السي عبد الرحمان الاسفي…في ضيافة السي محمد الوديع اليوسفي

ليس هناك أي خطأ في العنوان أحبتي…

مارس 1973
كنا وقتها أطفالا حين حضر زوار الليل لاعتقال والدنا محمد …كان ذلك بالشارع العام في محاولة فاشلة لاختطافه…لم يكن وحده في تلك الخرجة…
عند زاوية من زوايا أزقة حي الوزيس، أَرغمتْ السيارة السوداء سيارة الاسفي البيجو404 على التوقف بطريقة هوليودية مازال أخي جمال – الذي كان بعد طفلا – يتذكر تفاصيلها…
ترجل الضابط صاحب النظارات السوداء التي كانت تغطي وجهه كاملا…أو هكذا خُيِّل للصبي حينها… وصرخ  في السائق محاوِلاً  النَّيْل من الكبرياء الذي طبع مسارَهُ منذ خَبَرَ أول اعتقالٍ وهو في ربيعه الرابع عشر سنوات الثلاثينات…
«هل أنت هو محمد اليوسفي…؟» سأل الضابط
« بالفعل أنا محمد اليوسفي…وأنا كذلك عبد الرحمان الآسفي إن كان يروقكم ذلك…» أجاب الاسفي مبتسما…
ارتبك الضابط واستدار نحو رئيسه متسائلا..
« أرجو أن تتأكد من هوية الشخص المبحوث عنه هل هو الاسفي أم اليوسفي…»

بحنكة المتمرس أجاب رئيس الفيلق:
« هما معا، اٌعْتَقِله ففي كل الأحوال إن كان الاسفي فهو من نبحث عنه وان كان اليوسفي فالصيد ثمين كذلك…»
رحلوا ومعهم الصيد الذي حسبوه اليوسفي…وكان الاسفي منتشيا بالمقلب الذي نجح به في خلط أوراق أخطر جهاز مخابرات في ذاك الزمن…
عادوا بعد أقل من نصف ساعة لتفتيش المنزل..

كانت ثريا والدتي عند الباب حين دُقّ الجرس بعنف…
فَتَحَتِ الباب وتلك الابتسامة التي كانت تُربِك زوار الليل تعلو محيَّاها…
توجه إليها ذاك الضابط الذي كان قد فقد صبره…هو لم يعد يفَرّقُ بين من وجب اعتقاله وبين الشخص الذي اعتقل…اليوسفي أم الآسفي… صاح فيها في  محاولة فاشلة، مرة اخرى، لإخفاء ارتباكه…

« نحن في منزل اليوسفي أليس كذلك؟…»
« طبعا انتم في منزل اليوسفي…وفي منزل المهدي بنبركة وفي منزل عبد الرحيم بوعبيد…هو منزل محمد البصري كذلك…إنه منزل كل الحالمين بوطن آمن ورحيم…مرحبا»
تلعثم الضابط وكان منفعلا، دفع باب المنزل بقوة وولج إلى فناء الدار حيث كنا أطفالا مشدوهين بما يحدث…
« كلهم أبناء اليوسفي؟…عفوا الاسفي…»
«هم أبناء الآسفي الطبيعيون… أبناء اليوسفي…أبناء عبد الرحيم بوعبيد…أبناء جميع من له «الكبدة» على هذا الوطن كذلك…هم من سيحملون المشعل بعدنا»…أجابت ثريا برباطة جأش…
وكنتُ أنا الطفل، الصموت، الذي بالكاد تجاوز الثانية عشرة أُقسم في دواخلي ان آخذ بثأر السي عبد الرحمان…وبثأر والدي…
ربيع 1980
في أيام العطل، الآحاد والأعياد الدينية، كان الاسفي يأخذني لزيارة كل عائلات المعتقلين والمغتربين، وكانت والدة السي عبد الرحمان على رأسهم… وكان قد كلفني بعيادتها والحرص على الاستجابة لطلباتها…
والدة السي عبد الرحمان التي رافَقْتهُا لمدة طويلة.. كانت تعتبر الاسفي ابنها الثاني…وكانت تعتبرني الحفيد الذي لم يكن…
حين تلقَّت استدعاء غير رسمي من القصر ربيع 1980…سارعتْ بالاتصال بالاسفي الابن الثاني واستشارته في الذهاب من عدمه…

«اذهبي وانصتي لكل الاقتراحات وعودي لنا…»
ذهبت…ورأسا عادت إلى منزل الآسفي…كان اللقاء مع الملك الحسن الثاني الذي طلب منها إقناع ابنها بالعودة إلى الوطن…

أجابته بعفوية وبقلب ام تحن إلى وليدها…
«أنا غانقولهالو…وهو غايسمعلي…غير وصي البوليس ديالك ايبعدوا منو…»
فهم الملك الرسالة…وأجاب مربتا على كتف العجوز…»فليدخل لا خوف عليه…»
عادت والدة السي عبد الرحمان رأسا  إلى منزل الوزيس حيث كان  الاسفي منتظرا نتيجة اللقاء…
رن الهاتف ذاك الأحد وحين رفعتُ السماعة كان على الخط صوتٌ تطغى عليه اللكنة الشرقية الجميلة..» تَوْفٍيقْ أليس كذلك؟ كيف الحال…أريد الاسفي…»لم يكن ليُفصح عن هويته…
تلعثمتُ، عرفت انه الأب الثاني لأول مرة يصلني صوت اليوسفي عبر الهاتف…
كان يُحَضِّر، في هدوء، مع الاسفي للعودة العائلية والسياسية…
بعد مدة من عودته إلى أرض  الوطن، ذات زوال اخبرني الوالد أن لي موعدا مع السي عبد الرحمان في بيته وأنني مكلف رسميا، بمهمة سائقه الخاص …
ارتبكت…أنا الحديث العهد بالسياقة…كان عند الموعد بالضبط…عند باب منزله…فتح باب البيجو 404  وجلس الهرم أمامي…
على الطريق، انتبه لارتباكي فحاول الدردشة سأل عن دراستي…وعن اهتماماتي وآخر الكتب التي قرأتها…لكنته الشرقية كانت مثيرة…وجميلة
المصطفى المزياتي كان أول من أخبرته بالحدث…وكم تمنيت أن يكون معي في تلك اللحظة…
في المنزل كان جمع من الناس ينتظرون وصوله…ولا أحد استمتع باللحظات الجميلة التي رافقتُ فيها السي عبد الرحمان…

يوم 29 نونبر 2019 في لقاء عائلي بمنزل الحفيد يوسف سألته…»هل ستحضر إلى لقاء أصدقاء الأسفي غدا بمنزل الوالد بالوزيس…؟»
«عارٌ أن تسألني…بالطبع سأحضر…» أجاب بانفعال…
وكان اللقاء الذي جمع ثلة من الأصدقاء
كان اللقاء الحميمي الذي ودعهم خلاله…وكم حرص على الحضور
كان لقاءه الأخير… لقاء الوداع يوم 30 نونبر 2019.
سيظل السي عبد الرحمان بالنسبة لي الأب الثاني… ولن أخفيكم أني حزين جدا لفراقه… ليس لأنه الأب الذي فقدته وأنا على مشارف الستين سنة فحسب… ولكن لأنه البوصلة التي أنارت طريقي منذ تعرفت على الرجل…
أعشق السي عبد الرحمان…الوالد …عليك الرحمة أيها الحكيم…
وفي الأخير… لن أجد أبلغ من أشعار درويش… في هذا الرثاء…
رحل الذين نحبهم….رحلوا…
فإما أن نكون…أو أن لا نكون….


الكاتب : توفيق الوديع

  

بتاريخ : 03/06/2020