القلق و دهشته في « قاب كأسين من ريحه» للشاعر فتح الله بوعزة

أعرف العديد من الشعراء، يتحول في خيمتهم المترحلة ، الشعر إلى مشتل ومختبر حقيقي للعمل والاشتغال الدائم على عناصر البناء الجمالي . وهم بذلك يقيمون متوغلين ، في نصوصهم كماء يجري في العمق الإنساني والشعري . من بين هؤلاء الفرسان ، نجد الشاعر فتح الله بوعزة الذي أتى للكتابة الشعرية من خلف ثر ؛ جعل من النص الشعري عنده قطعة ذات أدراج و مدارج تفضي للانهائي في الإحساس والاحتمال . وهو المتحصل في مجموعته الشعرية المعنونة ب “ قاب كأسين من ريحه “ حيث تقبع نصوص ناظرة ، تنتظر من يفتحها حقا على المطلق ، عبورا بالواقع و الوجود .
لعل أبرز ما يميز هذا الديوان ، هو سفره ـ عبر ذات مكتظة بالقلق ـ في تاريخ القوم الذي ينتمي إليه . فاختارت هذه الذات الاشتغال على رموز ( الريح ، النخلة ، الكأس…) ، تتجاذب معها الأدوار ومواقع الإقامة ، في مواجهة لرموز التسلط والقتل…طبعا استنادا على لغة شعرية ، تصر أن تكون كذلك؛ دون مطابقة قاتلة للحمة النص الشعري . إنه الشعر الذي لا سند له في القول وتقطيع العالم على طريقته إلا الشعر . لكن دون انغلاق أو ثقوب ؛ بل هذه المجموعة تعلن تشابكها العنيف ـ بالمعنى الرمزي ـ مع العالم ، في تجسيد تخييلي لثنائيات ضدية ، حتى بات كل نص هنا ، ينهض على ثنائية ضدية تكون نواة دلالية لتمظهرات متصارعة . كأن الأمر يتعلق بحروب و حروب ، تكون معها الذات ممثلة لقيم نبيلة ، تعضدها أصوات كامنة في طي الزمن بشكل مندغم . هنا ، الأنا الشعرية تستجمع بشكل متشظي و مشبع بانكسار الحنين ، الظلال و نبتات الحياة ، عبر أجساد ممثلة لصوت الإنسان الممتد في تلك السلالة المودعة في الكتابة .وفق ذلك ، يتخذ الشعر مفهوما أعمق و أخطر ، قد يتحول إلى أداة ، ليس للتعبير والتغني فحسب ، بل للمواجهة ، من خلال الوخز بسهام المعنى والمجاز الذي يقتضي فك شفراته ، استنادا على معرفة بالشعر . ولا ينبغي أن يكون ذلك مدعاة للنفور ، بل الإتيان للشعر، لشحذ الهمم و التطهر، ولو من أدران الخطابات التي تعمي بوضوحها الأحادي . نقرأ في المجموعة من نص بعنوان “ على مرمى حجل « :

دائما ، في مساء كهذا
وحين تطيب الريح
وتعدو الخيل الأنيقة
خلف لحاح النصوص
وحين تتوق الصبايا
إلى السبي بالقرب من عثرتي
يتدلى من لثغة بالجوار
إلى آخر نخلة في صلاة الجنود
يعد أصابعه وقبائله
والدروب التي دللت سهوه
ينفث في الجرار بقايا النفير
وما فاض عن الطرائد من همهمات

يبدو أن استناد الاستعارة الباذخة في شعر فتح الله بوعزة لم يتأت هكذا ،بل من مقروء متعدد ومتشعب ، ومن سفر في الجغرافيات الشعرية المتنوعة . وهي بذلك استعارات ناظرة و رائية ، ناظرة للواقع و الوجود ، ورائية كونها تستند على رؤيا موجهة ، مطبوعة بالمأساوي على حافة الشرارات الاحتمالية وحرقتها . وغير خاف ، أن توالي هذه الاستعارات يولد صورا شعرية ، ذات روابط داخلية تشد عضدها ، منها هو نفسي المتمثل في الحمولة الذاتية الموزعة في توارد الحالات و الخواطر . إضافة إلى ما هو لغوي المتجلي في اختار الرموز التي تمنح للدوال توظيفا جديدا لغة ودلالة ، من خلال امتدادها المرجعي في الشعر و التاريخ بالأخص . وبالتالي فالصفات ملائمة للموصوفين ، وفق جدل تناصي مع نصوص أخرى في الذاكرة الفردية و الجماعية . هذا فضلا عن ما هو تخييلي ، وهو عصب النص ؛ أي أن النصوص تسوق حمولات تاريخية وواقعية مؤلمة ( سقوط أمة ) ، وفق جدل شعري يبني كونه من خلال إعادة البناء . هنا تنطرح الوقائع في النصوص بين الواقع و المتخيل . لهذا في تحديدي،ينبغي أن نأتي لهذه المجموعة بقوة عارفة بالواقع وتناقضاته الصارخة ، وبالشعر ومساربه ، ليتحقق التفاعل الخلاق . في هذه الحالة يمكن التلذذ بالألم و دهشته ، من خلال القوة التي يمنحنا إياها الشعر؛للتجدد في اللغة والحياة . ورد في نص “ رجل مؤجل “ :

شهيد على باب دفتره
يستميل مساء النخيل
إلى صدره أقاصي الحروب
وهمس الحوافر في ليلة العابرين
إلى بدد لا يطيق الكلام

أتابع مسيرة هذا الرجل في الشعر، فأحس معه بمجهود شعري حقا يجاور “ خلقه “ مع شعراء حقيقيين ؛ ليت التاريخ يلتفت الآن ؛ وليس غدا . نظرا لتدني مستوى القراءة ، ومنه قراءة الشعر. إننا نضع النصوص في خانة واحدة ،ودون تمييز ولا تمحيص ، مما يؤدي إلى وأد التجارب الشعرية الجديرة بهذا الصفة . و الشاعر فتح الله بوعزة واحد من تلك الأقلية الهائلة ، ضمن كثرة لا ماء فيها .


الكاتب : عبد الغني فوزي

  

بتاريخ : 07/12/2018

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *