القضاء والمحاماة شريكان في تحقيق العدالة وحماية الحقوق و الحريات

 

نظم قطاع المحامين والمحاميات الاتحاديين مؤتمرا يومي 12و13 أبريل 2019 بالفنيدق حضره بعض النقباء والمحامين وعلى رأسهم رئيس هيئة المحامين بالمغرب ونقيب هيئة الدار البيضاء الاستاذ عمر أدرا تحت إشراف المكتب السياسي تحت شعار «المحاماة شريك السلطة القضائية في تحقيق العدالة وحماية الحقوق و الواجبات».
أكتفي بما أشار إليه الكاتب الأول من أن مهنة المحاماة مهنة مستقلة ومساعدة للقضاء ومن أسرته، وهو ما نص عليه الفصل الأول من قانون المنظم لمهنة المحاماة، وأن هذا الفصل يقتضي إشراك المحامين في سن القوانين المتعلقة بمهنتهم، ولا يجب أن تنفرد السلطة التنفيذية أو تشريعية، نظرا لدور المحامي في الدفاع ،وتأطير المواطنين و تأسيس منظمات حقوقية ومهنية، والاهتمام بقضايا المواطنين الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ومساهمتهم في المعركة من أجل استقلال المغرب، والدفاع عن الديمقراطية، وحقوق الانسان، والقضايا الوطنية والقومية المشروعتين، و في طليعتهم المحامون الاتحاديون، وكان يتولى الكتابة الأولى للاتحاد المحامون من مثل الفقيد عبد الرحيم بوعبيد، والسي محمد اليازغي والمجاهد عبد الرحمان اليوسفي أطال لله عمرهما، وأخيرا ادريس لشكر الكاتب الاول الحالي، الذي أتمنى له التوفيق في مشواره، وأشير أيضا إلى مضمون كلمة رئيس الجمعية والآخرين التي انصبت على قضايا المهنة ومسؤولية الدولة تجاه هذه المهنة النبيلة، التي يجب الاعتراف بدورها في مختلف المجالات.
وفي هذا الصدد، سأتناول وضع القضاء والمحاماة في الظرف الراهن كما يلي:
بما أن الخصومة من لوازم الطبيعة البشرية، فإن الشريعة الإسلامية اهتمت بالقضاء، وأمرت بالعدل، نظرا لما للقضاء من خطورة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقد ورد ذكر القسطاس الذي يعتبر مرادفا للعدل ومناقضا للظلم المحرم بالإطلاق، وورد في القرآن الكريم خمس وعشرون آية، وكلها تتعلق بالقسط، كما ورد ذكر العدل في العديد من الآيات لا مجال لذكرها جميعا في هذا المقال، كما أن السيرة النبوية اهتمت بالعدل دون الكلام عن سيرة الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم .
وكان الحكم في عهد الرسول (ص) يتم من خلال القرآن، ومن خلال سننه. قال عز من قائل (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك، ولا تكن للخائنين خصيما ، فالحكم لله عز جلاله و هو خير الحاكمين) الآية 105 من سورة النساء. وقال تعإلى (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) الآية 56 من سورة الأنعام . كما قال (ولله يحكم ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب) الآية 41 من سورة الرعد. و قال أيضا (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) الآية 42 من سورة المائدة.
وملخص القول أنه كان ينظر للقضاء نظرة دينية صرفة: لقوله تعإلى (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن لله يحب المقسطين) الحجرات. (وإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل) النساء. (وإن لله يأمر بالعدل والاحسان) النحل، (و يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، إن لله خبير بما تعلمون) الآية 8 من سورة المائدة.
اما بالنسبة للسلطات الثلاث (التشريعية – التنفيذية– القضائية ) كانت في بداية عهد الاسلام شبه مجتمعة في يد الرسول (ص) باعتبار أن لله سبحانه كان يوحي إليه بالآيات القرآنية. وإن الولاية الكبرى، كانت له من البار عز وجل، الذي قال: (فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا فيما قضيت وسلموا تسليما) الآية 65 من سورة النساء.
وكان صلى لله عليه وسلم يحرص كل الحرص على إقامة العدل بين الناس، وهي وظيفة تقلدها حتى قبل ظهور الاسلام، حيث كان أهل قريش يحكمونه فيما ينشأ بينهم من خلافات حتى سمي بالأمين. وقال رسول (ص) عن لله عز جلاله إنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا). حديث قدسي.
والواقع أن القضاء ولو كان على أحسن وجه لا يمكنه أن يقضي على الشعور بالظلم لأن العدل إذا كان مجرد تصور فإن الظلم يبقى شعورا ومن من البشر لم يشعر في يوم من الأيام بالظلم؟ وعلى القضاء ان يكون عادلا حتى لا يكون الشعور بالظلم مرتين وتنعدم المصداقية في القضاء ومن ثم في المجتمع.
وكان صلى لله عليه وسلم أحرص على العدل من أي شيء آخر. وجاء في كتاب سنن النسائي: «أفكان يتعود من درك الشقاء و شماتة الأعداء و سوء القضاء « فعن الإمام مالك ابن انس أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: (إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ ) عن موطأ الإمام مالك 1410. و مع توسع رقعة الإسلام، كان لا بد من تعيين قضاة للفصل بين الناس. وقد تم تعيين هؤلاء حتى بالمدينة المنورة، حيث كان يقيم الرسول (ﷺ). كما تم تعيين قضاة خارج المدينة المنورة ، فعن عمر بن عوف عن شريك عن سماك عن حنش عن علي قال : بعتني رسول لله (ﷺ) إلى اليمن قاضيا فقلت: يا رسول لله، ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء، فقال مما جاء في كتاب سنن أبي داوود : (إن لله سيهدي قلبك، و يثبت لسانك. فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء)، كما كان صلى لله عليه وسلم يوجه القضاة كقوله: (لا يحكم أحد بين اثنين و هو غضبان ، وإن خيركم أحسنكم قضاء، و إن من ولي القضاء، فقد ذبح بغير سكين، وإن قاضيان في النار وقاض في الجنة، وإن أعدل ساعة خير من عبادة ستين سنة . (إن القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة، قاض عرف الحق و قضى بخلافته فهو من أهل النار وقاض قضى للناس عن جهل فهو من اهل النار، و قاض عرف الحق فاتبعه، فهو من أهل الجنة) حديث صحيح. وإن كان الأمر يتعلق بالقوانين الوضعية .
و كان نظام الحكم يقوم عند العرب على حصر سلطات الحكم بالإمامة الكبرى أو بالخليفة . قال أبو بكر الصديق رضي لله عنه في أول خطبة له: الضعيف عندكم قوي عندي حتى آخذ الحق له. و القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء لله. وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي لله عنه، المشهور برسالته لأبي موسى الأشعري والي البصرة ، هو أول من فصل القضاء عن الولاية العامة، وجعله مستقلا بنفسه، ووضع أول دستور لسلوك القاضــي . وقد عرف استقلال القضاء أجل تجلياته في عهد عمر ابن عبد العزيز، الذي يروى عنه أنه عندما ولي الخلافة، جاءه وفد من أهالي سمرقند ،وشكا له قائده قتيبة بن مسلم الباهلي أنه دخل بلدهم سمرقند مع جيشه قبل أن يوجه لهم الإنذار حسب قواعد الإسلام، فكتب عمرإلى عامله في العراق أن ينصب لهم قاضيا، فنصب لهم جميع بن حاضر الباجي، الذي سمع شكواهم فسمع و حاكمهم مع القائد قتيبة، وحكم بخروج المسلمين من سمرقند، وأن يعود أهلها إلى حصونهم . وخضع القائد العظيم وجيشه الذي فتح القارة الاسيوية، وأخضع ملوك الصين، خضع لحكم جميع وهمّ المسلمون بالانسحاب. إلا أن أهل سمرقند لما رأوا أن الأمر جد و أنهم لم يشهدوا عدلا مثل هذا العدل، قالوا مرحبا بكم سمعنا و أطعنا . و يروى كذلك أن أحد ولاة الخليفة عمر بن عبد العزيز كتب إليه بطلب مالا لتحصين المدينة، فكتب إليه عمر قائلا: (حصنها بالعدل ونقّ طريقها من الظلم).
ويجب التذكير بأنه لا مجال لمقارنة القضاء واستقلال القضاء في عهد الرسول وعهد الخلفاء الراشدين وما أتى من بعدهم مع الفكر الليبرالي الغربي، الذي برز في القرن الثامن عشر مع مونتيسكيو صاحب نظرية تقسيم السلطات إلى سلطة تشريعية تضع القوانين وسلطة تنفيذية تنفذ القوانين وسلطة قضائية تفصل في النزاعات على ضوء القوانين . وقد اوضح مونتيسكيو أنه لا ديمقراطية سوى بتقسيم السلطات الثلاث، وأن أي تسلط على أخرى لا يؤدي إلا إلى الديكتاتورية. وقد كانت نظرية مونتيسكيو الحافز على اندلاع الثورة الفرنسية لسنة 1789 رغم أن صاحب النظرية توفي سنة 1755. بعد ذلك، جاءت المواثيق الدولية التي التزم المغرب باحترامها: وجاء في ديباجة الدستور المغربي الصادر في 7 اكتوبر 1996 تنص على أن المملكة المغربية، وإدراكا منها بضرورة إدراج عملها في إطار المنظمات الدولية، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيق هذه المنظمات من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا. وتنص ديباجة ميثاق الأمم المتحدة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان المؤرخ في 10 دجنبر 1948 على أن تجاهل حقوق الإنسان و ازدراءها قدأ إلى أعمال أثارت بربريتها الميز الإنساني، وان من الأساسي أن تتمتع حقوق الإنسان بحماية النظام القانوني، اذا أريد للبشر أن لا يضطروا آخر الأمر إلى التمرد على الطغيان و الاضطهاد به، كما تنص المادة العاشرة على أن لكل إنسان،على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ونزيهة نظرا منصفا وعلنا للفصل في حقوقه والتزاماته وفي أي تهمة توجه إليه، كما أن الفصلين 14 و 15 من المعاهدة الدولية الخاصة بالحقوق المدنية و السياسية المؤرخة في 16 فبراير 1966 أولت نفس الاهتمام لموضوع استقلال القضاء والمحاكمة العادلة ، كما أن المؤتمر السابع للأمم المتحدة لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد بميلانو في 26 غشت 1985 أقر مبادئ أساسية بشأن استقلال السلطة القضائية، من بينها أن الدولة تكفل استقلال السلطة القضائية، و ينص على ذلك دستور البلد وقوانينه، وأنه من واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية . وتفصل هذه الأخيرة في المسائل المعروضة عليها دون تحيز على أساس الوقائع ووفقا للقانون ، و دون تقييدات أو تأثيرات غير سليمة ، أو أي إغراءات أو تهديدات أو تدخلات مباشرة من أي كان أو لأي سبب . و اعتمد المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة قواعد التطبيق الفعلي للمبادئ الأساسية المتعلقة باستقلال القضاء التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1989، كما اعتمد مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في هافانا من 27 غشت إلى 7 شتنبر 1990 المبادئ التوجيهية بشأن أعضاء النيابة العامة والمتمثلة في ضمان وتعزيز فعالية أعضاء النيابة العامة وحيادهم وعدالتهم في الإجراءات الجنائية .
اما اتحاد المحامين العرب، فقد أولى مسألة استقلال القضاء واستقلال المحاماة اهتماما خاصا، إذ انطلق مما قرره قانونه الأساسي من العمل على تأمين استقلال القضاء والمحاماة، فاختار لمؤتمره الرابع عشر المنعقد عام 1980 في الرباط عنوان استقلال المحاماة ضمانة أساسية لحق الدفاع ، وأسس الاتحاد من بين لجانه لجنة لاستقلال المحاماة والقضاء جرت إعادة تنظيمها كلجنة دائمة على توصية المكتب الدائم للاتحاد، المنعقد بالدار البيضاء عام 1990 ، وأجرت اللجنة دراسة لواقع المحاماة والقضاء في البلدان العربية من خلال الاستبيان، الذي وجهه الاتحاد في فبراير 1991 إلى جميع نقابات المحامين في الوطن العربي، تضمن الاستيضاح حول مظاهر وواقع استقلال المحاماة والقضاء في الأقطار العربية ، ويكرس الاتحاد من بين أعماله بندا خاصا لمتابعة هذا الموضوع، كما يوليه الاهتمام في صحافته، حيث ينشر بشكل متواصل الأبحاث والدراسات المتعلقة بهذا الموضوع .
وعقد المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة مؤتمره الثامن بالقاهرة، في الفترة ما بين 21 و 24 فبراير 2003 تحت شعار دعم وتعزيز استقلال القضاء. ولا حظ المشاركون أن القضاء المستقل، هو الركيزة الأساسية لضمان الحريات العامة وحقوق الإنسان ولمسيرة التنمية الشاملة وإصلاح نظم التجارة والاستثمار والتعاون التجاري بين البلدان العربية والدول الأخرى ، وبناء صرح المؤسسات الديمقراطية ، كما لاحظ المشاركون أن السبب الرئيسي لعدم استقلال القضاء في غالبية البلدان العربية، هو غياب فكرة المؤسسة، لا سيما المؤسسة القضائية، وغياب الديمقراطية، وسيادة القانون، وتدخل السلطات التنفيذية في أعمال وشؤون السلطة القضائية ، وتراجع مستوى التعليم الحقوقي، الذي أدى إلى إضعاف الثقافة المتعلقة باستقلال القضاء. و أنهى المؤتمرون أشغالهم ببيان يتضمن توصيات تلح على الالتزام بمبادئ الأمم المتحدة الأساسية المتعلقة باستقلال القضاء مع توصيات أخرى سيطول الأمر بذكرها.
و في المغرب، اهتمت الدساتير بدسترة استقلال القضاء، حيث ينص الفصل 82 من دستور اكتوبر 1996 على أن القضاء مستقل عن السلطة التشريعية، وعن السلطة التنفيذية.
أما استقلال القضاء ونزاهته وانعكاسه على دور الدفاع والمحاكمة العادلة، فلا يجادل أحد في كون القضاء، هو ركن من أركان الدولة، إذا انهار، انهارت معه هذه الأخيرة بالتبعية. فالقضاء، هو الساهر على فرض احترام القانون من طرف الجميع، ودون تمييز بين الأشخاص سواء من حيث العنصر أو اللون أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو غيره من الآراء أو المنشأ الوطني والاجتماعي أو الأصل العرقي أو الملكية أو المولد أو الحالة الاقتصادية أو أي وضع آخر. والقضاء هو حامي الأفراد والجماعات من التعسف والشطط والظلم وهو الذي يحد من التجاوزات، ويوفر ما استقر لدى الجميع أنه عدل، وهو الذي يوفر المناخ السليم للنمو الاقتصادي والحافز على تشجيع الاستثمار. وإن المساواة أمام القانون وافتراض البراءة، والحق في محاكمة عادلة وعلنية أمام محكمة مستقلة و نزيهة، هي من بين المبادئ، التي لا مناص منها، لتعزيز واحترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية. ويتبوأ القضاء منزلة كبيرة في الدولة، نظرا لما يقوم به من وظيفة، من شأنها بثّ الأمن ومحاربة الفوضى في المجتمع. إلا أن القضاء، لا يمكنه أن يحقق المكانة الجديرة به، إن هو لم يحظَ بثقة المواطنين عامة، والمتقاضين خاصة . وإن ثقة هؤلاء و أولائك، لن تتحقق إلا من خلال برهنة القضاة أنفسهم على تجردهم و نزاهتهم واستقامتهم واستقلالهم عن أي تدخل أو تأثير. قال رئيس فرنسا السابق فنسان أوريول عند نهاية رئاسته سنة 1955: يوم يفقد المواطنون ثقتهم في العدالة، تتعرض الدولة كما يتعرض نظام الحكم، لأشد الأخطار، و لا خوف على أمة بها قضاء كفؤ ونزيه ومستقل. وقيل عن تشرشل رئيس بريطانيا العظمى السابق أن الفساد ظهر في أجهزة الحكومة والإدارة. فسأل: وكيف القضاء ،قالوا : القضاء البريطاني ممتاز جذاب، فقال: لا خوف على بريطانيا.
ولكي يكون للقاضي دور فعال، فإنه على المجتمع أن يوفر له هذه الاستقلالية والاستقلالية التامة لأداء مهمته على أحسن وجه، وفي أحسن الظروف. والاستقلال، يعني حرية القضاء في إصدار الأحكام دون تدخل أو تأثير. وهذا الاستقلال، لا يجب أن يقتصر على السلطتين التشريعية والتنفيذية، لكن عليه أن يمتد لسلطة الرأي العام، وسلطة الإعلام، وسلطة المال.
أما بالنسبة لاستقلال القضاء عن سلطة المال، وعن سلطة النفس الأمارة بالسوء، فقد جاء في هذا الإطار، قول رسول لله ﷺ (كاد الفقر ان يكون كفرا) . و قال عمر بن الخطاب (رضي لله عنه) لو كان الفقر رجلا لقتلته. ومن ثم وجبت محاربة العوز المادي داخل الجهاز القضائي برمته، وتمكينه من جميع الإمكانات التي تصون كرامة أفراده، و كرامة ذويهم.
وقد عمل المغرب في هذا الاتجاه منذ سنوات خلت، حيث أصبحت وضعية القضاة وضعية مريحة مقارنة برجالات من نفس المستوى الجامعي، يعملون في قطاعات أخرى.
ويمنع المشرع عن القاضي كل نشاط سياسي وكل موقف سياسي ( الفصل 13 من النظام الأساسي لرجال القضاء). فلا يكفي القاضي الابتعاد عن سلطة المال، بل عليه أن يتحدى تنازع المصلحة الشخصية أو العائلية أو العرقية أو القبلية أو السياسية، ليبرهن للجميع أنه فعلا محايدٌ مستقلٌ ووقورٌ . والحياد، يعني أن تكون للقاضي مناعة خلقية تبعده عن الإغراءات، والمال، والجنس وغيرها، وتصونه من الانحراف والزلل، كما على القاضي أن يبتعد عن الانتماءات السياسية تفاديا لتأثير الروابط الحزبية عن الأدلة الموضوعية. فالسلطة القضائية، تفصل أحيانا في مسائل لها طبيعة سياسية، ولها آثار سياسية، ومن شأنها لا محالة وضع القضاة في مرمى الأسلحة السياسية، وبالتالي فعلى القاضي ألا يتحول إلى أداة لترسيخ ايديولوجية سياسية معينة، والانتصار لها على منصة القضاء: وعلى حساب القضاء في مواجهة معارضيها، وذلك حتى لا يتخلى على مفترضات الحياد. وقد أكد هذا المنع النظام الأساسي لرجال القضاء في المادة 13 التي تنص على أنه يمنع على الهيئة القضائية كل نشاط سياسي، وكذا كل موقف يكتسي صبغة سياسية. وقد سبق القول بأن الضرورة تقتضي كذلك أن يكون وزير العدل بعيدا عن السياسة، باعتباره يتقلد مهمة عالية بالمجلس الأعلى للقضاء، وأمام المهام التي يخوله المشرع إياها للتدخل في القضاة، وباعتبار القاضي بشرا من شأن ضعفه محاباة الجهة السياسية التابع لها وزيره. أما الآن، فقد أصبح القضاء لا يخضع لسلطة وزير العدل بصفته عضوا في السلطة التنفيذية، وحل محله المجلس الأعلى للقضاء .
ومن الصفات التي يجب ان يتحلى بها القاضي كالتالي:

النزاهة

يطالب الجميع دائما بأن تكون الأحكام نزيهة. ولكي تكون كذلك، فإنه من البديهي أن يكون من يصدرها نزيها . و النزاهة تعني الابتعاد عن الاغراءات كيفما كان نوعها، سواء كانت طمعا في المال، أو في منصب من المناصب، أو إرضاء لجهة من الجهات أو خوفا أو رهبة من هذه الأخيرة. فعلى القاضي أن يكون نزيها مع ضميره قبل أن يكون نزيها مع المتقاضين الذين يضعون كل ثقتهم في حياده وفي نزاهته. وإذا فقدت هذه الثقة، فإن جميع دواليب الدولة تؤدي الثمن، وتؤديه غاليا لأن المشهد القضائي بالبلاد، هو الذي يعكس صورة هذه الأخيرة، لأن دولة الحق والقانون لا يجب أن تقتصر على سن ترسانة من القوانين، كما هو الشأن بالنسبة للمغرب، بل هي سلسلة مرتبطة ما بين التشريع والتطبيق السليم للقوانين وتنفيذ الاحكام القضائية والمصداقية في نزاهة القضاة، وهو أمرأ لا محيد عنه.

حسن الخلق

قال لله عز وجل في حق رسوله المصطفى «وإنك لعلى خلق عظيم» الآية 4 من سورة القلم. يعني أنه سبحانه، أثنى على الرسول عليه السلام، حيث كان يجمع بين محاسن الأخلاق و محاسن الآداب. وقال شوقي «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت*** إن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا «كما قال: «صلاح أمرك بالأخلاق مرجعه*** فقوم النفس بالأخلاق تستقم». ومن الأخلاق نقتصر على الإشارة إلى حسن الخلق . وحسن الخلق يكمن في طلاقة الوجه، وكثرة الحياء، وانعدام الأذى، وكثرة الصلاح، وصدق للسان، وقلة الكلام، وكثرة العمل، وقلة الزلل، والفضول، وبر الوصول، وقمة الوقار، وقوة الصبر، وكثرة الشكر، والرضا، والحلم، والرفق، والعفة، والشفقة، وعدم التسرع، وغياب الحقد والحسد.
ولا يمكن الكلام عن القضاء واستقلال القضاء دون التطرق للمحاماة كمهنة. والمحاماة ظهرت منذ ان وجدت الخصومة. وهي من الحماية خلقت للدفاع عن حياة الانسان وعن حريته وكرامته وعرضه وماله. وتشكل المحاماة الركيزة الاساسية لتحقيق العدل. وإن كانت المحاماة مهنة حرة ومستقلة فإن المحامين يشكلون مع ذلك جزءا لا يتجزأ من أسرة القضاء باعتبارهم يشاركون السلطة القضائية في تحقيق العدل وتأكيد سيادة القانون.
وينص الفصل الأول من ظهير 10 شتنبر 1993 المتعلق بتنظيم مهنة المحاماة. إن المحاماة مهنة حرة مستقلة تساعد القضاء في تحقيق العدالة. والمحامون بهذا الاعتبار جزء لا يتجزأ من أسرة القضاء. إلا ان المحاماة اكبر بكثير من التعريف البسيط الذي جاء به القانون المذكور باعتبار ارتباط المحاماة بنصرة الحق والدفاع عن المظلوم وإرساء دولة القانون والمؤسسات. ولا أحد يجادل في كون المحاماة تعد كذلك معقلا للدفاع عن الحرية وعن استقلال القضاء . وحق الدفاع حق مقدس من الحقوق الأساسية للإنسان يقاس به المستوى الحضاري و الديمقراطي للمجتمع .
ومن هذا المنطلق، لم تكن مهنة المحاماة في يوم من الأيام مهنة غذائية بل هي رسالة إنسانية سامية، شريفة و نبيلة، رسالة مبادئ ومواقف تساهم في تكريس الحضارة وفي دعم العمل الديمقراطي في المجتمع ومن ثم كان يشترط دائما و ابدا في الراغب في تحملها وتحمل مخاطرها ان تكون له الموهبة وان يتمتع بخصال الشجاعة الأدبية و الجرأة و الذكاء و الفطنة و سرعة البديهة و الإلمام بالقوانين وبقدرة الجدال بالتي هي أحسن وقدرة الإقناع إلى جانب خصال الصدق والنزاهة و الاستقامة والشرف. والمحاماة أمانة ومسؤولية ولا غرابة في ذلك إذ يعيش المحامون يوميا آلام و آمال المواطنين وهم مسؤولون عن الدفاع عن كرامة الانسان، ورد الحقوق لأصحابها ودفع الاتهام الباطل عنهم ومراقبة التشريع ومناقشته وانتقاده واقتراح البدائل والمساهمة في تطوير المجتمع بهدف تحقيق تقدمه وأمنه واستقراره إلى جانب المهام الأخرى الملقاة على عاتق المحامي. ومن ثم كانت للمحامين ولا تزال إسهامات قوية في بسط العدالة وتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في المجتمع، وكان للكثير منهم نصيب الأسد في تقلد المناصب العليا ذات المسؤولية. ومن اطلع على التشكيلات الوزارية التي انطلقت في المغرب منذ فجر الاستقلال إلى اليوم سيكون له تصور عن ذلك. وقد كان الأمر دائما وأبدا على هذا النحو في الدول الأخرى، حيث كان المحامي مبجلا إلى درجة قول المرحوم الحسن الثاني لو لم أكن ملكا لوددت أن اكون محاميا او كقول فولتير كنت اتمنى ان اكون محاميا، لأن المحاماة أجمل مهنة في العالم.
ان المواطن لا يطرق باب مكتب المحامي لهوا، ولكنه يقدم على ذلك لأن جميع الابواب قد سدت في وجهه. والمحامي لا يطرق أبواب المحاكم عبثا ولكنه يطرقها للدفاع عن مصالح موكله ولإقناع القضاة بإنصاف هذا الموكل. وينتظر هذا المواطن كما ينتظر محاميه ان يجد قضاء نزيها محايدا مستقلا يمكن الاطمئنان اليه. ومن بين مهام المحامي الدفاع عن استقلال القضاء والدفاع عن استقلال القضاة. وهذا الدفاع لا يجب ان يقتصر على سن النصوص فقط، بل يجب ان يتبلور على أرض الواقع حتى يحس المتقاضي بالاطمئنان على شخصه وماله وشرفه.
إن الحق في المحاكمة العادلة من الحقوق الاساسية للإنسان، فالناس جميعا سواء أمام القانون، ومن حق كل فرد لدى الفصل في أي تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أي دعوة مدنية أن تكون قضيته محل نظر وبشكل علني أمام محكمة مختصة ومستقلة ومحايدة منشأة بحكم القانون. وقد وضع المجتمع الدولي مجموعة من المعايير لضمان المحاكمة العادلة.
وتنص المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الانسان الذي أصدرته الجمعية العامة لحقوق الانسان على أن لكل انسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق في ان تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة نظرا منصفا وعلنيا للفصل في حقوقه و التزاماته و في أي تهمة جزائية توجه اليه، كما أن الفصل 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ينص على أن من حق كل متهم بارتكاب جريمة أن يعتبر بريئا إلى أن يثبت عليه الجرم قانونا.
وقد تبنى القانون الجديد للمسطرة الجنائية المغربي هذا المبدأ بالمادة الاولى منه أن من حق كل فرد ان تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية منشأة بحكم القانون.

الحياد

القانون رهين بالحياد باعتبار أن القاعدة القانونية قاعدة مجردة. واذا كانت القوانين لا تفسر ولا تطبق بمنظور حيادي، فإن القانون كما نعرفه وكما درسناه سيتوقف عن الوجود إذ لا يمكن فصل الاستقلال عن الحياد في الجهاز القضائي. كما أن الحياد في القضاء شرط وجود إن هو اختفى قضي عن القضاء، وأصبح هذا الاخير مبنيا على هوى القاضي. حقيقة إن الصراع من أجل الحياد صراع صعب للغاية بالنسبة للشخص العادي إذ يبقى هذا الاخير انسانا بضعفه وانفعاله وشهوته وميولاته وعاطفته و معتقداته وعقده ومؤهلاته ومسؤولياته ومصالحه. إلا ان الأمر لا يقبل عذرا بالنسبة للقاضي لأن الحياد شرط وجود بالنسبة للقضاء .
من خلال ما تقدم، يتضح جليا أن القضاء والدفاع عنصران اساسيان في صنع العدالة، وأن المحامين والقضاة يلتقون جميعا في ساحة الممارسة و كلهم جزء من اسرة واحدة.
وإذا كانت رسالة القضاء هي إقامة العدل بين الناس، فإن المحاماة عون القضاء في الوصول إلى الحكم العادل وإقامة العدالة في المجتمع.
ومن أجل ذلك، فإن للقاضي والمحامي رسالة واحدة ومصيرا مشتركا، ولا سبيل إلى إصلاح قضائي إلا بإصلاح أسرة القضاء بأكملها وأن سلامة القضاء وحصانة القضاء تكمن في تحقيق سلامة الدفاع والعكس بالعكس، فلا يمكن تصور احدهما بلا آخر، فهما جناحا العدالة وحجر الرحى في تحقيق المساواة والعدالة في المجتمع و لا يمكن تحقيقهما إلا بهما معا.
إن تحقيق العدالة لا يقبل التفاضل بين المحامي والقاضي، فاستقلال كل منهما فيه قوة للآخر و للعدالة باعتبارهما شريكين لإقامة ميزان العدالة. فلا الدفاع يستطيع أن يعمل بحرية إلا بالقضاء القوي المستقل والنزيه، كما لا يستطيع القضاء أن يسمو إلا بالدفاع الحر والمستقل ضمانا لمحاكمة عادلة طبقا للقانون شكلا ومضمونا.


الكاتب : علي المرابط الورزازي

  

بتاريخ : 18/04/2019