الطاهر جميعي عدسة الفوتوغرافيا المشعة بالألوان

قصة الطاهر جميعي، رحمه الله، الذي غادر دنيا الأحياء نهاية الأسبوع الماضي بالمغرب، هي تفريع عن قصة شجرة أكبر لجيل إسمه «جيل الإستقلال»، أو ما قد يستقيم أن نسميه «جيل خيبات الإستقلال». وإذا كانت الغالبية اليوم تعرفه كفنان فوتوغرافي مغربي، فالحقيقة أن قصة حياة الرجل هي تراكب من المواقف والمراحل والأدوار والتخصصات. فالرجل إبن مدينة الرباط التي رأى بها النور سنة 1939، بواحد من أعرق أحيائها القديمة والشعبية، انتمى باكرا إلى الحركة الإتحادية من خلال فصيليها السياسي ومن المقاومة، وظلت علاقته قوية مع الراحل عبد الفتاح سباطة، ومع كل الصف الشبابي الإتحادي المتوائم مع منهجية الشهيد المهدي بنبركة. كان طالبا متفوقا في مجال الدراسات العلمية (خاصة الرياضيات والفيزياء)، ما مكنه من الحصول على الباكالوريا في نهاية الخمسينات بالرباط، والتوجه رأسا إلى ألمانيا لدراسة الهندسة.

كان وعي الطاهر جميعي، يصنعه، كما حكى لي رحمه الله في جلسات نقاش رائقة وهادئة (وهو من طبعه أنه كان رجلا فاضلا هادئا عفيف اللسان، وأيضا صاحب نكتة وقفشات وضحكته التي كانت تنطلق دوما محتشمة ما تلبث أن تكبر مثلما يكبر النخل في واحات الصحراء).. أقول كان وعيه يصنعه احتكاكه مع شرائح اجتماعية متعددة ومتعاضدة بالرباط في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، من درب ماراصا إلى حي المحيط إلى حي العكاري وحي الليمون وصولا حتى درب المعاضيض (الذي كان حينها حيا صفيحيا أغلب ساكنته من المناطق الصحراوية ومن امتدادات نهر درعة بالجنوب من زاكورة حتى طانطان مرورا بطاطا وآقا وكلميم وغيرها). كان وعيه السياسي، وأيضا وعيه السوسيولوجي رفيعا وعاليا ودقيقا، الذي فيه مزاوجة بين الحس النقدي العلمي للرياضيات والفيزياء وبين الحس الفني لرؤية الفوتوغرافي.
كنا جيلا قلقا، يقول دوما، لكننا كنا بأخلاق وطنية صلبة. لهذا السبب يقول أيضا «كنا جيلا حالما». ومعنى ذلك عند الطاهر جميعي، أن الطموح كان أكبر من الواقع. من هنا جاء نوع من الغربة التي اختطفته باكرا، غربة الأمكنة (فقد عاش سنوات طويلة خارج المغرب منفيا) وغربة الوقت أيضا الذي جعله وجعل رفاقه من طينة امحمد بنونة و دهكون يلجون مسارات ثورية انتهت إلى ما انتهت إليه من خيبات ونتائج. وبالنسبة له رحمه الله، فقد كان الأمر مع انزياحه إلى فن الفوتوغرافي، كما لو أنه كان تحليقا لصون الداخل من السقوط في قلق الخيبة.
لقد درس الطاهر جميعي الهندسة بألمانيا في الستينات، وتخصص في مجال هندسة التصوير الضوئي، قبل أن يلتحق بالتنظيم السري الذي كان يتزعمه الفقيه البصري، وينتقل إلى الجزائر ثم يستقر أخيرا بالعاصمة السورية دمشق. هناك في بلاد الشام، كما لو أن الطائر المحلق قد وجد حديقته المفضلة أو جنته الأثيرة. هناك وجد الفضاء الثقافي الذي ظل دوما يحلم به، فأبدع عاليا في مجال التصوير والفوتوغرافيا، ونسج علاقات قوية ووازنة مع نخبة المثقفين والفنانين السوريين، خاصة في مجالي التشكيل والرسم والهندسة والعمران، وأيضا مع جيل الشعراء والروائيين والمسرحيين. ولقد كان له الفضل في أن عرفني سنوات بعد ذلك، بعد عودته من المنفى إلى المغرب سنة 1996، بالعديد من الأسماء التشكيلية السورية الوازنة والأساسية، بل إنه استضاف بعضها في بيته بالدار البيضاء وزار عدد منهم مقر جريدة «الإتحاد الإشتراكي» وأجريت معهم حوارات صحفية برعاية وتتبع خاصين من الأخ حسن نجمي.
أقام رحمه الله معارض فنية لصوره الفوتوغرافية داخل المغرب وخارجه، بعد عودته من المنفى (من أهمها معرض كبير له بالشارقة ببيت السركال بدولة الإمارات العربية المتحدة). لكنه سبق وأقام أيضا معارض عدة بالمدن السورية خاصة بدمشق وحلب واللاذقية، أثناء مرحلة إقامته هناك لأكثر من 25 سنة. وكانت له رؤية معرفية رصينة بفن الفوتوغرافي، حيث نجده يصرح في حوار صحفي بعد معرضه بالشارقة قائلا:
« لم أعان شخصيا من اية مشكلة على مستوى العلاقة بين الفنان الفوتوغرافي والفنان التشكيلي، حتى وإن كان ذلك أمرا يطرح أسئلة متعددة حول العلاقة الصدامية بينهما في العالم العربي. بالنسبة لي كان هناك حوار مستمر بيني وبين اساتذة تشكيليين. فالهاجس الوحيد هو العمل الانساني سواء بالريشة او بالصورة».
وجوابا عن سؤال حول تعلقه بالألوان أكثر من الأبيض والأسود الذي يعتبر أكثر جمالية، قال: «ليس صحيحا, ففي الطبيعة يرى الانسان الاشياء ملونة والحيوانات وحدها ترى الالوان رمادية, واعتقد ان الالوان تعطي حسا مضاعفا. وانا سابقا اشتغلت بالابيض والاسود والاختيار يعود للفنان ذاته والغاية هي النتيجة المتوخاة. وارى ان بلادي غنية جدا بالألوان على عكس الدول الاوروبية»
وجوابا عن سؤال إن كانت صوره نوعا من الأرشفة، أجاب قائلا: «أنا لا اؤرشف. ومرة حدثني الفنان التشكيلي السوري الراحل بول جرجوسيان عن حظي لان الكاميرا لاتكذب وتنقل الواقع كما هو ولا اضع التوثيق اوعدمه هدفا بذاته هناك حالات او اشياء على طريق الانقراض وانا احب اثارة انتباه الناس الى ماهو موجود في شوارعنا وفي أحيائنا ولباسنا حتى لاتضيع وهي نوع من التذكير. مع ان الصورة في النهاية تغدو وثيقة حتى لو كانت عادية جدا والتوثيق اصلا لديه شروط معينة اولها نقل التفصيلات بدقة, وانا التقط اللحظة ثم تصبح ذاكرة مع مرور الزمن ومايهمني على سبيل المثال ان يعرف الناس كيف هو موسم الورود في المغرب وهذا ما اهجس به».
في سنواته الأخيرة، بعد فترة عمل رسمية مصورا بجريدة «الإتحاد الإشتراكي» وتقاعده منها، عاد الطائر إلى عشه الخاص ببيته، مكتفيا عن العالمين في ما يشبه العزلة الصوفية، وبقي على علاقة تواصلية مع قلة من الأصدقاء، ممن ظل يعتبرهم يستحقون أن يجزل لهم عطاء وقته، وبقي صارما في علاقته مع الزمن، رحالة مسافرا في جغرافيات البلاد وجغرافيات الجمال، إلى أن جاء نعيه في صمت.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 23/03/2020