الشعر والمعنى

لا لزوم للمعنى في الشعر، لا ضرورة للدلالة فيه يقول اتجاه نقدي جمالي له موقعه واعتباره في النظر النقدي، والتلقي الأدبي العام. بينما يَنْبَري اتجاه آخر له عُدَّتُهُ ومنظوره، للقول بلزومية المعنى للشعر، إذ هو مقوم مندغم وَمُسَامِتٌ للنص الشعري إذا شيءَ أن يقبل عليه / التلقي، ويتداوله الخاص والعام، وفي مقدمة الكل : المؤسسات التعليمية، والشرائح العريضة من المواطنين ذوي الثقافة المحدودة، والاستيعاب الأدنى.
وبينهما، بين هذين الرأيين أو المنظورين النقديين الجماليين، يقف الشعر محتضنا معناه ولامعناه، تقف الكلمة المنتقاة، والصورة المنحوتة بما هي تخييل ومدلول لتعلن وجود الشعر بها، ووجودها بالشعر. أي أن وجودها المادي والصوتي والموسيقي يحمل أمشاجا ملونة من معان مختلفة، وأطيافاً منمنمة من دلالات متعددة. إذ الدال في الشعر – الذي هو الكلمة بما هي لبنة أساس في تشكيل اللغة العليا التي هي الشعر- يقول دلالته بطريقة مخصوصة، ينشر معناه، ويحتمي بشرنقته التصويرية والجمالية مسبغا على فضائه النصي، أعجوبة كينونته في حدها وخطها المرسوم بدقة وعناية، ومهارة وتعهد، تقتضيها الدربة والمراس، والتشطيب والمحو، بغية الوصول إلى زهرة الشعر الفواحة الملونة العطرة. ومعنى هذا الكلام أن الشعر يحتاز المعنى، وينبذه، يستبطن الرؤية ويطمسها، يستطيب الزئبقية وَيَمُجُّها، يركن إلى الفهم العادي البادي الذي يستنيم إلى المنطوق، ويبعثر السطحية إياها إلى ما يثوي بداخله، ويتجوهر في أطوائه وحناياه من لؤلؤ مكين، بعيد المهوى، سحيق الغور، وارد المستحيل. ومعناه أيضا أن القصيدة تظل خاما حتى وهي تمور وتغور وتغلي بالأحاسيس والمشاعر الدفينة، والرؤى الحاذقة ذات الأبعاد والخلفيات الفكرية والفلسفية التي ينجح الشعراء الكبار في صهرها وتنخيلها، والإبقاء على ما يومض فيها، ويتلألأ بين أجنحتها، ومعناه ثالثا أن القارئ المتلقي هو من يضفي المعنى على النص المقروء، على النص الشعري وهو يرفع غموضه الماسي متحديا.
إن المتلقي – في ما خَلُصَتْ إليه نظريات يَاوْسْ وإيزَرْ وإمْبرْتُو إيكُو وآخرين – هو من يعطي للنص ديمومة وحياة، يلتقط المعنى الثاوي الغميس في بحر التجليات العرفانية والغنوصية من خلال إعمال النظر المعضد بثقافة تاريخية، ومرجعيات هي بمثابة حبل السرة الواصل بالنص المقروء، وذائقة جمالية وفنية تَرَّبَتْ ونضجت في أتون القراءات الكثيرة والمتنوعة.
هكذا يلتقي الأفقان: أفق القارئ المفترض الذي يُعَوّلُ عليه الباث بأفق هذا الأخير، أفق الشاعر – المبدع. فإذا ما التقيا، وقف القارئ على أسرار النص، كما وقف النّفَّري على هامة الحرف، و»قبض» على جذوته المشتعلة، وناره الموقدة، و»طوق» معناه، أو معنى معناه بتعبير عبد القاهر الجرجاني، أو لامعناه في ناظر نظرية نقدية شعرية أخرى.
وفي كل الأحوال، فإن الشعر يزداد لمعانا وتوهجا، ويرتفع ويعلو وهو يتحسس أنامل مرتعشة تقترب منه من دون أن تدنو، وقلبا يخفق بإيقاع متسارع في صدر هش كقلب عصفور بَلَّلَهُ القطر، ونظرا ثاقبا يزيح اللحاء والأستار، والقشور، والطبقات ليصل إلى المكنون، المخبوء، إلى الروح تتسامى، واللغة تتوهج كألسنة النار البوذية المقدسة.
إضفاء المعنى على الشعر ولو من خارج الشعر، ضرورة لاستمراره أو لإيهام النفس باستمراره، بالحَري، أو لانقداحه الدائم عبر التلقيات المختلفة المتقاربة والمتباعدة، المتوائمة والمتنابذة. ذلك أن المعنى المطلوب والمعنى المنشود، والمعنى المُخْتَلَق أيضا، هو ما يمنح طَعْما للحياة، ونكهة للوجود، وجمالا للفنون جميعها، وما يغري بتجذير الإقامة في الحياة والوجود. فالشعر بهذا المفهوم العام المرتبط بالحياة في فورانها وتدفقها وسيلانها، وانسرابها، وَتَسَرْسُبها، يَمَسُّ كل تجليات الكتابة الراقية، وأشكال التعبير الإنساني الجسدية والرمزية كمثل اللوحة والسوناتة، والموسيقى والرقص، والرواية، والمسرحية، وغيرها.
يبقى أن نُطَّورَ أفهامنا ومداركنا وأحاسيسنا، وَحُدوسَنَا إذا شئنا أن نقيم في الشعر، ونرفع له طُنُب المعنى كخيمة «النابغة الذبياني» بهدف فهم ما يكتب، وما يقال، منتصرين لجواب أبي تمام الشاعر العملاق، وقد سُئلَ عن «إلغازه» و»طلاسمه» الشعرية من وجهة نظر نقدية عربية تقليدانية نمطية : «لم لا تقول ما يفهم؟»، وكان الجواب شعريا عميقا لا يزال يرن في سمع الأزمان والأيام : «ولم لا تفهم ما يقال؟».
وفي الجواب اللابس إهاب سؤال، ما يكشف ضحالة الفكر النقدي، وانحباس الاستيعاب الجمالي، ويحث – بالمقابل- على التسلح بالعلم أي بالثقافة والقراءة الشاملة إذ من شأن ذلك أن يقوي ملكة الحس والعقل، ويغذي الذهن والذاكرة، ويرهف الإحساس، ويشحذ الذائقة الفنية، ما يتحصل معه، الفهم الشعري الرفيع، والغوص في «ظلمات» النص وصولا إلى الضوء المتواري خلف سُجُفها.
ولا يقصد بالمعنى الشعري الملتقط بشصّ الفكر الثاقب، وسطوة القراءة التركيمية، ما يمكن العثور عليه في «الشعر السياسي» أو الدعوي أو الإيديولوجي، إذ أن الشعر بما هو سيد الكلام، وبما هو سنام اللغة، وذروة عبقريتها، لا يسمح للأنماط المذكورة بولوج ساحته، والانتماء إلى نبضه ونوعيته، وطبيعته. فالشعر إيقاع وَسيعٌ، ومخيال وَقَّادٌ، وتصوير فادح البراعة، وتشغيل للغة تشغيلا ناعما كما نُقَطّرُ الزهر، وَنَشْتَارُ العسل. بينما الأنماط إياها، لقيطة، غير منتسبة، فهي أقرب إلى النظم، والشعاراتية، والهتافية والتحريض منها إلى الشعر بمعناه الفني الجمالي السامي الهفهاف.
نعم، قد يحدث أن نجد نبض الشعر في نص فني سياسي، لكن لدى الشعراء الكبار وهم قلة على كل حال، أولئك الذين صهروا – باقتدار وموهبة جبارة – الإحساس الفاجع بالواقع، وكشفوا عن أعطاب وعورات الأنظمة، والمؤسسات الفاسدة، بنبل سياسي عميق اقتضته المعاشرة الطويلة للشعر، والصحبة الصوفية له، والخبرة الثقافية العميقة، والتجربة الحياتية الروحية والوجودية المكتنزة.
في تلك الفجوة – مسافة التوتر التي تحدث عنها النقد البنيوي، والمهيمنة الجمالية التي تحدث بصددها الشكلانيون الروس، يقبع المعنى كبيضة السَّمَنْدَل، ويرن خافتًا مهيبا كما يرن جرس باخرة ضائعة في أوقيانوس بعيد، وينشط لامرئيا غامضا كبكتيريا التكوين البدئي، والنشوء الانبثاقي الفجائي العظيم.
وبعد هذا وذاك، هل كل الشعر هو ذاك، هل كل الشعر الذي نقرأ في مختلف الألسن واللغات، والجغرافيات والحضارات، ينطوي على الفتنة المستكنة، ويصحو على نباهة المتلقي العنيد، الذي يشق المحارة بحثا عن لؤلؤة المستحيل؟
أخال أن الجواب سيكون سلبيا ما يعني أننا كنا بصدد الحديث عن الشعر الشعري، عن اللغة وهي تمتطي غمامة الضوء المكنون، وتتمرأى بسوالفها أمام مرايا الينابيع الأسطورية، وعلى ضفائر وغدائر النساء المقذوفات في جرار الذكريات، المسقوفات بأزهار البراري، والمخفورات بقناديل المعنى في الليالي الداكنة، ليالي الشتاء المقرورات والمنذورات للأشباح والجن، وعساكر اليومي المدججين بالسياط والجزمات.
أما الشعر العاري، المقروء من الوهلة الأولى، الذي يسفح معناه عن بكرة أبيه، فلا مجال له عندنا، ولم نَعْنه أبدا هنا، كما لم نشر إليه قيد أنملة إذ هو يقول نفسه، ويعرض فكرته على أول طارق، وينشر سره – إن كان له سر- عند أول سؤال، وعند مبدإ أي فتح ومراودة.
لنقل – في الختام -: أَيُّ معنى في الشعر ما لم يكن الشعر شعرا في الحقيقة والمجاز؟. فالشعر قليل، والشعراء كُثْرٌ، و»الجمهور» العريض لم يعد يلتفت إلى الشعر لأن الشعر لم يعد يلتفت إليه؟. فكيف نحل المفارقة؟ وفي ما سُقْناه غمز ولمز من قناة الشعر المغلق، ومن القارئ السطحي الذي يقرأ كل شيء بخفة، وينثني مهزوما عند أوّل صَدّ !.
فهل من سبيل إلى تمييز الشعر من اللاشعر؟، هل من وسائل نقدية منهجية ناجعة تساعد المتلقي على معرفة الشعر المحكك الأصيل من الشعر الخواطري الكليل؟. ما هي هذه الأدوات النقدية القمينة بتصحيح التلقي والاستقبال، وتقويم الاعوجاج، ورد الماء إلى مجراه، واطّرَاح النفايات والطحالب العطنة، والزعانف الزنخة إلى غير رجعة إنقاذاً لشعرية الشعر، ولجوهر الإبداع الحق ومعناه، والمجهود الفردي الإنساني الخلاق؟. وما الطرق الكفيلة باختصار التعب، ووعثاء التنخيل والغربلة، لفائدة القاريء «الضال»، المُكبّ على وجهه، والمتلقي الذي يلحس النصوص في عجلة متلذذا كما يلحس الآيْسْ كْريمْ، من دون أن يسبر غور ما يقرأ، ومن غير أن يؤثر فيه ما قرأ؟.
هي أسئلة حائرة تتوالد كلما قاربنا مَتْنًا شعريا مكتوبا بلغتنا أو بلغة أخرى حية أي بلغة تتداولها المنظمات والمراكز والمؤسسات والمعاهد المختلفة، وإلا فإن كثيرا من اللغات المحلية «الميتة» تنطوي على مخزون شعري، ومكنوز طقوسي أسطوري إبداعي بما لا سبيل إلى معرفته، فكيف الحديث عنه؟.
ويبدو لي أن اللجن التربوية في البلاد العربية التي تتكفل بوضع مناهج وبرامج ومقررات دراسية لفائدة الناشئة في كل أطوار التربية والتعليم وأسلاكه ومسالكه، مدعوة إلى اختيار أعضائها اختيارا يتسم بالنزاهة والموضوعية والعلمية، وذلك باستقدام الكفاءات الفكرية، والمبدعين والنقاد ذوي الشأن المعرفي، والحضور الوازن الإضافي في المشهد الثقافي إنْ مغربيا أو عربيا. ويكون دور هذه اللجن الانكباب على المتون الإبداعية شعرا وسردا وفكرا، بهدف اختبارها وفقا لعيار الشعر وعيار الإبداع بعامة، ووفقا لاشتراطات الفكر الرصين وعناصر علميته، مما يتحصل حوله «الإجماع» على حضور الأدبية المطلوبة، ومقومات الإبداع التي لا مَنْدُوحة عنها، والتي لا يختلف حولها اثنان أو التي يتحقق حولها نوع معين من الرضا والاستحسان.
وعلى مستوى آخر، تُسَنُّ سياسة إقرائية في البلاد ما يعني إطلاق برامج ثقافية، وتخصيص حصة أسبوعية متلفزة لعرض كتاب، وتقديم الإصدارات الجديدة مع التعليق المقتضب عليها، زد على ذلك، وجوب دعم الكتاب من لدن الوزارة الوصية، والوزارات ذات الهم المشترك، والرباط الثقافي السياسي، مع اقتناء النسخ الصادرة بأعداد وفيرة من قبل الجماعات والبلديات والمديريات الثقافية الجهوية، والأكاديميات التعليمية، والنيابات الإقليمية لوزارة التربية الوطنية، فضلا عن إقامة المعارض الثقافية على مدار السنة في كل جهات المملكة.
لاحظوا كيف قادنا بحث المعنى في الشعر إلى إثارة ما ينبغي اتباعه، والعمل به وإعماله من أجل تيسير سبل القراءة، والوقوف على الغث والسمين عبر تواتر القراءة، وانتشار الكتاب، والاحتفال به تعليميا وإعلاميا. فهذه العوامل منضفرة هي ما يسمح بالكلام الهاديء والمطمئن عن الشعر والشعرية، واللاشعر، والكلام المتهافت المكتوب الذي يملأ الصحافة، وبعض الأعمال المنشورة، والمواقع كالدمامل والبثور المتقيحة، واللطخات الغيسية المتسرعة.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 20/03/2020