الشاعرة السورية المغتربة.. د.ريم سليمان الخش شاعرة الوشايات الأنيقة

قد تنسحب النعوت التي يمكن أن تُطلق على الشاعرة السورية المغتربة د.ريم سليمان الخش، وتنطبق على نزر ضئيل من شواعر أخريات على مرمى خارطة عالمنا العربي ،منذ اندلاع الشرارات الأولى لتبديل جلد القصيدة مع تحفّظ شديد على الرّوح الذائبة في وشايات الأنوثة المثقلة بهواجس الموت والدّمار الشامل وتشويه السّحنة الطفولية للأوطان.
نوتة ساخطة تسجّل استقواء الرؤى الضبابية على امتداد مسيرة إبداعية طافحة بتجديد قوانين اللعبة الكلامية،ونبرة دامية بانكسار وانحسار الحال.
تحرز ريم الخش تقدّما ملموسا مع كل قصيدة تنسجها قريحتها المنذورة للذود المجاني عمّا تبقّى من ملامح وطن مطعون ، في بيئة عربية غير قارة،حتّى لتلوح وكأنها تؤدي طقوسيات رقصة أخيرة على بساط من الجمر.
شعرية فاضحة تنعي لنا صورة العربي ،تدقّ ناقوس الخطر المتفاقم والمتمادي في قطف الأرواح البريئة جدا،و المؤذن بمزيد من الضياع و الانهيار.
بدهشة وتأفف طالعت آخر نصّ لشاعرتنا،كانت وافتني به منذ فترة،فأحسست من خلال تمحيص خبئها التعبيري الرّصين المخلص لخليلية تتباهي ب» نيوكلاسيكية» المعنى،مثلما تمليه حقبة ما بعد حلمنا العربي المذبوح على أولى عتبات ثورات العرب ،وكيف أنها تمّ تصريفها جميعها إلى جحيم أكول لا نسمع له حسيسا،عدل ما يشوكنا بسمّ المباغتات فيغتال الكائن والوطن والحلم على حدّ سواء.
قرأت الفصاحة في دمعاتها، وأكاد أزعم أن هذه القصيدة التي سوف أدرجها فيما بعد،اختزلت حياة شاعرتنا ،واستنفذت أبرز المحطات في مرحلة الهزيمة العربية على طراز كارثي يصوّره تاريخ إجهاض ثورات العرب في جنينيتها وقبيل اكتسابها مقوّمات اشتعالها، ثأرا للحقوق المهضومة والكرامة والعدالة المفقودتين والإنسانية المهدورة.
لنا أن نتملّى ملء جرح يعاند أفق الاندمال،ويشرع بصيرتنا على الصديد والقيح الذي نتقزّز حتّى لمجرّد نقر آذاننا بسيرته الجاثمة كلعنة وبصمة عار تلطّخ واقع جيل بأمله.
وهكذا تستفزّنا أسئلة من قبيل: أيّ مسار هذا الذي ورّطنا به الناشئة والفلذات المسافرة في مستقبل نكوصي وجنائزي بكلّ المقاييس.
عبر هذا النص ،وكأنّي بشاعرتنا، أدركت سقف الحياة المفتوح على هوة للمنسيين، خطوة انتحارية وتوغّل في المستنقع الذاتي أنأى ما يكون، حدّ نقاط ابتلاع وجودنا واجتثاثنا وطمرنا في حفر وحدود اللاعودة.
مشهد شعري يزاوج ما بين الغرابة وفصول الرّعب المتراخية خيوطه لتخنقنا تباعا:
[ حمى تراودني قد مزّقت جسدي
كأنّ سطوتها حبلٌ من المسدِ
حمى تباغتني في ثغرها حممٌ
ألقت حبائلها ما عدتُ ملك يدي
هما اثنتان: لظى عشقٍ تؤازرها
لظى التّغرُّبِ ..ما أشقاك يا كبدي
قلبي تلوّى كطيرٍ حان مذبحه
مذْ بيع حقلك للأغراب عن عمدِ
لم ألقَ وجهيَ قد ضاعت ملامحه
وجهٌ تماهى مع الأحزان والكمد
كم رحتُ أندب محموما وأذكرهم
نارُ التفرعن ما  أبقتْ على أحدِ
فرعون قهري كم أضنى معيشتنا
ناديتُ موسى وغير النار لم أجدِ
يا ربّ موسى خلعتُ النعل مبتهلا
أن تطفئ النارَ عن أهلي وعن بلدي
لو كنت أملك صك العفو عن زمني
لعادت الأرض للجنّات والرغد
أو كنتُ أملك إرجاع الزمان إلى
خطيئة الأهل والتفاح والجسدِ
لما رضيتُ بإغواءٍ يكيدنا
دهرا من الجوع والآلام والنكدِ
مصلوب دربي لا أحصي توجعه
هذي جراحك يا عيسى بقعر يدي
ِسكران قلبك لا خوفٌ ولا جزعٌ
….
أراقصُ الموتَ مثلي الموتَ لم يرِدِ ].
ترنيمة بحجم كآبة جيل لدرجة تبييض المآقي ، و كأنكى ما يكون الخطاب الحماسي مشبوبا بفوح الحكمة وخيار التريّث في معالجات اللحظة،واجتراح حلمية مصطبغة بشطحات المخيال تبعا لصوت خفيض تعاود من خلاله الذات ترتيب أزمتها التي هي جزء من تبعات المساس بهوية وطن وجراحات تطال كاريزما جيل وتنفش في قداسة انتماء.
حلمية سانحة باسترداد النفس بعد ذبحات قلبية متناوبة على الأنوثة في جوانبها الهشة المكابرة والمحمولة أيضا على أنوية لا تقلّ فحولة عمّا قد يناطحه الجنس أو النوع الذكوري الموازي ،فيما يرتبط بتقاسم أعباء الوجع العروبي والغبن الإنساني إجمالا.
ذلك وفي ضوء عتبة النص ذات الوسوم» أراقص الموت» ،نلفي الذات فضلا عن ميكانيزمات القول الشعري الأخرى ، تلتفّ على الغيبيات واللايقين ممزوجا بروح متشائلة تتوسل عبر إقحام الرّمز الديني، مناخ الفوقية والعلوية وتدخّل يد للغيب بما هي طاقات فوق القدرة البشرية وحدّ الإعجاز وتحقيق الكرامات والخوارق في سبيل التمنّي، وقلب الصورة من إلى ما تشتهيه ذات الانكسار والانحسار العاصف ذبولا و موتا واغترابا وزلزلة روحية رهيبة واشية بانقراض وشيك.
إنها ريم، شاعرة الوشايات الأنيقة بامتياز،حتّى وإن أنهكها التحليق على جناح، وأضجرها الارتحال على ساق واحدة فقط،في عالم الحطام والتخّبط والفوضى والهذيان، فإنها لن تتوب عن بوحها الشجي المقفّى الآخذ منسوب غوايته ومرارته في التنامي وترع كؤوسنا نحن الأسراب الظامئة الظمأ لأحجية متزمّلة بعنفوان مباغتة راهن الموت والنار، قصد إطفاء البعض من لظاه بنورانية وعذوبة الحرف، إذ يزهد في الأقنعة، كي يعرّي لنا بالتمام ،جهات السلبية والنّقص وسائر ما يغلّف المرحلة بما هو نقيض لإنسانيتنا وفطرتنا السّليمة، طعنا ونكاية في نواميس استقرار وازدهار الكائن والكون.

  • شاعر وناقد مغربي

الكاتب : أحمد الشيخاوي *

  

بتاريخ : 22/11/2017