المجموعة القصصية«رسائل الرمال» للقاص و الروائي عبد الواحد كفيح

حين يصيّر الكاتب الموت جسرا للتواصل

 

المجموعة القصصية «رسائل الرمال» للقاص والروائي عبد الواحد كفيح،  الصادرة عن منشورات ديهما، والتي تقع في 84 صفحة من الحجم المتوسط تأتي في المرتبة الثالثة من اللهيب الإبداعي المشتعل ، بعد إصدارات لمجموعات قصصية عن منشورات وزارة الثقافة هما «أنفاس مستقطعة» و «رقصة زوربا» . كما تنفس الكاتب شكلا إبداعيا جديدا محاولة منه لمساءلة عمل أدبي يتجلى في النص الروائي من خلال إصدار رواية «روائح مقاهي المكسيك» و في طور الإصدار رواية «سحر النجوم».

وعلى الرغم من الفسيفساء الإبداعي لدى الكاتب في الرواية والقصة والنقد، إلا أننا سنربط موعدا متواضعا مع المجموعة القصصية السالفة الذكر «رسائل الرمال» باعتبارها عصارة تحربة ورؤية فكربة لتجليات كونية ووجودية ميتافيزيقية ،تسائل تجربة الموت وتشخصها من حيث هذه الأخيرة ألم لذيذ لسبر أغوار ماهيتها وجوهرها. كما أنه على المستوى البنيوي نالت لفظة «الموت» أو ما في معناها حصة الأسد بمقارنتها بباقي الحقول الدلالية المهيمنة، حيث استثمر الكاتب فقط فيما بين قصة «أصدقائي الخالدون» وقصة «رسائل الرمال» 24 لفظة بالإضافة إلى ألفاظ ومعان ضمنية ذات نفس المغزى .
يقول عبد الفتاح كيليطو :»لاشيء يولد من فراغ « هذا يدل على أن «رسائل الرمال» حملت على كاهلها إضاءات رمزية ومعرفية شكلت جزءا من الموروث الثقافي والمتخيل السردي. ففي قصة «رسائل الرمال» يتضح من الوهلة الأولى أنها تتناص بشكل واضح مع رواية «أسلاك شائكة» لمصطفى الغثيري التي تستحضر تيمة الموت ،بعد تصوير مأساة الزاهية التي عاشت لحظات درامية مؤثرة منتظرة رسائل الرمال من زوجها احميدة خلال حرب الرمال، تنتهي بالموت . هذه القصة تعكس بجلاء روح المطابقة ببن الإبداعين قاسمهما المشترك توظيف تيمة الموت الحتمي، كما هو الحال في قصة «رسائل الرمال» التي تحكي بمرارة معاناة الأم وأبناءها جراء انتظار رسالة الرمال من الأب الجندي التي كان يبعث بها من أعماق الصحراء، تناوب السارد والإخوة على كتابتها سلفا في ترقب موت الأب الذي يأتي أو لن يأتي يقول السارد:»دأبنا على أن نزوده برسائل، نعم رسائل ليتكلف هو من هناك بإعادتها لنا بمعدل رسالة كل شهر؛ لا لشيء سوى للتأكد من أن حياة أبي لا تفارق بعد جسده. وأن قلبه الطيب مازال على قيد النبض»ص 36.
وإذا كان الكاتب المكسيكي «خوان رولفو» يعترف بأن القصة القصيرة لا يوجد فيها سوى الألم والحب والموت، فإن المجموعة القصصية «رسائل الرمال» استطاعت أن تؤثث لفضاء موضوعة الموت عبر بعث وإحياء رموز وشخوص أدبية وعلمية واقعية وخيالية عالمية، نهلت حضورها المعرفي من خلال الرؤية الفكرية والفلسفية المشكلة لوعي وثقافة الكاتب، في علاقتها برصد متغيرات وتناقضات الواقع لإيهام المتلقي بواقعية النص أو الحدث . فليست مهمة الكاتب كما يقول ميرلوبونثي :»الحديث عن الأفكار وإنما استحضار هذه الأفكار في أسلوب فني أدبي يحمل جوانب تعبيرية أدبية «. الشيء الذي يجعل السارد يقوم بجولة شجية بين الأموات ليعقد لقاء أدبيا مع الأرواح، كما في قصة «أصدقائي الخالدون» حيث يصول السارد بين أهل القبور مستحضرا تلك الشخوص والرموز المؤصلة لتاريخ الأدب العالمي، رموز إبداعية قضت نحبها أمثال :عنترة وزوربا وبلقيس و هيمنغواي والخنساء …
ويبدو أن رؤية الكاتب للموت رؤية خارج حدود الزمان والمكان ،فضاء آخر وزمن آخر تترجمه ما يسمى بle micro – recit حيث تتداخل القصص وسط متاهات السرد مع الحفاظ على القصة الأم، لخلق تناغمات نصية مع الأدب العالمي كقصة عنترة مع ابنة عمه عبلة التي كالت له الموت مرات عدة يقول السارد:» …حضرت ناقة بني عبس قيل هي التي قتلتك ،يجرها عبد أسود قيل مات غما جراء حب ابنة عمه التي من أجلها كيلت له الطعنات بالجملة في معارك عديدة مفبركة غادرة «ص24-25.
هنا يصبح الموت استراتيجية منظمة عكس ما تم التعارف عليه في سيرة عنترة حيث الحب وتقاسم الألم ،لتبقى حياة هؤلاء خالدة مع أصدقاء السارد «الخالدون» يقول السارد :»وما هي إلا لحظات حتى توافد عليك رهط غفير من البشر الغرباء ،اختلفت أجناسهم ولكناتهم، وبدت على قسمات وجوههم وسحناتهم أطياف وهالات تشي بأمرهم الغريب. وأنهم – حسب علمي – المتواضع خالدون لا يموتون «. ص 23.
والسارد في هذه المجموعة بريء من فعل الموت وحيثياته والظروف المشكلة لحدوثه على حد قوله، إذ يستعيض السارد بتقنية الاسترجاع محتميا خلف راو ثان، وهذا ما يجعل النص السردي و المتن الحكائي أكثر واقعية لأن له سندا وخلفية حكواتية تعود إلى «الجدة» في الثقافة الشعبية وهو سارد أمين وليس أحول .
فالحديث عن الموت واستحضار قداستها يستمد متنه الشرعي من قوة الحكي فيقول السارد :»حدثني صديقي والناس نيام «ص23، و قوله :»مازلت أتذكر ، يحكي الرايس مستطردا» ص44 ،ثم قول السارد أيضا :»ثم استرسلت في سلسلة من الكوارث الغريبة التي لا حصر لها» ص78.
وفي قصة «هكذا حكى لي عبد المجيد عن ولادة عسيرة» يكشف الكاتب عن آخر اعترافاته على المستوى الحكي الماتع،وهذا لا يعني أن الكاتب يعيد إعادة النص وإنما يصير النص الأصلي يتناسل مولدا أفكارا وأحداثا جديدة أو ما يسمى بالتوليف حسب تعبير «تودوروف» ، ففي قصة «شهرزاد» يتم تشكيل وعي آخر حول الكتابة لتأسيس تجربة ساخرة والتحسيس بحالة إنسانية كونية وجودية، مدارها تيمة الموت حيث الزيادة في المبنى زيادة في المعنى ،فالبناء التركيبي المحكم يعطي النص السردي نفسا جديدا بينما المحتوى «قصص شهرزاد» تمنح حياة جديدة للروح البشرية ،مع استحضار قيمة التعاطف البشري حتى في فعل الموت . وهنا في قصة شهرزاد يقول السارد :»وطفقت (أي شهرزاد) بحنكة نادرة تقطر في أذنيه القص قطرة قطرة كبلسم يطلب منه الاستزادة ولا يرتوي . فعندما كانت بالحكي تؤجل موتها ليلة أخرى جديدة . أضحى شهريار يؤجل موته هو حتى يستمتع بالقادم من الحكايا الساحرة « ص 56. إن فعل الموت في هذه القصة يتصل بغربة وضياع الشخصية «شهريار»باعتبار الموت الملجأ و الخلاص لا يقهره سوى الحكي .
إن المجموعة القصصية «رسائل الرمال» إعادة تشكيل الواقع من خلال اللغة و التراكيب مع إضفاء لمسة أخرى، أي إن المبدع «عبد الواحد كفيح» يشخص ويسائل ويعالج وقائع وقيم محاكاتية حسب المعنى الأفلاطوني، متخذا من الموت جسرا للتواصل عبر موروث ثقافي تحضر فيه أسلبة النص بلغات وألسنة هجينة مختلفة لفئات طبقية متعددة تجد تمظهراتها في الراوي «الحكواتي».
و النص السردي قيد الدرس يحيلنا على «الحوارية البابلية» حين يخاطب الكاهن»ساجل كينا موبيب «صديقه بقوله:»أنا فان … و الهم خيمتي ليس لي سوى الحزن إني ومذ كنت صغيرا أصابني الحزن ومزقني، ،لقد أخذ القدر أقرب الناس لي وها أنا أذهب لنفس المصير إنه قدري المحزن «.
يجد هذا المتن الأسطوري صداه في أغلب قصص «رسائل الرمال» المشكلة لفوبيا الموت والسؤال عنه والذي يترجمه الخوف من فقدان الأنا والآخر بعيدا أو قريبا؛ كصورة الجندي الأب الذي يطارده شبح الموت فينتهي المشهد الدرامي برسالة من المخزن داخلها رقم شهيد ،يقول السارد :»يرمي ضباط المخزن الخبر الفاجعة على شكل رقم من أرقام الجنود التي نعرفها جيدا . يرمي بالرقم في وجه عائلة الشهيد … فتهب جموع القرويين في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل لتشارك أسرة الشهيد البكاء والندب والنواح والعويل … فنلتفت أنا وإخوتي بعيون متوسلة لصورة الجندي أبي التي تتوسط الفناء»ص38-39.
وعموما فإن»عبد الواحد كفيح» استطاع أن ينحت لنفسه مسارات إبداعية فسيفسائية بين فجاج عميقة وملتوية في «زمن الأخطاء» ؛ حيث الكتابة صورة تذكارية لتعميق الحب والألم والموت، وبذلك يكون الكاتب قد أضاف نصا سرديا محبوكا إلى باقي النصوص السابقة والخزانة السردية على حد سواء .

 


الكاتب : حميد المعروفي

  

بتاريخ : 25/01/2020