«العلمانية» ثقافة مدنية تنويريّة قبل أن تكون شعارا متطرفا

بداية أزعم، بل وأؤكد، أنّي علماني بثقافتي وتفكيري وميولي وهواي حتى النهاية. لكن هذا لا يمنعني من التدقيق في طرح هذا المصطلح بتسرع وحماس مريبين، كشعار كبير وعريض في لحظة حرجة وجارحة كالتي تعيشها بعض بلدان مجتمعاتنا العربية حاليا، وبتجاوز لمقدماته وأسسه الأولى التي تحتاجها هذه المجتمعات في لحظتها المريرة حاليا.

وأفهم أن هذا التسرع والحماس قد يكونان، على الأغلب، ردّ فعل على المدّ الإسلاميّ المتشدّد والمتطرّف بتلاوين طوائفه ومذاهبه المتعددة في عالمنا العربيّ، الذي كان قد بدأ العودة بقوّة منذ سبعينات القرن العشرين في سياق الخيبات المجتمعية المتتالية طيلة عقود من الزمن، على صعيدين رئيسيين: فشل تنمويّ داخليّ. وهزائم عسكرية خارجية في الصراع مع الكيان الإسرائيليّ، خصوصا لأنظمة رفعت شعارات القومية العربية والتقدّم. ممّا جعل فكرة حداثية متقدّمة كفكرة “القومية العربية” تتراجع في أوساط الشارع العربي لصالح هذا المدّ الدينيّ المتشدّد الذي ترافقت صحوته “القروسطية” الجديدة هذه، مع انتصار التيار الديني “الخميني” في الثورة الإيرانية عام 1979. وصولا إلى الانفجارات المجتمعية الكبيرة التي بدأت عام 2011 وما زالت تتوالى فصولا مأساوية كارثية في العديد من البلدان العربية، وما نتج عنها من حروب داخلية أهلية طائفية، تئنّ من وطأتها العديد من مجتمعات بلداننا العربية، خصوصا تلك التي تحكمها أنظمة تدّعي العلمانية كغطاء لاستبدادها وطغيانها المسئولين الرئيسيين بشكل مباشر عن تفجّر هذه الحروب. لأنّ الاستبداد الطويل يجعل المجتمعات كخزّان كبير محكم الإغلاق، تتراكم وتنضغط وتتخمر في القاع منه كل أشكال العفن الآسن، وفي لحظة الانفجار يندفع بشكل بركاني هذا العفن المضغوط والمتراكم في القاع لدرجة تطغى حممه اللاهبة على الإرادات الأخرى العقلانية الواعية والمطالبة بالتغيير السلميّ المدنيّ الهادئ.
عواقب العلمانية
كشعار متطرف

لذلك في ظلّ وسياق ما يحدث اليوم، نسمع من قبل بعض من يدّعون العلمانية بحماس، أو نقرأ لهم الكثير مما ينشرون من أراء وتعليقات ومقالات على صفحات ومنابر المواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، ربّما كردّ فعل أنيّ على الحروب الأهلية الداخلية بتمظهراتها الطائفية من جهة، وعلى شعارات وممارسات تنظيمات الإسلام المتشدد والمتطرف من جهة ثانية، دعوات عديدة متسرعة تضج بالحماسة، تقول أن لا حلّ إلا بالعلمنة والعلمانية كحلّ فوريّ نهائيّ ووحيد.
دعوات تغفل أو تتغافل عن جوهر بنية مجتمعية هي على العموم، عشائرية – قبلية، متخلفة لم تقارب الحداثة التنويرية الحقيقية على مستوى التفكير الجمعي العام بعد. وإنّما على مستوى بعض النخب المثقفة فقط، لذلك فكلمة أو شعار العلمانية يثير الحساسية السلبية تجاهها، الإيمان التقويّ والشعور الدينيّ، الطاغيان لدى الأغلبية التي تشكّل عماد هذه البنية. كما أنه يذكّرها بطغيان أنظمة استخدمت هذا الشعار كغطاء لاستبدادها وطغيانها.
إلاّ إذا كان أصحاب هذه الدعوات والشعارات يضمرون، ولو على مستوى اللاوعي لديهم، أنّ الهدف من تبني العلمنة بشكل إرادويّ سلطويّ سريع وحاسم، هو تصفية حساب مع أكثرية طائفية محددة تعتبر حسب تقديراتهم، بمثابة بيئة حاضنة لتنظيمات الإسلام المتشدّد عموما.؟!. وفي حال كان هذا الافتراض صحيحا فإنّ تداعياته ستكون، على مستوى الوعي الجمعي لشعوبنا، هي الأخطر في سياق تصعيد الاحتقان الطائفي والمذهبي الجاري اليوم، مع نفور عامّ من العّلمانية وخطابها.
العلمانية كثقافة
مدنية أولا

فالعَلمانية– مصدرها العالم الدنيوي الأرضي الواقعي– مصطلح أيديولوجي، ثقافي – سياسي، يختصر نظاما فكريّا فلسفيّا اجتماعيّا سياسيّا حداثيّا أنتجته عصور النهضة والتنوير في أوروبا، ويعني ببساطة، فصل الشأن الديني عن الشأن الدنيوي، والمجال السياسي هو أحد مجالات الشأن الدنيوي بامتياز. وقد وصلت إليه المجتمعات المتقدمة في أوروبا بعد مخاضات عسيرة وحروب طاحنة داخل الكنيسة إثر حركة الإصلاح الديني فيها في القرن السادس عشر، بعد أن كانت تمسك بالمجتمع ككل وتعتقله، أولا، وبينها وبين العقول المستقبلية الجديدة الناشئة والناهضة في أوروبا آنذاك ثانيا.
أي بين الكنيسة والمجتمع الجديد الذي كان يولد وينهض بتأثير نمو ظاهرة المدن وتوسعها جراء الهجرات الواسعة من الريف إلى المدينة في أوروبا آنذاك وما رافق ذلك من ظهور ونموّ علاقات اقتصادية وتجارية واجتماعية وقوانين مدنية جديدة..
وقد بدأ التأسيس الفلسفي للعَلمانية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر اللذيْن يجمع أغلب الباحثين والمؤرخين على تسميتهما بالتتالي “عصر العقل” و”عصر التنوير” من خلال أفكار فلسفيّة لفلاسفة كبار تؤكّد على ضرورة فصل الدينيّ عن الدنيويّ في الشأن العامّ السياسي والمجتمعي كما يمكن أن نقرأ عند الفيلسوف الهولندي (اسبينوزا 1632 – 1677) والفيلسوف والمفكر السياسي الإنكليزي (جون لوك 1632 – 1704) لاسيما في كتابه المعروف “رسالة في التسامح” الذي دعا فيه إلى حرية الاعتقاد الديني للجميع دون تمييز، و(جان جاك روسو 1712 – 1778) الذي نظّر لموضوعة “العقد الاجتماعي ومبادئ القانون السياسي” في كتاب يحمل نفس العنوان ثم أكد على ضرورة أن يحكم الشعب نفسه باختيار ممثليه بكل حرية. والفيلسوف الفرنسي (مونتسكيو 1689 – 1755) لا سيما في كتابه “روح القوانين” الذي ميّز فيه تعدد القوانين والشرائع تبعا لمنشئها الطبيعي – الجغرافي والديمغرافي في الحياة والواقع، كما أسّس نظريا لمسألة فصل السلطات إلى تشريعية، وقضائية، وتنفيذية.
إضافة للعديد من رجال الفكر والفلسفة الآخرين، بل وبعض رجال اللاهوت المتأثرين بنزعة إنسانية آنذاك. مما مهد لولادة نزعة إنسانية في عموم أوروبا تقول بأن الإنسان وليس النص المقدس يجب أن يكون المرجع الأول في أي عقد اجتماعي ينظم العلاقة بين أبناء المجتمع أولا، والعلاقة السياسية بين الدولة والمجتمع ثانيا.
وهكذا إذا فالمدنية كعمران وثقافة تنوير وتسامح منفتح، حالة ملازمة ومتداخلة بل وشرطية .. إن لم نقل .. سابقة ولو قليلا على الوصول للعلمنة والعلمانية كإطار مجتمعي واسع يستوعب وينظم العلاقات المدنية الناشئة. إنها حالة إرهاص مجتمعي تتوالد معها وداخلها آليات تشكل الإطار العلماني الأوسع سياسيا واقتصاديا وثقافيا- فكريا. من خلال تعزيز دور وحرية الفرد الإنسان كمرجعية أولى وأساسية في استلهام القوانين والدساتير وبناء المؤسسات بعيدا عن حاكمية النص الإلهيّ المقدّس الذي تطالب به مرجعيات وحركات الإسلام السياسي أو كما تطبقه الدولة الدينية (الثيوقراطية) في إيران والسعودية، بل وكما طبقته دول الكنيسة في أوروبا طيلة العصور الوسطى ثم تجاوزته باتجاه الدولة المدنية العلمانية الحديثة وأصابت فيه نجاحات كبيرة مازال دفقها المستقبلي مستمرّا حتى اليوم بانجازات ثورية باهرة لصالح الإنسان.
بؤس الحالة المدنية
في مجتمعاتنا العربية

في أغلب مجتمعاتنا العربية اليوم، لاسيما المنكوبة منها، رغم الهجرات الكبيرة التي شهدتها من الريف إلى المدينة منذ منتصف القرن العشرين بعد الاستقلال السياسي عن المستعمر، دون أن يرافق ذلك نموّ وتوسّع نوعيان في البنية التحتية للاقتصاد في الدول المستقلة حديثا، وما يستتبع ذلك من تشكل حياة سياسية حديثة حرة ومستقلة. ما زالت الحالة المدنية لم تتشكل بعد كثقافة يومية وكقانون مدنيّ ينظم العلاقات بين الناس كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، بل ما زالت العقلية الريفية والقبلية البدوية والطائفية والعشائرية تختبئ وتكمن متحفزة داخل كل مظاهر التمدن العمراني الشكلي فيها، بمستوياتها المتعددة، بل وفي دواخلنا جميعا كبشر في هذه المجتمعات. لأننا لم نحقق بعد الشرط المديني اللازم المفترض والمتداخل مع العلمنة.
لذلك عندما جاءت الأنظمة التي حكمت باسم الشعارات الشكلية الكبيرة والجوفاء للقومية العربية والعدالة الاجتماعية والعلمانية، اعتقلت مجتمعاتها من خلال مؤسساتها السلطوية كخيار وحيد أمام الفرد تحت راية هذه الشعارات لدرجة ضيقت فيها كثيرا حتى الاختناق على ولادة ونموّ المجتمع المدني الحديث بمؤسساته المتعددة والمستقلة. مما سهل لكل ولاءات وانتماءات ما قبل المجتمع المدني الحديث أن تبقى في اللاوعي الجمعي في حالة كمون وجهوزية تترقب اللحظة المجتمعية أو التاريخية الحرجة والمناسبة للإعلان عن ذاتها تماما كما يحصل في بلداننا المنكوبة اليوم. فخلف شعار العلمنة الكبير الذي تبنّته الكثير من أحزاب اليمين واليسار وأحزاب الأنظمة الحاكمة والقائدة كانت تختبئ وتتلطى عند الكثير من أعضائها وقادتها كل الميول القوية من موروثات مرحلة ما قبل المدنية، وقد ظهرت فعلا في لحظات الانهيار المتتالية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وما تلاه.
حتى لبنان “الديمقراطي الليبرالي التعددي والعلماني” كما يقول اللبنانيون عنه، تقوم المحاصصة السياسية “الديمقراطية” فيه على أساس طائفي أي ما قبل مدني.
وإلاّ كيف تحولت بسرعة كبيرة، لحظة الانفجارات المجتمعية التي عشناها ونعيشها، منذ الحرب الأهلية اللبنانية وحتى اليوم إلى صراعات قبلية أهلية طائفية ومذهبية.
لذلك..أزعم.. أن طرح العلمانية كشعار فضفاض واسع وكبير يقترب من التمذهب السياسي الحاد، ومجرد من آلياته المدنية الضرورية.. في بلداننا العربية اليوم وفي ظل ما تمر به من كوارث، هو حق يراد به باطل، كما يقال، لأنه.. وكما خبرنا من تجربة القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، ربما يخفي في تفكير ودواخل الكثير ممن يطرحه اليوم بحماس كبير، موروثات وميولا طائفية قبلية تعيد إنتاج مقدمات كل ما نعاني منه في أيامنا التي نعاين ونعيش.
ترسيخ دور المؤسسات المدنية المستقلة، وتأهيل ثقافة المواطنة التنويرية الصحيحة المتساوية لجميع أبناء الوطن، دون أي تمييز على أساس ديني أو طائفي أو عرقي، في ظل قانون مدني عصري ينظم علاقتهم ببعض من جهة . ومن ثم علاقة المجتمع ككل بالدولة ومؤسساتها السلطوية الحاكمة، عبر تداول السلطات من جهة ثانية. أي بتعبير أوضح “ثقافة المجتمع المدني”. بتقديري، هي الشرط اللازم، أو المدخل الضروري للعلمنة والعلمانية أو لنقل بشكل أفصح وأدق هي التعبير الحقيقي عن العلمنة الصحيحة.
ما أود قوله أخيرا هو أن طرح شعار”العلمانية هي الحلّ” بحماس متسرع بدون تدقيق نظري فيه، وتأمل عميق في السياق المجتمعي الخطر الذي نعيش، قد يكون دون أن يدري صاحبه أو يريد ذلك. هو الوجه الأخر لشعار بعض الإسلاميين “الإسلام هو الحل”.
وبتلخيص أكثر وضوحا أزعم أنه لا يمكن تبيئة العلمنة إلا في مجتمع مدني حداثي يقطع مع ما قبله من ولاءات. بعيدا عن صخب الشعارات السياسية الجوفاء.


الكاتب : معاذ حسن

  

بتاريخ : 03/08/2018