمين على حد مقبول للنجاح ومتابعة الدراسة فيما بين المستويات والأسلاك التعليمية.
فهل بهذه الأدوات والإجراءات واليات والخطوات يمكن توفير الشروط البيداغوجية الملائمة لتقويم جيد , لا يكرس الفوارق الاجتماعية, بل يقلص من أثار الانتماء السوسيو اقتصادي و الثقافي على أبناء الفئات غير المحظوظة ؟؟؟؟؟؟

مدير ثانوية بالدشيرة الجهادية


الكاتب : ذ: محمد بادرة

  

بتاريخ : 21/03/2018