الجسد في تجربة عبد الله لغزار التشكيلية

 

لعل الفنون بصفة عامة لا تكون جديرة باهتمامنا كما بتفكيرنا إلا لحظة يكون إبداعها كاشفاً عن المُوَارَب والخفي، بل أيضاً المنسي والمكبوت le refoulé)) فينا. ويمكن اعتبار الجسد إحدى التّيمات التي ظل حضورها ضحلاً، بل نادراً في الفن التشكيلي المغربي، وربما كان ينبغي تعقّب وتقَفّي هذا الحضور، إلاّ أنه (هذا الحضور) ما أن يُعْلِن عن ذاته ويُفصِح عن نفسه مرئياً، حتى يُشكّل نوعا من الخرق (la subversion) في سياق كل ما يلغي الجسد ويقصيه. وسيكون هذا الخرق مُضاعفاً حينما يفصح عن عُريه في لوحات، هي أصلاً، ألواح، لأن الحامل (le support) لَوْحٌ.
اللوح (اللوحة)، الذي اختار عبد الله لغزار أن يكون حاملاً، يرتبط، بل وظيفته الأساسية والتي من أجلها صُنع، هي قراءة واستظهار القرآن «كلام الله»، والذي باستظهاره وتَدَبُّر معانيه، يُنَار الوجود ويكشف عن خباياه، إلاّ أن هذا اللّوح يُحيلنا إلى لوحٍ آخر، ذاك الذي في كليّته وشموليته تَكْمُنُ مصائِرُ المخلوقات أو الخليقة (la création) كما أرادت لها مشيئة الله أن تكون.
فالجسد على هذه الألواح، يتمظهر في عُريه غير المُوارَب والمُحاط والمُسَوَّر في غالب الأحيان، والمُتَحفّز أحياناً للخروج والابتعاد والنأي خارج خلفية مَلْئى حدَّ الطّفْح بكتابةٍ تُحيلُ على المقدّس. وهنا يكتمل الخرق؛ إذ الجسد (le corps) هو في سياقٍ، كما قلتُ، يُلغيه؛ سياقٌ من سماته العودة القوية لأيديولوجية طُهرانية، تُحارب الجسد وغرائزه. وتسعى إلى حجبه ليس فقط عبْرَ تخفّيه الكلّي داخل لباس مُعيّن، ولكن أيضاً عبر حظر وتحريم النّظر إليه؛ حيث الكائن ضمن هذه الرؤية لا جسدَ له. ولأنه كذلك، فإنه لا يُرى.
وينبغي أن أشير إلى أن هذه الكتابة، التي تملأ هذه الألواح، ما عدا الحيّز الذي اختطّهُ لهُ، الجسد، ليس ارتداداً للعلامة على ذاتها، وإقصاءً للمدلول بغايةِ خلقِ موضوع جمالي خالص وبالعلاقة معه، ولكنها ترمزُ إلى الإطار اللاهوتي/ الطُّهراني الذي لا يزال يأسر الجسد داخله ويلغيه. وسنرى كيف أن هذا الجسد في عُريه هو جسد لا يزال في طور التكوُّنِ (en gestation) وذلك لاعتبارات مُعيّنة.
ظل الجسد مصدر قلق وحيرة ليس فقط بالنسبة للكائن الأرثودوكسي (orthodoxe) ولكن أيضاً للصوفي وإن حاوَلَ السُنّي التصالحَ معه، بتمسكه بمؤسسة الزواج، لأنه يتيح له السيطرة على شهوته، فالصوفي اتجه إلى نزع الحجب عنه (كل ما يُعيق حركة النفس والروح من تصورات، هواجس، رغبات، ينبغي قتلها)، أي قتل الجسد، لأنه يَتعرّى ليَحُلّ المتعالي فيه.
فالحلولُ في ما يُبِطِنُه من رمزية، هو تحوُّل الجسد الصّوفي إلى أنثى، تبلوره استراتيجية إغراء، بغاية أن يخصبها المتعالي، في حين أن الجسد الذي تسعى الثقافة الحداثية لصياغته عبر تفكيك كل ما يلغيه، بل يستلبه، جسدٌ لا يتلقّى المعنى من خارج ذاته ولا ينتظر أن يُعطى له. إنه هو الذي يُعطي المعنى ويمنحه، وبذلك يكفّ أن يكون في غربة مزدوجة؛ غربته عن ذاته وغربته عن العالم.
إن الجسد في تجربة لغزار، جسدٌ موزَّعٌ بين الاتجاه إلى الاستكمال شكلاً وكذا البقاء قيد التشكُّل/ التكوُّن (gestation). فهذا الأخير يشير إلى أن ولادته ما زالت مُتعسّرة وإن لم تكن متعذّرة. والشروط التي تجعل هذه الولادة ممكنةً، وتُعجّلُ بها، مُنْتَفاةٌ. وستظل ولادة هذا الجسد مستحيلة أنطولوجياً (ontologiquement) لارتهانها إلى شرط بزوغ الفرد؛ الفرد الخارج عن المطلقات بكل أنواعها، والمقوض لها. الفرد الحُرّ الواعي بذاته وسيدها، حينئذ سيكون بالإمكان استقصاء الجسد ظاهراتياً (phénoménologiquement). وعُرْيُ الجسد هنا، سواء ذاك الذي ما زال في طور التشكُّل أو الذي يُقارب الاكتمال، عُرْيُهُ ليس غايةَ الكَشْفِ عن مفاتنه وشبقيته، بالرغم من نُزوعٍ شِبْهِ شبقيٍّ يتّصِفُ بالجسد الشّبْه مكتمل؛ عبد الله لغزار يتجه إلى فضح القيود اللاهوتية التي تُغيّب الجسد كشرط لانعتاق الجسد.
فشعرية الجسد، في هذه التجربة، هي شعرية جسد لم يبلغ حالة اكتماله بعد. ولأنه كذلك، لا يستعصي عليه اكتشاف شهوته (sa propre sensualité) بل (نزعته الحسية) (son sensualisme)؛ لا يختبر شبقيته (érotisme) فقط، ولكن كيف تُفضي الحواس إلى التعرّف على العالم، وكيف تحصل المعرفة به. هذا الاكتمال يجعل الجسدَ غائباً عن ذاته وعن الآخر.
الجسد هنا، هو جسدُ ما قبل الوعي بذاته، يكفي أن نرى أن كل الأجساد التي تبين عن نفسها هي بدون ملامح، بلا عيون، مجرد كتل، ولولا آدمية اللحم (la peau) لانزاحت وانسربت كينونتها اللحمية (sa chair). فغياب الملامح والعيون، أي ما يشكل هويتها وفرديتها، يومئ إلى غياب الوعي. مما يؤكد مرّة أخرى على أن الجسد الذي اشتغل عليه لغزار، جسد ما قبل الانعتاق. الجسد المنزوع من ذاته، متوجس من أي فعل تنويري، يحرّره من قيوده؛ وهذا ما يمنح هذه التجربة فرادتها وبعدها الطليعي.

*شاعر ومترجم


الكاتب : محمد بوتخامت*

  

بتاريخ : 05/12/2019

أخبار مرتبطة

743 عارضا يقدمون أكثر من 100 ألف كتاب و3 ملايين نسخة 56 في المائة من الإصدارات برسم 2023/2024   أكد

تحت شعار «الكتابة والزمن» افتتحت مساء الأربعاء 17 أبريل 2024، فعاليات الدورة الرابعة للمعرض المغاربي للكتاب «آداب مغاربية» الذي تنظمه

الأستاذ الدكتور يوسف تيبس من مواليد فاس. أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز ورئيسا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *