القصة مرآة من عناد

 

في ما يشبه الإشارة غير المنصفة ، وسم ناقد عزيز نصوصي القصصية بـ « السرد الحر « ، نسي أني أحضن لحظة الكتابة كعاشق يصيبه مس فضح المفترس المتناسخ ، يتماهى مع شخوص قصصه ، ينحاز لغصّاتهم ، وهي قالت : «لماذا لا تمنح شخوص نصوصك أسماء معلومة ؟» وأنا قلت : «وما حاجتي لأسماء اعتباطية توحي بعكس ما أريد ، عادة أترك للآخر لذة اختيار الاسم المناسب والنعت الذي يليق ، فوق هذه الأرض القاسية متسع للأقنعة المعروضة لمن يسرق قلبك وعقلك ويخون أكثر!»
لاعتبارات فنية جمالية ، لا أعتقد أن القصة القصيرة كجنس أدبي « دخيل « على الثقافة العربية تحتاج لأن تكون كاميرا متنقلة تجوب المدن والشوارع وجغرافيا السطح المخادع ، ليس عليها أن تلبس ثوب المخابرات الخشن المعني بمتابعة حركات أشخاص ورصد ظاهر علاقات إنسانية شديدة التعقيد ، تلك مهمة سهلة تقوم بها عيون وآلات تصوير / توصيف يهمها تقديم بروفايلات ناقصة مما يجعل رصدها أقل من استخبار برئ وأكثر من حكاية تشبع غريزة الفضول والتجسس على حيوات الآخرين .
الكتابة الإبداعية في عمومها، والقصة القصيرة تحديدا، التقاط سردي ذكي لإشراقات برقية لها بداية ونهاية في الزمن الواقعي ، نص متفرد كما قال فرانك أوكونور، مطية سحرية لتعرية حرائق الدواخل والمصائر البئيسة ، عين شقية مهووسة بمحاولة ما يمور في أعماقنا ، وهي فضح فني لغرابة كائن بشري يحارب طواحين هوائية تحرمه من إنسانيته المفترضة .
دون حذلقة ، للحكاية بأسلوبها التقليدي المتاح أمام الجميع وظيفة التدجين ، وللقصة بتقنياتها العصية على من هب ودب مسؤوليات التحريض على التأويل والتمرد النبيل ، هي ذي غصتي قصتي أُلبِسُها ما أريد ، وتلك حكايتك ، لك الحرية في أن تلبسها الكفن الذي تشاء ! لكن المؤكد أنك ستحتاج الكثير من الوقت لتصرخ ضد من سرقوا إنسانيتك ، والكثير من الجرأة ومن الغضب لتعترف بحملك لحبل المشنقة وإعدام ما تبقى من حلمك الأكبر، وانتبه .. احذر الجحيم ، ستتورط في أحزان تجهل السباحة في بحرها ، وتفشل في إنقاذ ما تبقى من حياتك من الغرق في دوامة حيادها التاريخي البارد !
بعيدا عن التعصب وادعاء المقامات فنا حكائيا مسجوعا يشكل إرهاصات جنس القصة العربية ، جاءت الخطوات الأولى وبدايات الحبو السردي القصصي في القرن العشرين ، ظهرت القصة بمفهومها الكلاسيكي مع الكاتب اللبناني الرائد ميخائيل نعيمة والمصري محمد تيمور ومحاولات مصطفى لطفي المنفلوطي مع ترجماته غير « الأمينة « لنصوص عالمية حين كان يكتفي باستعارة الفكرة وتقديمها للقارئ العربي بتوابل شرقية تحتفي ببلاغة العربية ومحسناتها البديعية .
مع هؤلاء وغيرهم كانت القصة كما قال القاص المغربي إدريس الخوري ذات مقالة نميمة إبداعية محببة ، تهتم بتقديم الواقعي المعيش ، تلتقط الإشارات وفق سرد خطي يغلّب الوصف ويشبع غريزة الفضول المشار إليها أعلاه .
لكن شبكة الشعر العنكبوتية التي تصطاد كل الأجناس الأدبية ، ظهر أن القصة القصيرة توأم للقصيدة الشعرية بالنظر إلى تمردهما على اللغة المهادنة المتواطئة مع السائد المألوف وانسياقهما نحو تعرية المسكوت عنه بالتكثيف وفضح الوعي الشقي بالكتابة عن الأوهام والأحلام وجراح الخيبات الدفينة وسلاسل النكبات المتلاحقة ، وقد تحقق ذلك مع المصري يوسف إدريس والعراقي زكريا تامر واللبناني إلياس خوري والسوري حيدر حيدر والمغاربة محمد عز الدين التازي ومحمد برادة وأحمد بوزفور .. وآخرين .
في لحظات السهو وشرود العين نحو البعيد القريب ، إثر اكتمال طقوس الدفن المحايدة، تنتهي جنائز الواقع المتلاحقة ، يأتيك شيطان الحكاية بعد أن تكون قد فكرت في استثمار حدث ما، يريك من جمال الحسناء ما يعجز الآخرون عن إدراك دلالته جهلا أو حقدا على عطرها الفاضح ، تبتسم للمحفز الشيطاني الشقي، تخرج سالما من ورطة الأسى المشاع، تختلي بالوفية التي لا تخون ، ودون استغراب ، تعترف لها بموت التفاصيل اليومية الهاربة عن سلطة الشهادة وإيحاءاتها المفترضة ، وتنسج للمولود قصة حسناء تنتصر للحياة .
وعلى قارعة النسيان ، عند شاطئ العشق المزعوم حيث الأحداث المتعاقبة حصى جارحة تؤلم أصابع الذاكرة المرهقة ، تموت الحكاية بوقائعها ، تغرق في لحظة صمت طويلة ، تتأمل مخاضا لازما للهروب من خدر حكي حكواتي تقليدي لا يقدم ولا يؤخر ، تولد القصة الصرخة ، أحيانا تأتي طيعة دون آلام ، كضربة حب مفاجئة تورطك في علاقة تفجر شقوق البركان المتأهب ، وأحيانا أخرى تستعصي الولادة ، وتتمنع حتى تأتي الكلمة المفتاح وتهديك اللحظة المثالية لاحتضان حبيبتك المتفردة ، تأخذك لحظة العناق الصوفي اللذيذ ، لا تتعسف برسم مسار مسبق وطريق معبدة تقود لمدينة الأوهام الكبير، لا تهتم ببقية توابل السرد المعلومة ما دام العطش الأسطوري لمفاجآتها المضمونة يقودك مسرنما نحو بناء عالم قصصي حي يتفوق على عابر زائل يولد ميتا في كفن سرد محايد ووصف إنشائي كلاسيكي مقيد.
بإيجاز شديد ، وللمقارنة غير المفيدة ، القصة الحرة ليست حديث وسادة لدغدغة غرائز سريرية معطلة أو استيهامات ملتحية مهووسة بتكريس غباء مركب .. هي لسعة ذكية لإيقاظ الراقد ، والحكاية التي تريدون تأليف مقاماتي جبان يخضع لعلامات تشوير معلومة ثابتة يرتدي رداء مزيفا لماركة تجارية تنتج آلاف النسخ الميتة ، فيما القصة الحسناء متمردة على سرير بروست الفاشل ، كتابة مهووسة بخلخلة السائد ومطاردة المدهش غير المدجن وانزياحا إراديا عن طريق مستهلكة عبرها الكثيرون ، هي الحياة يا حبيبي التي لا يعيشها الآخرون .. وللقصة في خلقها فنون .


الكاتب : حسن برما 

  

بتاريخ : 07/12/2018

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *