الفساد ذلك الحيوان الأليف !!!

الفساد هو أكبر وأخطر الظواهر التي تهدد الاقتصادات والديمقراطيات والمجتمعات، بمعنى أنه أخطر الظواهر التي تهدد استمرارية الدول، وقد تنبّه إلى خطورتها معظم الفلاسفة وعلماء الاجتماع، حيث كان ابن خلدون من أوائل من نبّه إلى هذه الظاهرة، حينما قال « إن المجتمعات لا يصيبها الترهل إلا عندما ينخرها الفساد». وأضاف « إن انتشار الفساد يدفع بعامة الشعب إلى مهاوي الفقر والعجز عن تأمين مقتضيات العيش، وهو بداية شرخ يؤدي إلى انهيار الحضارات والأمم».
عموما، الفساد هو «سوء استغلال السلطة من أجل تحقيق المكاسب والمنافع الخاصة»، هكذا عرّفته «منظمة الشفافية العالمية» أمّا «اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد» لسنة 2003، والتي صادق عليها المغرب سنة 2007، فقد تضمنت جردا وعلى سبيل الحصر، للحالات التي يمكن اعتبارها فسادا، كما أنها لم تقتصر فقط على الحالات المرتبطة بالوظائف العامة، بل تعدتها إلى حالات مرتبطة بالقطاع الخاص، والخلاصة فالفساد هو كل استغلال لانتداب عمومي من أجل مصلحة شخصية، أي أنه ظاهرة يمكن رصدها سواء في القطاع العام، أو القطاع الخاص، أو على مستوى المجال السياسي ( فساد الفاعل السياسي)، لكن هذا لا ينفي، أن الفساد كظاهرة مركبة، يمكن رصد صورها من داخل المجتمع أيضا، أي حتى على مستوى العلاقات بين الأفراد، أو بينهم وبين المؤسسات، بمعنى آخر فإن استشراء هذه الظاهرة، على المستويين العام والخاص، دال على استشرائها وتغلغلها داخل المجتمع.
لكن الملاحظ، هو أن الفساد مرتبط في أذهان غالبية الناس، بالقطاع العام، أي بالدولة، وهو الارتباط الذي جعل العديد من الفاعلين السياسيين، يستغلون استشراء الفساد، في مواجهتهم للدولة من أجل إحراجها، ومن أجل ضرب شرعيتها الأخلاقية، فهل هو صحيح هذا الربط أو هذا الاختزال؟ أي اختزال الفساد في الدولة، ثم كيف تشكل هذا الارتباط في ذهنية المجتمع؟ أليس العمل على تكريس هذا الارتباط، من طرف بعض النخبة ( مثقفين، أحزاب، جمعيات..)، محكوم بخلفية التنصل من مسؤوليتها في مواجهة الفساد كظاهرة؟ هل من الممكن الرهان على مؤسسات ولجها أشخاص بطرق فاسدة، في محاربة الفساد؟ أليس الكذب الانتخابي فسادا؟ ألا يستشري الفساد في مجالات أخرى غير القطاع العام؟ ألا يقبل المجتمع بعض صور الفساد؟ ألا يمكن الحديث عن «أنسنة» الفساد وتدجين بعض مظاهره من طرف المجتمع؟ أليس الفساد كظاهرة مركبة، هو نتاج لنسق قيمي ولمنظومة أخلاقية؟
هذه الأسئلة، تجعلني أستحضر الفيلسوف الفرنسي إيميل دوركاييم، والذي يعتبر مؤسسا للسوسيولوجيا العصرية، والذي عالج الفساد كظاهرة اجتماعية، من خلال معالجته للظواهر السلبية بالمجتمع، حيث نبّه إلى أن انتشار الظواهر السلبية في المجتمع، مردّه مرض هذا المجتمع، موّضحا أن المجتمعات تمرض، حينما تتفكك القيم فيها، ويصعب عليها استنبات قيم بديلة، فتدخل بذلك مرحلة انتقالية، أو ما يسميه دوركاييم بالأنوميا، والتي يفقد فيها الإنسان مرتكزاته القيمية، فيصبح في حالة من الارتباك والضيّاع، ذلك عندما يغتال المجتمع كل قيمه التقليدية، ويفرض قيما جديدة، لكن دون أن يوفّر الوسائل التي تضمن الوصول إليها وإدراكها، على عكس المجتمع التقليدي، الذي كان يضمن القيم المثلى التي يفرضها، ففي مرحلة الضيّاع هذه، يعمد الإنسان وبكل الوسائل، إلى تحقيق ما يراه هدفا، بل يستعمل حتى الوسائل غير المشروعة، فالهدف المتمثل في إدراك القيمة التي يفرضها المجتمع، أهم بكثير بالنسبة إليه من الوسيلة.
ومع تغول الليبرالية، أصبحت المجتمعات الرأسمالية، كمجتمعات استهلاكية تمجد النزعة الفردانية، وترفع إلى مقام المجد والبطولة مظاهر الجاه والثراء، والتي تؤجج نار المنافسة الشرسة، ليلجأ الفرد فيها إلى كل ما في وسعه لإرضاء المجتمع وتحقيق الذات ولو بالنهب والغش والنصب والاحتيال، آنذاك يكف الفساد عن أن يكون وحشا مفترسا، ليصير حيوانا أليفا، فتغدو الرشوة « قهوة» و»حلاوة» وتصير المحسوبية حيلة وكفاءة، ونهب المال العام يصبح خبرة وجدارة.
فالناس مثلا، عندما يشيدون باستعمال الخديعة في الحرب، بالقول بأن الحرب خدعة، ففي اعتقادهم أنهم يشيدون بالانتصار الذي يعتبر بطولة، لكنهم في الأصل يشيدون بالخداع، وهو قيمة دنيئة وسلبية، وهي إشادة تؤدّي بالضرورة إلى تدجين هذه القيمة، واستعمالها متى كان الهدف منها مقبولا ، ممّا يؤدي إلى شيوعها بين الناس.
هكذا يمكن القول، بأن الفساد كظاهرة، هي نتاج لنسق قيمي، وأن استشراءها راجع لمنظومة القيم التي يفرضها المجتمع، والتي تظهر على بعض الممارسات التي يزكيها، بل يدعو إليها، والتي تشكل في جزء كبير منها، رغبته في أنسنة وتدجين بعض مظاهر وصور الفساد، وخطورة هذا التدجين، تتجلى في الغياب التام، لأي وعي أو إدراك بسلبية هذه الممارسات، التي أصبحت شائعة في المجتمع، بل على العكس، إن من يأتيها، يعتقد في صحتها وسلامتها، بل في ضرورتها، حتى أضحت ممارسات مقبولة بالرغم من سلبيتها، تشرعنها قناعات، أساسها قيم أصبحت مفروضة، عندما احتلت جزءا مهما من المخيال الشعبي الجماعي، وذلك بعد تشبعه بها وبإباحيتها، وهذا هو السبب الرئيس في استشرائها في مختلف المجالات.
هكذا أصبح الشائع عند غالبيتنا، أن الشرطي الذي لا يقبل أي حلّ في حالة ارتكابنا لمخالفة يجرمها القانون، غير ما يفرضه القانون، أنه «قاسح» «ما يسواش» أو «ما كيتعاملش مزيان» في أحسن الأحوال، بينما نرى في الذي يغيّب القانون، ويقبل أو يقترح حلولا أخرى، وغير قانونية، بأنه «راجل مزيان» و « الله يعمّرها دار»، وهو نفس الانطباع الذي نشكّله عن كل موظف يقبل الارتشاء، وفي المقابل يكون انطباعنا سيئا عن الذي يرفض المتاجرة بوظيفته، ويرفض ما نسميه « قهوة» ، في حين أن تسميتها الحقيقية هي رشوة، وأن وصفها الطبيعي هو جريمة يعاقب القانون فيها الراشي والمرتشي.
كما أن غالبيتنا لا ترى في صور عديدة للفساد فسادا، بل على العكس، ترى فيها حقا مشروعا، حتى وصل الأمر بمجموعة من آباء وأولياء التلاميذ، أن ينددوا بعدم السماح لأبنائهم بالغش في بعض الامتحانات المصيرية، كالباكالوريا مثلا، وهو تنديد يجد ما يبرره من داخل النسق القيمي في المجتمع، الذي يجعل من النجاح بمعدل كبير هو الهدف، فالمعدل مسألة حاسمة في الأفق الذي تفتحه الشهادة للناجحين، وليست الشهادة في حد ذاتها،ولمّا كانت الوسائل التي يوفرها المجتمع للظفر بمعدل جيد، غير متاحة للجميع وبنفس السهولة ( تعليم خصوصي، دروس دعم وتقوية ..إلخ) كان من البديهي أن يجنح غير المتمكنين من هذه الوسائل، إلى وسائل سلبية أخرى كالغش مثلا، والحالة هذه تعدت أولياء الأمور، والتلاميذ وجلّ المقبلين على اجتياز امتحان أو مباراة، إلى بعض المكلّفين بالحراسة فيها، الذين يشرعنون تقصيرهم في أداء مهامهم، أو مساعدتهم للممتحنين على الغش، باسم التضامن معهم، في صورة بشعة للتضامن، صورة عنوانها اغتيال تكافؤ الفرص، والمساواة بين أبناء الشعب، ومضمونها تكريس التطبيع مع الفساد.
إن هذا الواقع لا يمكن تجاوزه في الحديث عن مواجهة ظاهرة الفساد، وكل طرح يقفز عليه، هو بمثابة هروب إلى أمام، وتنصل من المسؤولية، فمحاربة الفساد مسؤولية جماعية، فهي ليست مسؤولية الدولة وحدها، كما أنها ليست مطية سياسية، سواء للذين يريدون توظيفها في خصوماتهم السياسية مع الدولة، كتكتيك للتستر على غياب أي عرض سياسي خاص بهم، أو للذين يحاولون احتكارها ونزعها عن باقي الفاعلين، مشكّلين بذلك ما يمكن تسميته «بالمونوبول الأخلاقي»، وقد أثبت الواقع، أن الذين استغلّوا رغبة المغاربة في محاربة الفساد، – وهي الرغبة التي عبروا عنها خلال الدينامية التي شهدها الشارع المغربي ذات 20 فبراير- وجعلوها شعارا لطروحاتهم السياسية، هم الفئة السياسية التي ارتبط أعضاؤها وأكثر من غيرهم، بفضائح أخلاقية ومالية و انتخابية.
إن الفساد هكذا، هو ظاهرة مركبة ومعقدة، مضمونها أن صورته المرتبطة بالمؤسسات العامة، ما هي إلا انعكاس لدورة الفساد في المجتمع، وأن اختزاله في الدولة، لا يمكن أن يكون إلا صورة من صور المزايدات السياسية، فدولة الحق والقانون، لا تواجه مثل هذه الظواهر، إلا بتعزيز آليات الرقابة فيها، وهي الآليات التي لا يمكن أن تؤدّي أدوارها، إلا بوجود مناخ يكرس الثقة فيها، كما أن مواجهة الفساد بالأساليب الفضائحية، لن تكون له أي فاعلية، بل إن مواجهته لن تكون ذات جدوى، إلا إذا تحمل الجميع مسؤوليته، والجميع هنا هو كل من السلطة القضائية، السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، المجتمع المدني، الإعلام وكل المؤسسات الاجتماعية، وإن أفضل طريقة لمحاربته، هي الوقاية منه، والتوعية بخطورته، من خلال التنشئة والتربية على القيم الفاضلة الحقيقية، كالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة.


الكاتب : فتح الله رمضاني

  

بتاريخ : 22/04/2019