الغراب… براق نحو الأماكن الدافئة في القلب

كثير من المداخلات التي همت نصوص الأستاذ أحمد بوزفور اعتبرتها حاملة للغرائبي، وحتى لما اتخذت تجربته موضوعا في ملتقى زاكورة سنة 2007 كان العنوان هو: العجائبي في تجربة أحمد بوزفور، لكنني بعد عديد القراءات لنصوصه، استوقفتني أمور أخرى وجدتها ناضجة في نصوص: الغراب، السعال، ماذا يشرب الأطفال، نانا، تعبير الرؤيا، أمي…ولقد آثرت الحديث عنها باعتبارها من الأشياء التي تجعلني أقرأ للأستاذ بوزفور بحب وارف،لأن القراءة له تنسج ما يسعى قارئ لنسجه مع كاتب.
حينما أحن إلى أمي، أقرأ نص أمي، آخر نص ضمن مجموعة قالت نملة وكثيرا ما أجدني بطل النص في العلاقة الواقعية بأمي الحقيقية،بنظرتها المشفقة علي، بخوفها من شرودي، بدعواتها المتكررة و ميلها البين إلي.
حينما أشتاق إلى جدي الراحل، أقرأ النصوص التي يذكر فيها سي أحمد أباه،ذلك الفلاح الجميل القوي البسيط،الذي يختبئ في صدره قلب طفل واضح.
وعندما تضيق بي الدنيا ويفترسني الضياع أقرأ النصوص التي تتخذ البادية فضاء ومسرحا لها، فلا أحس فقط، و لكنني أسمع و أرى،أرى سنابل القمح تميس،أرى الزربية الجديدة التي لا تظهر إلا عندما يحضر الضيوف،أرى الكؤوس المزوقة فوق الصينية و أشم راحة الحليب الفاغمة و أتذوق الشاي بالشيبة و أسمع الهرج الذي يحدثه البدويون حالما اجتمعوا ، أحس و كأن الطفل الذي كانه السارد هو الطفل الذي كنته، رغم الفوارق الكبيرة بين «عروبية» تازة و»عروبية» زاكورة.
هنا لا عجائبية ولا غرائبية، هنا الواقع المر المعبر عنه بجمال حلو،وكأنني ألعق الساحوت لأذهب بها ما ترسب في حلقي من مذاق غير مستساغ،لكن سرعان ما أشفط أو أتحسى تلك الحلاوة و أظل صفر اليدين/صفر اللسان، إلا من الحنين الطافح و تعقب الذكريات.
النصوص التي أشرت إليها أعلاه، هي مرائر نحوي، نحونا، نحو طفولاتنا المتشابهة، من نحن؟
أعتقد أننا سواد أعظم من البدو الفقراء الذين نموا في غفلة من الأمراض الفتاكة،نموا ضدا على البرد و الحاجة، ترعرعوا بالحكايات و النيات الحسنة و البركة،لكنهم تعلموا منذ الأزل بأن الخبز وحده غير كاف للعيش إذا لم يكن مغموسا في القناعة و الكرامة.
ما يشجعني على القراءة لسي أحمد، هو أنني أقرأ شيئا ينتمي إلي، أفهمه دون كثرة فلسفة، و حينما أنهيه يخلق لدي نوعا من الإقلاق،وحالات متنافرة من الحب و الخوف والأمل و الذكرى و إيقاظ المواجع و الرغبة في البكاء أحيانا. و الكتابة التي لا تجعل متلقيها يرتج و يهتز كأنه بلغ الرعشة الكبرى أو كأن الأرض من تحته أصابها زلزال، وتزنزن الأسئلة في خياله كأسراب نحل ،هي كتابة غير ذات جدوى.
إن النص الذي سأشتغل عليه بشكل أساس هو نص : الغراب، لكن قبل الوصول إليه أود التوقف قليلا عند النصوص التالية بإشارات بسيطة:
السعال: كان هذا النص مقررا علينا في السنة الأولى من سلك الباكالوريا عام 1997 ،و لأنني حينها كنت تلميذا في بلدة أمازيغية، و ربما كنت «العروبي» الأوحد في القسم،فقد تفاعلت معه بشكل جيد، لأن أحداثه تشبه كثيرا ما يقع عندنا في علاقة الأم بزوجة ابنها التي غالبا ما تكون ملتبسة إلا في أحايين نادرة، في أسماء الشخصيات: «عبد رحمان» «العقرب الصفراء» شيبة الحمار» و في القوى الفاعلة الأخرى غير المؤنسنة: «الكانون»،ربما كانت لهذه الأسماء مرادفات في قاموس الأمازيغ، لكن ورودها بالعربية الدارجة، و قراءتها كذلك، أعطياني امتيازا لغويا ومكناني من حسن الإنصات إلى النص،بل وسماع السعال و رؤية البصاق الممزوج بالدم،وكبد الأم وهو يسقط فوق جمر الكانون و يشوى،ولو بشكل رمزي،لأن ما فعلته بها زوجة ابنها (التي تحيط نفسها بأولادها و تمضغ و تتركها هي رفقة كسرة خبز يابسة) كمن يشوي كبدها بشكل عملي،مع إمكانية تأويل الكبد ليصبح هو الابن المسحور،لا العضو الذي يمتلكه جميع الناس ضمن أحشائهم.
ماذا يشرب الأطفال: سي عمر القائم بأعمال المستوصف،و الذي يناديه رجال القرية: «سي الطبيب» أكد بأن الطفل سكران، شارب للبيرة، و قد ارتكز في تشخيصه السريري على رائحة فم الطفل،و إقدامه على التبول أمام الناس و إكثاره من الضحك.
ذ بوزفور، رجل طيب وقور،عامر بالإنسانية، له في كل القلوب قصر، يمتاز بروح مرحة، وفي هذا النص شيء من تلك الروح،يعرفها ويلامسها المقربون منه،هنا تحضر السخرية من سذاجة بعض الناس الذين اجتمعوا حول مشكل الأرض،لكنهم سرعان ما تراجعوا عن القضية الكبرى،لمجرد قيام طفل بسلوك عادي، طفل ما دون العاشرة في جو مطر،يتبول أمام الناس،ربما كان نائما و قاده ملاك الحلم إلى ذلك، لكن أن يغيب هذا الأمر مسألة مهمة خطط القوم للاجتماع حولها،فذلك ما جعل السارد يزدري منهم في آخر جملة من النص: كخ كخ كخ ككككككخخخخخخ.
أعتقد بأن الحكاية الأعمق تتجاوز سي عبد القادر و حمادي و الفقيه سي بنعلي و الشريف سي عبد الكبير إلى شخصيات أكثر رسوخا في الأمة و المجتمع،أولئك الذين يسعون لإلهاء الناس بأمور صغيرة و هامشية مقابل هروبهم من القضايا الحقيقية التي تشغل بال الناس وتعنيهم بشكل مباشر،فقضية الأرض هي قضية التحرر و الحق في تقرير المصير و المساواة و العدالة الاجتماعية.
وبعيدا عن كل هذا،أعود إلى أجواء النص الدافئة الشجية،مادمت قد اخترت البحث في ما فعله في النص على المستوى الوجداني:
أولا: أعجبني، ثانيا: أضحكني، ثالثا: حملني على أجنحته قريبا من طفولتي النائية،لأن أجواء النص الدخلانية تنطبق بشكل متقارب جدا مع ما يحدث عندنا في العشاءات (القبلية) وما يرافقها من طقوس، لدرجة أنني كنت أتفرج على النص و أنا أقرأه، كأن أمامي شاشة و أنا أتابع ما يجري من حولي،و رغم كون الشاشة عتيقة بالأبيض والأسود، فإنني شاهدت ألوان الزربية الحمراء و الصفراء، وشاهدت كيف كانت النسوة يشطبن الغرفة الخارجية،ورأيت في وجوههن وجه أمي و زوجات أعمامي، رأيت أيضا البطانيات الباهتة التي تغطي المساحات المتفرقة التي لم يسعفها طول الزربية و كؤوس الشاي الذي ينتهي بتلك «الكشكوشة «كأنها عمامة حول رأس كهل، كما أنني وضعت يدي في كل الأواني التي صب فيها سي عبد القادر كميات متساوية من الماء الساخن ليتوضأ بها الضيوف، وقلت مع نفسي :الله،ما أحلى هذا الماء الساخن و ما ألذه و ألطفه في هذا البرد القارس، ليت كل السوائل تصبح هكذا في هذا الطقس الجارح. و لكنني استدركت: «كن تحشم»،أنت العارف من أين يأتي، و أنا الذي أتيت به مرارا من الساقية البعيدة أو العين الأبعد.
حينما يقرأ الإنسان شيئا كهذا ،لابد أنه سيمسح بعض الدموع التي تذرفها عيناه طواعية، فليس الألم وحده يبكينا، لكن في لحظات كثيرة يبكينا الجمال و العمق أيضا.
الغراب : بالنسبة لي،يعتبر هذا النص من أهم ما قرأت في القصة القصيرة على الإطلاق،الغراب فوق شجرة باسقة سامقة تكاد تلامس القمر،وهذه الشجرة هي القصة نفسها التي تحمل عنوان الغراب. نص لا أمل من العودة المتكررة إليه لدرجة أنني حفظت مقاطع منه، و مع كل قراءة جديدة أكتشف شيئا جديدا،نص يأبي أن يتوقف،فهو يتذارر يوميا في ذهني و في وجداني،نص يكبرني في العمر كأنه كتب بالأمس، وكتب لي شخصيا، ليملأ تجويفات متعددة في كياني وعقلي و قلبي و روحي. حينما أكون حزينا يسليني و يطبطب علي،حينما أكون فرحا يزيد من سروري.
الثلج يتساقط و الدنيا باردة والعقعقات السوداء تتهاوى تباعا فوق بياض الثلج فتزيده نصاعة،الأبيض الذي يخيفني عادة، يذكرني بثوب الأكفان و العيادات و الأرامل،نزل علي بردا و سلاما،إذ بعد الخطوة الأولى على العتبة أعثر على الدفء. الجلباب الصوفي الأسود ذو الخيوط الطولية البيضاء الرقيقة و الكانون و حجر الأم.
ما هو الشعور الذي يخالجنا و نحن نتابع فيلما وثائقيا عن مرحلة تاريخية قديمة؟ لعلنا نركز بشكل كبير على الألبسة و الأواني، و كثيرا ما نطرح الأسئلة حول مقدار الصبر و الجهد الذي يلزم الناس مقابل التأقلم مع تلك الظروف، و ضرورة الاكتفاء بالنزر القليل من سبل الاستمتاع بالحياة. وحينما ندخل بازارا يحوي مجموعة من التحف و الأدوات و مخلفات مرحلة فائتة، فإننا نعاينها مرارا و نلمسها ونقبلها ونسرع لالتقاط الصور معها. هذا النص فيلم وثائقي،وبزار مفتوح، وصحيفة لحفظ الذاكرة الإنسانية، و تدوين لمرحلة من تاريخ المغرب المنسي أو (المنكور) تاريخ كان الفقراء الشرفاء فيه يتداوون بدواء البرغوث و يستعملون مشط العظم و يعالجون أمراضهم الخطيرة بالنوم في الركن،في انتظار الفرج أو الموت…يأكلون الموت وينتظرون القوت.
الجميل في كل هذا،أنه رغم كل هذا،ففي القلب متسع و حيز كبير للفرح،سعي حقيقي لتجاوز الهم بالكلام و الحكي،و شساعة الأفئدة و اخضرارها ضدا على قتامة الظروف…لا حقد و لا غل،هكذا عاش أولئك في المغرب العميق (الغارق)، بل لا زالوا في نفس الجغرافيا رغم تبدل التاريخ يكابدون نفس الظروف،مازال هناك جيش من القمل و أساطيل من الحشرات و اللصوص ينغصون عليهم سكينتهم، مازال المرض يحدق فيهم بعينين كعينا ذئب في الهزيع الأخير من الشتاء، مع فارق مهم في طبيعة القلوب التي ازدادت قسوة وضيقا بحيث أصبحت المصائر فردية لا مؤنس في الغربة و الوجع إلا هبوب الريح…
أين رجل الدار؟صاحب الجلباب البهي و الظل الفواح؟انه في الغابة ليقطع أغصان «الكريش» التي ستغذي المعزات الأربع وجداءهن الثلاثة،أي رجل هو؟ في عز الثلج لا ينسى الطيب معزاته،رأسماله الدائم،لاشك أنه رجل نبيل أيضا، ولا شك أن الرجل الذي يخرج ليحتطب في هذا الجو كان قد ساهم في إخراج «النصارى» من البلد وعاد توا إلى الغابة غير معني بما خلفوه وراءهم من غنائم عينية و مادية،يكفيه أنه حرر وطنه، همه الوحيد قضي، فعاد إلى العمل مطمئنا.
في معظم البيوت يوجد مهراس لدق الشعير،وترتفع كلمة (هسسس)حادة السين بعد كل ضربة بيد الفأس،وحول هذا الطقس اليومي يتجمع الأولاد و البنات و الأمهات ويشتعل الحديث،و من خلال هذا التجمع سمعت حكايات كثيرة من جدتي و أمي وعمتي…تخصب خيالي و تعمق،…الآن غابت هذه الممارسات اليومية،اعتكف كل واحد (فيه) أو انزوى داخل لوحته الالكترونية يغير وجهها بسبابته،قريبا سيصبح الناس كائنات مثل الروبوهات بلا أحاسيس ولا مشاعر.
الأم تحكي لأبنائها عن الغراب و عن «بلارج «و عن النملة و تاريخهم الآدمي، وكيف تم مسخهم، و الطفل الوديع الذي ظل كذلك بفعل هاته الحكايات حتى بعدما أصبح رجلا،يرسم في خياله صورة الرجل /الغراب،بجلبابه الأسود وهو يفسخ تكة سرواله،و يتوضأ بالماء،و كان الماء لبنا،و كان يغرف من السطل و يرمي الماء بين فخذيه و يحك،و كان له شارب كث و أنف طويل…هل بمقدور طفل الآن أن يستطيع تخيل هذا الجمال الرهيب الموجع المدمر؟ وفوق كل هذا يحفظ حزب سبح؟
شخصيا،حينما أحاول حكاية شيء كهذا لأطفالي في القسم،ينظرون إلي بعيون تقول :هل جننت أيها المعلم؟
لقد أصبحوا لا يتحلقون حول الكانون(رغم وجوده) و لا يتوسدون أفخاذ أمهاتهم و يستمعون إلى «هسسسسس» حادة السين، و هي تقصم الشعير إلى نصفين ثم إلى أربعة أرباع ثم إلى ثمانية أثمان إلى أن تحوله إلى طحين.
في طفولتي كنت أرى الغراب في باديتنا، و الآن عندما أسأل عنه جدتي تقول لي: مشى مع الخير آ وليدي.
جدتي تستضمر بأن زماننا لا خير فيه،اختفى الغراب و القوبع و الهدهد و العسل الحر و السمن البلدي،و خبز الشعير و النساء القادرات على رفع أصواتهن بسين كالسكين، والرجال الذين يحترمهم الثلج و (الحلوف) في الغابات الوعرة.
كنت أسرح بالغنم و أسمع عواء الذئب غير بعيد عنا،و الآن تضاءلت رؤوس الأغنام في بلدتنا بشكل مخيف،ولم يعد الأطفال قادرين على السرح بها رغم خلو الخلاء من العواء،بل لم يبق كلأ في تلك الربى القريبة منا،تحولت إلى هضاب جرداء إلا من بعض النباتات الشوكية القصيرة التي يختبئ تحتها بوبريص.
نص الغراب سافر بي إلى بيتنا العتيق الذي استحال ركاما من الطوب و بعض السواري الحزينة،جال بي في منعرجات طفولتي، ذكرني بالكانون و بشباب أمي ورائحة الشعير الساخن فوق المقلاة الواسعة و حرارة العلاقات الإنسانية و خبز الجيران و مناكفتي مع إخوتي حول حجر أمي. ذكرني بالتبروري و سخاء الطبيعة ودفء بيوت الطين.
وحينما يسائل الطفل أباه عن صحة تحول الرجل إلى غراب و يطبع الأب الشهم قبلة على جبين صغيره،أحس أنا ببرودة الشفتين و الشارب المثلج.
عندما يعد الأب ابنه بشاي ساخن «مشبشب» ألعق شفتي بلساني و أستطعم بقايا الشاي الذي كان جدي يحضره لنا في الحقل أيام الحرث أو جني التمر أو الحصاد…
عندما يداعب الأب ابنه : وليدي، سعدي بوليدي، جيت تلاقاني…كأنني أستمع إلى معزوفة من الشجن.
عندما يعقب الأب: يكون آ وليدي يكون،هاذ الزمن يمسخ لي ما يتمسخ، أشعر بذعر كبير، و أتحسسني مخافة أن أكون قد صرت فردا ضمن سرب من الحساسين أو القبرات أو الصراصير.
نص الغراب سمفونية عجيبة، يوم تجد ملحنا عملاقا، ستعزف على أساس أنها النشيد الوطني.
* مداخلة في ندوة : «قراءات في نصوص قصصية مغربية» في إطار الدورة 16 من ملتقى زاكورة القصصي المنظم من طرف جمعية نادي الهامش،دورة نجيب العوفي في موضوع : القصة و النقد.


الكاتب : محمد الحفيضي

  

بتاريخ : 26/05/2017