الفيلم السوري «إلى سما».. التوثيق العام عبر الوجدان الشخصي

 

لا شك أن السؤال الأساسي في عملية إنتاج أيّ فيلم وثائقي يدور حول مقولة الفيلم ذاته، والجدوى منها، كذلك تمر محاولة تفسيره والدخول إلى عوالمه عبر فهم تلك المقولة. لماذا نشاهد الفيلم الوثائقي؟ ماذا سيضيف هذا الفيلم وما فرقه عن غيره من الأفلام؟ ما أهمية الشهادات والمرويات وتلك اللقطات الحية، وما الفرق الذي ستحدثه إذا ما تم البوح بها أو عدمه؟ وإذا دخلنا في سؤال الفن وأدوات التعبير، نتساءل، لماذا نعبر عن هذا الموضوع بالكتابة وعن آخر بالصورة وعن غيره بالرقص أو الموسيقى؟
فهم النشطاء والإعلاميين السوريين أهمية وضرورة توثيق ما يجري على الأرض السورية خلال فترات استثنائية، آلاف الساعات المصورة التي توثق الكارثة دفعت بالكثير منهم الى الدخول في تجربة إخراج الأفلام الوثائقية التي تروي حكاياتهم عن الأمكنة والأشخاص والمصائر، وقد أتى الفيلم الوثائقي الطويل «إلى سما»، إخراج وعد الخطيب وإدواد واتس، من صلب ذلك الدافع إلاّ أنه جاء محملًا بالكثير من الأسئلة الذاتية والوجدانية التي تداخلت مع السؤال العام وشاركت أسئلتها الشخصيّة مع كل من عاش تجربة مشابهة لتجربتها، ونجحت في توجيه السؤال إلى من لم يعرف عنها شيئًا.
لماذا أُصور، ولماذا أنا هنا؟ ولاحقًا، لماذا تزوجت ولماذا أنجبت طفلًا إلى الحياة، ونحن نخوض تجربة عيش صعبة؟
قد تبدو هذه الأسئلة مشروعة وضرورية في سياق أحداث كالتي جرت في سوريا، في لحظات الخوف والتهديد بالموت يضيء البشريّ على أسئلة الحياة والجدوى، وهذا ما جرى مع وعد الخطيب وزوجها الطبيب حمزة الخطيب وأهالي مدينة حلب خلال فترة زمنية ممتدة منذ بدء المظاهرات في المدينة في عام 2012 وحتى خروج أخر من تبقى في المدينة من أهلها في أواخر عام 2016. إذًا، نحن أمام زمن محدد، موضوع محدد، وسؤال مطروح في بداية الفيلم، ومن ثم تروى أحداث الفيلم كله لتجيب عليه، وذلك عبر تصوير تجربة الحياة في مدينة حلب خلال تلك الفترة بالتحديد، هذه ربما واحدة من الأسباب التي تجعل فيلم إلى سما فيلمًا وثائقيًا متكاملًا.

حكاية الفيلم

تروي المخرجة وعد الخطيب حكاياتها خلال أربع سنوات من العيش في مدينة حلب خلال ظروف صعبة، من حصار أمني للمناطق المعارضة للنظام، وقصف الأحياء وموت سكان تلك المناطق. تروي الخطيب تلك الأحداث، لتقول لابنتها لماذا أنجبتها إلى الحياة خصوصًا وأنها تعيش في مكان مثل مدينة حلب، في سياقٍ زمني يميزه الموت، ويُفتقد فيه أصغر مقومات العيش.
إلى جانب الأم وحكاية الأمومة، توجد حكاية الزوج وحكاية عن الحب غير المشروط الذي يدفع الطبيب حمزة الخطيب، زوج المخرجة وواحد من الأطباء الذين قرروا إنقاذ حياة جرحى المظاهرات في مناطق حلب الثائرة، ليصبح لاحقًا مؤسس وطبيب مسؤول عن واحدة من المستشفيات القليلة التي ما زالت تستقبل جرحى القصف الروسي على المدينة.
مكانيًا تجري معظم أحداث الفيلم في المستشفى التي يعمل فيها الطبيب حمزة ولا يمكنه مغادرتها، فتنتقل العائلة للعيش هناك، تصبح المستشفى مكان حياة ومكان موت، فاصل مكاني زماني يدخله الأحياء والأموات، المكان الوحيد في المدينة التي يمكن أن تشاهد فيه المعجزات والمآسي، وكأنه مكان مقتطع من سياق الموت ولكنه مشبع به، يدخل إلى المستشفى أعداد كبيرة من الجرحى والموتى يوميًا، يتبعهم ذويهم أيضًا لرثائهم وتوديعهم، تولد سما ابنة المخرجة والطبيب في المستشفى أيضًا وتعيش فيها، وتتعرف على حلب وشكل العالم من داخلها، كمحطة هامة من يوميات سكان مدينة حلب، أو من تبقى منهم على قيد الحياة، يكون المستشفى بوابة يمر عبرها موتى وناجون، وتشهد لحظات الفرح والفواجع، ويصبح العالم بالنسبة لسكان مدينة حلب المحاصرين هو تلك المستشفى.
تروي وعد الخطيب أحداث فيلمها لتقول لابنتها لماذا أنجبتها إلى الحياة، خصوصًا وأنها تعيش في مكان مثل مدينة حلب؟
تسحرنا الحياة في فيلم «إلى سما» كما يسحرنا الموت، وكأن تلك المعاني تم اختزالها إلى أقصى حد وتمثلت في خط سير أحداث عائلات محاصرة في حلب، تطرح دون أن تعرف سؤال حق الحياة، وحق العيش في المكان الذي ولدوا فيه، وتطرح أيضًا حرية اختيار ذلك الأمر وتحمل مسؤوليته في آنٍ معًا.

بين المكتوب والمرئي

فتحت وعد الخطيب عدستها في لحظات غير متوقعة وغير منتظرة، في لحظات يصعب أن تصفها كلمات أو تعابير، وهنا نقف عند معنى تحويل هذه الحكاية إلى فيلم، وكيف أنها لا يمكن أن تكون مقروءة على شكل يوميات أو مذكرات مكتوبة. الصورة في حكاية فيلم «إلى سما» هي الأداة الوحيدة التي يمكن من خلالها نقل أحداث هذه الحكاية، لأن ما يريد الفيلم البوح به عبر مشاهده هي تفاصيل تكتمل عندما نراها ونشعر بها. وهذه من الأمور الأساسية التي تجعل منه فيلمًا وثائقيًا ضروريًا، كذلك حساسية مخرج الأفلام الوثائقية التي نراها في عدسة وعد الخطيب والتي دفعتها لأخذ القرار بتصوير كل ما يجري في المكان بعفوية ظاهرة في اللقطات السريعة التي تظهر في بداية الفيلم، ومن ثم الاستمرار والإصرار على إكمال هذا العمل، يأتي ذلك من إحساس يسكنها بأهمية ما يجري على الرغم من مأساويته، كذلك تتواجد كاميرا الخطيب في أماكن غير متوقعة، غرفة العمليات أثناء إجراء عملية ولادة قيصرية مستعجلة لأم مصابة بشظية إثر سقوط قذيفة صاروخية على المدينة، في واحدة من أكثر مشاهد الفيلم تأثيرًا، نرى طفل حديث الولادة يفتح عينيه ويصرخ بعد فقد الأمل من حياته، مشهد ينقل ذلك التمسك بالحياة الذي بدأ يخبو في عيون شخصيات الفيلم المحاصرة والتي تنتظر الموت.
مما لا شك فيه بأن الرغبة في توثيق ما جرى في سوريا هي دافع حقيقي لوجود مثل هذا الفيلم، ولكن ليس هذا فقط. يمر الفيلم على ذلك من خلال حضور صورة الجسد الميت وروي تفاصيل المجازر التي حدثت في المدينة جراء العنف، لتصبح لقطة مقربة على جثة ميت هي علامة من علامات المكان أكثر من كونها توثيق لما يجري، ويمر من خلالها تعريف شكل الحياة في ذلك المكان. لهذا الأمر، لم تكن مشاهد البيوت المدمرة والأجساد الميتة هي من بين المشاهد المجانية التي اعتدنا عليها، بل كان لها توظيف ضروري في الحكاية.

من الهاتف المحمول إلى الكاميرا الرقمية

هكذا مر الفيلم زمنيًا وتقنيًا ودراميًا أيضًا، من صور سريعة انفعالية تسودها مشاعر الخوف وتتمثل في أصوات تهدف منادية بشعاراتٍ، مرورًا بالقصف والمجازر التي يخلفها قصف الطيران الروسي على المدينة، مشاهد على أجساد ميتة، أنقاض المدينة، وانتهاءً بكاميرا احترافية حاضرة في المشهد، تعرف فضاء مدينة حلب وبيوتها الفارغة والمدمرة، تعرف الشخصيات التي تتقاسم الحصار والجوع مع أبنائها وأصدقائها.
للكاميرا، أو فعل التصوير بشكلٍ خاص في الفيلم، مهمة اجتماعية وأخرى وجدانية، الصورة ومعناها، والجدوى من الحركة في مكان يموت فيه كل شيء. نرى المخرجة مع ابنتها وكاميرتها في لقطة الفيلم الختامية، وكأن الأولى كانت سببًا للثانية، أو كلًا منهما مكملة للأخرى.
في ختام الفيلم، تجيب الخطيب ابنتها ونفسها عن السؤال الذي طرحته في البداية وصورت من أجله فيلمها الأول، وأصرت على الاستمرار في التصوير خلال تلك الظروف التي عاشتها. لماذا بقينا في حلب؟ لأننا كنا نحاول الوقوف في وجه الطغيان، لعل أبناءنا ينعمون بالعيش في بلدٍ ديمقراطي لا وجود للاستبداد فيه. رسالة عابرة من الأجداد والأبناء إلى الأحفاد، أجيال ستعرف وجهًا آخر لسوريا غير الذي عرفه من سبقهم، وإن لم يستطيعوا التعرف عليه فلربما عليهم أن يعرفوا يومًا بأن هناك من كان يحاول وقد دفع حياته ثمنًا للعيش بحرية.


الكاتب : علا المصياتي

  

بتاريخ : 19/10/2019