القطيعة الابستمولوجية: رحلة مفهوم بين العلم والثقافة

يهدف مصنف محمد مستقيم الصادر عن دار النشر «دال للنشر والتازيع» (دمشق، 2018) إلى تقديم مجموعة من المفاهيم الابستمولوجية باعتبارها أدوات وظيفية تكون قابلة للاستنبات في تربة الثقافة العربية المعاصرة لما لها من أهمية إجرائية في تحليل بعض القضايا المتعلقة بهذه الثقافة وتجديد آلياتها المعرفية والمنهجية.
إن العقل العربي اليوم في حاجة إلى جهاز مفاهيمي ابستمولوجي نقدي لإعادة النظر في كثير من القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية وعلى رأسها قضايا التراث وكيفية التعامل معها من منطلق عصري يستحضر المنجزات المعرفية والعلمية للثقافة الإنسانية والفكر العالمي. إن التأخر التاريخي الذي تحدث عنه مفكرو النهضة في الثقافة العربية المعاصرة لازال ممتدا إلى اليوم في حين يعرف العالم تطورا كبيرا على كافة المستويات كان من نتائجها ظهور الثورة الرقمية التي غيرت وجه العالم وفرضت علينا الانخراط في مسار العولمة، لكن بأيدي فارغة يستحيل معها مواجهة هذه التحديات التي تحيط بنا من كل جانب. وإذا كان التفكير الابستمولوجي ينتمي إلى ميدان الفكر العلمي الحديث، فإن حضور الابستمولوجيا داخل المشاريع الثقافية العربية من شأنه أن يعطيها حداثة ما.
نحن في حاجة إلى مكتسبات المعرفة العلمية الحديثة من أجل تحديث العقل العربي، وليس هناك من سيقوم بهذه العملية غير الفاعلين ضمن هذه الثقافة والمشتغلين في مجالات الفكر والنقد. من جهة أخرى فالدرس الأكاديمي العربي اليوم في حاجة كذلك إلى تحديث آليات اشتغاله عبر إدماج المفاهيم الابستمولوجية في البرامج التكوينية والبحث العلمي، لأن غياب التفكير النقدي جعل المؤسسات الجامعية عند العرب تعمل على تخريج أطر «علمية» تفكر بطريقة تقليدية لا فرق بينها وبين من يتخرج من كليات الشريعة وأصول الدين .
لذلك فإن الغرض من هذا الكتاب، وفق مؤلفه، هو تناول بعض الإشكالات المرتبطة بمفاهيم أساسية في تاريخ البحث الابستمولوجي. وهي مفاهيم تشير إلى التحولات الكبرى التي عرفها تاريخ العلم، والتي اتسمت بالثورة والتجديد، الثورة على القديم واستئناف النظر في الأفكار التي يرى العلماء أنها لازالت تصلح لفهم وتفسير بعض الظواهر العلمية . هذه إذن مفاهيم في القطيعة والثورة العلمية التي عرفها الفكر الإنساني عموما والفكر العلمي بصفة خاصة في مطلع العصور الحديثة. «الثورة العلمية» كما يقول الدكتور بناصر البعزاتي في دراساته القيمة «كيف حصلت الثورة العلمية» هي تلك الحركة الشمولية التي ظهرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر. والتي مست «كل مرافق الحياة العلمية والاجتماعية والعقدية والمؤسسية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر».
إن ما حدث في العصور الحديثة من تحولات وتغيرات لم يكن بالشيء الهين واليسير، لقد تغير بالفعل وجه العالم وانتقلت البشرية إلى مرحلة جديدة من الفكر والعمل أثرت بشكل مباشر على مختلف مجالات الحياة. وهذا ما يصطلح عليه بالحداثة التي كانت بالفعل حدثا حاسما في تاريخ الإنسان.
لاشك أن العلم في تطور دائم ومستمر، لكن هذا التطور ليس بسيطا، وإنما يتم عبر مجموعة من الانقلابات والثورات العلمية، بسبب الأزمات التي يتعرض لها العلم من حين لآخر. حيث يدخل، حسب تعبير طوماس كوهن، في مرحلة العلم غير السوي.الشيء الذي يتطلب إيجاد الحلول الملائمة للدخول إلى مرحلة جديدة .
إن هذه السمة الدينامية التي تطبع العلم والمسارات التي يقطعها هي التي تؤدي إلى إعادة النظر في أدوات التحليل والمفاهيم الجاهزة ومحاولة صياغة مفاهيم جديدة تتلاءم مع اللحظة التي يجتازها العلم بإشراف المجتمع العلمي. من هنا يكون إبداع مفاهيم جديدة عنوانا لفترات التحول تلك، وتعبيرا عن حالات الانفصال والقطيعة التي يتميز بها تاريخ العلم. وهذا تصور مخالف للنظرة التقليدية المؤسسة على فكرة التراكم المعرفي والمفاهيمي.
إذا كان تاريخ الفكر الابستمولوجي هو تاريخ النظريات التي تفسر حركية العلم وتطوره عبر مختلف الأزمان والعصور، فإن المفاهيم هي أدوات إجرائية يتم استعمالها من أجل قراءة تلك المسارات التي طبعت هذا الصنف من التفكير الإنساني، بالإضافة إلى ذلك فإن تعدد المفاهيم والنظريات التي تفسر الظواهر الطبيعية وغير الطبيعية تكشف أن بنية العقل البشري ليست بنية ثابتة مكونة من بديهيات ومبادئ مطلقة ونهائية، بل هي سلسلة من التطورات النوعية التي تقود العلم إلى التطور المستمر. وقد ركزن المؤلف في القسم الأول من الكتاب على عينة من المفاهيم التي رأى أنها تشير بالفعل إلى تلك التحولات والثورات بل والقطيعات التي حدثت في فترات تاريخية معينة. وهي مفاهيم تبقى نماذج ممثلة فقط كما يشير إلى ذلك دون أن تختزل باقي المفاهيم الأخرى. كما أن هذه المفاهيم لا تعكس فقط العلاقة التي تربط العلم بالفلسفة، بل تربط المعرفة العلمية بمجالات فكرية وثقافية وتاريخية، خصوصا تلك المفاهيم الرحالة التي تخترق الأقاليم المعرفية والمجالات التداولية التي نشأت فيها لتعبر نحو آفاق معرفية جديدة ومختلفة عن الأولى. وهذا ما جعل الباحث يخصص القسم الثاني من المصنف إلى كيفية تمثل وتطبيق مفهوم القطيعة الابستمولوجية عند ثلاثة أعلام من الفكر العربي المعاصر، وهم عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون.


بتاريخ : 23/02/2018