اللامساواة أو الصورة الرمزية للسلطة لدى فرونسوا دوبيه

هل حقيقة أن القيم تتعارض وتتقاطع في خضم الشكوك التي غدت مآلا لأسئلة الحداثة وانبلاج فروقاتها في استتباب قيم المساواة والعدالة الاجتماعيتين؟
فرانسوا دوبيه حاول تفكيك نظرية اللامساواة في عقيدة السلطة الاستبدادية، من خلال تحليله للظواهر الاجتماعية التي أنتجتها المدرسة المعطوبة. فخلال قراءته المنتقدة للبرامج المؤسساتية وممارساتها البعيدة عن السلوك الديمقراطي ومنجز الحداثة المزعومة، لا يرى دوبيه أي حرج في وصف الأخيرة بكونها معطوبة ومتأخرة حيث « الغرس البطيء طويل الباع من الحداثة ضمن سيرورة العقلنة واللارضاء الاجتماعي وتعدد مشارب الحياة الاجتماعية وممثليها» ـ 1 ـ كما أن تقزيم أزمات المجتمع من شأنه أن يؤخر فهومنا المتواطئة لأسلوب ممارسة النقد الذاتي، وهو ما صار يختزل صراحة في مهمة الرقيب الاجتماعي.
فرانسوا دوبيه يخرج باستنتاج دراماتيكي صادم، وهو أن المؤسسات الرسمية للدولة سرعان ما استعرت تحت وابل مشكلات انخلاق أنواع أخرى من السياسات الموازية لمثيلاتها الرسمية، وهوما يسلم نظريا كونها لم تخرج سليمة من سنوات السوسيولوجيا النقدية.
وعلى الرغم من أن دوبيه ينشغل كثيرا بسياسات النظم التربوية ومبادئ اللامساواة، التي يعتبرها العمود الفقري لأفول العمل المؤسسي في مجال التربية، فإن نظريته في استجلاء عناصر اللامساواة خلال تشريحه لبنية المجتمع الحديث، يجعلنا نتأكد من اختزالية مفهوم المساواة وحدودها النقدية وأبعادها السوسيولوجية. ولا أدل على ذلك تقسيمه النوعي للمساواة داخل ثلاثة أصناف من المجتمعات: المساواة الديمقراطية واللامساواة الرأسمالية والاندماج في المجتمع الصناعي.
وهي وحدة تزيح اللثام عن تصورات الأفراد للمجتمع المتناقض الرافض للقيم المنسلخة عن الثقافة الوطنية والسيادة الوطنية، بما يخالف المصائر الكبرى للديمقراطية المنسوخة على أنقاض مساواة شكلانية، وكذا تزييف قيم المنافسة والامتثال للقانون في الحالات الاقتصادية الرأسمالية، مع ما يبدر من اختلال وتآكل في علاقات المجتمع المتحول عندما تغلب فكرة القوة على مبدئية النظام والعدالة!
إن اللامساواة أو ما يزكي خلل إعدام الفرص المتساوية في المجتمع المغلق هو إعادة إنتاج وتكريس السائد وشرعنة التسلق والتمايز الاجتماعي، بكل أبعاده السيكولوجية والاقتصادية. كما أن النظرة الوظيفية للامساواة الرسمية التي تتبعها الدولة تجاه النظام الاجتماعي والثقافة المجتمعية لا تسهم سوى في إذكاء الطبقية والتفرقة واللاعدالة، تلك التي تنهي صفة الانتماء للوطن وتنحل من كل الالتزامات الخاصة بالحقوق والواجبات، حتى ما يرتبط بموثق الهوية والبيعة والتربة المقدسة.
لا غرو أن الاقتراب من السلطة البيروقراطية، القوة المستمدة من روح التمكن والاستئثار والإجبار يلغي ـ تحت كل الحجاج الاعتبارية حسب اللساني أوزولد ديكرو ـ ذلك الاشتغال المنطقي للعلاقة بين التعدد الصوتي والظاهرة الخطابية.
وحتى يتمكن مجتمع السلطة من تحقيق النفير الحجاجي وتشميل آليات فرض القوة القسرية أو العنفية، فإنه يوائم عناصر تنظيم الكيان أو البنيان المنبثق عن النظام الاجتماعي مع ما يعتبره خليل أحمد خليل ب» المحاذي لصميم بروز الدولة كغطاء خارج أنساق السلط الموازية» ـ 2 ـ ، بما فيها تلك التي تنظم تدابير وركائز إدارة وتأطير التجمعات البشرية، وما يتعلق بقيم العدالة والمساواة والحرية.
إنها نفس العلاقة التي تجمع السلطة السياسية بالقرابة، بين كل ما هو ديني عقائدي أو سحري أسطوري. ذلك المزيج المتحول الناظم بين رموز السلطة والمقدس، والذي رسمه « زمن انبثاق الملك عن السحر والدين والأسطورة التي تؤكد تبعية البشر المزدوجة للآلهة والملوك» ـ 3 ـ
فالعلاقة إياها تنبني في الجوهر على تأصيل قيمة اللامساواة واللاعدالة في نسيج تلك القرابة المونوبولية التي تفتك بشرعية سلطة الحق الإلهي، وبتمثيل القيم النهائية التي تحملها السلطة السياسية نفسها.
فلا غرو إذن أن تبقى القوة الرمزية لسلطة السلطان قائمة وسائرة على تغلغل الفوارق الغاصبة لنظام العدل والمساواة، وسيرورتها في وجدان سلطة العقاب والولاية الروحية. وهي قوة تبرز على أنقاض تمكين المجتمع الديمقراطي الناشئ من التحول التدريجي من مجتمع يؤمن بالثقافة الانفعالية إلى مجتمع يتجلى في عمق الثقافة التفاعلية. ..مجتمع يتأثر بمنظومة القيم العولمية الجديدة، التي تتنازع فيها شروط التمكين لسلطة ترهن الناس عبر رموزها الثابتة وشروط دوامها واستمرارها.

هوامش

ـ 1 ـ الأصول الاجتماعية والتوجهات المدرسية : اللامساواة في تكافؤ الفرص أمام التعلم عبر التحقيقات الميدانية ـ دومينيك غ وإريك موران ـ 1995 ـ ص 58
ـ 2 ـ سوسيولوجيا الجمهور السياسي / فكر دراسات ـ د. خليل أحمد خليل ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر لبنان ط 1 ـ 2005 ، ص 75 بتصرف
ـ 3 ـ الأنثروبولوجيا السياسية ـ جورج بالاندييه ، ترجمة جورج أبي صالح ـ المركز القومي للإنماء بيروت ط1 ، ص : 83


الكاتب :  د. مصــطفى غَــلْمَـان

  

بتاريخ : 18/01/2019