المخزن في دائرة الضوء

عبد الحكيم الزاوي صدر عن منشورات دفاتر وجهات نظر سنة 2003، مؤلف المخزن في الثقافة السياسية المغربية، للباحثة المغربية في العلوم السياسية هند عروب، في 158 صفحة، والكتاب في الأصل إسهام جاد وعميق من طرف باحثة لها وزن في البحث الجامعي، وحفر سياسي وسوسيوتاريخي في تاريخانية مؤسسة المخزن، كبنية سياسية فوقية، تستدمج ممارستين متضادتين، ممارسة تقليدية تمتح من عمق تاريخي وديني، ماضوي متجدر في الوجدان المغربي، وممارسة حديثة منفتحة على مستحدثات الحماية الفرنسية، وهياكلها الإدارية، من خلال الإحاطة بمختلف التجاذبات التي واكبت مسيرة إنتاج الوثيقة الدستورية بين الفرقاء والفاعليين.
من يجب أن يحرر الدستور؟ وماهو نوع الدستور الواجب وضعه؟ سؤال عميق طرحه وليام زارتمان، يكاد يمثل جوهر الكتاب وعمق إشكالاته، فالملكية التي تتلمذت في مدرسة الحماية حسب تعبير ريمي لوفو، حاولت تقزيم النخبة السياسية، ذات التوجه الحداثي، عبر التوغل في عمق البادية المغربية، والعمل على تغيير التراتبات الاجتماعية والسياسية وفق مقاسات معينة، الولاء، الخدمة، الخضوع، الطاعة… بهدف تزكية شرعية المخزن الجديد، فمن يملك البادية والجبال و»البربرية» يملك المغرب برمته، مما سيجعل الملكية تسعى إلى توطيد سلطتها عبر الجيش كقوة مادية، وعبر وزارة الداخلية كقوة سياسية وإدارية.
ستعمد الملكية إلى ضرب القواد الكبار والأعيان القرويين سياسيا، وستترك لهم النفوذ الاقتصادي، وهي محاولة لكسب نخبة قروية قادرة على صد زحف نفوذ النخبة الوطنية التي يطغى على الانقسام كصيغة متلازمة للحياة السياسية منذ الولادة. هذا الاستقطاب الجديد للنخبة القروية والأعيان الجدد عرابي المخزن الجديد، سيقف وراء نجاحات الاستفتاءات الدستورية، وسيكرس منطق التيولوجية في تدبير السلطة، وسيضخم من صورة الملك، كشخص روحي ومادي مقدس يتماهى فوق كل تناقضات النسق السياسي.
استدمج المخزن حسب ريمي لوفو، ممارسات سياسية تقليدية بأخرى حديثة، قانون مخزني تاريخي يشتغل بطقوس ورمزيات عتيقة، مع قانون دستوري فرضته لحظة الحماية، لحظة الاحتكاك مع الغرب. هذا الاستدماج المثير، لخصه كلود بلازولي، حينما وصف الحسن الثاني بالحزم والتحدي، في إفادة لإيناس دال جاءت على لسان اريك لوران «إني أعلم الثقل الحقيقي للقلم، وهو بين يدي وزير أول، فإذا ما استخدم في غير وقته يمكن أن يجر الأمور بعيدا، وهذه إحدى الأسباب التي جعلتني أنشأ دستورا إذ قلت لنفسي، إنك لا تستطيع مراقبة وزيرك الأول دائما، ولكن إن روقب من قبل ثلاثمائة أو مائتين فإنه لن يقدم على حماقات كثيرة، وهذه التجربة أبانت لي عن السلطة التي يمكن أن تكون لوزير غير مراقب».
فالمخزن الجديد حاول دسترة الإرث المخزني حسب وليام زارتمان، وهي مقولات ترددت على لسان عدة فاعليين مغاربة كمحمد باحنيني وأحمد رضا اكديرة من خلال قوله: «من الصعب أن نفهم بلادنا دون أن نعرف تاريخ ملوكنا» كما قال الحسن الثاني ذات لقاء صحفي، هذا التحليل السياسي، جعل الباحث المغربي عبد اللطيف اكنوش يعتبر الدستور المغربي يضم طابقين: طابق علوي، يمثل روح الغرب، وطابق سفلي، يجسد عمق الموروث.
تثير دراسة هند عروب جملة من النقاشات الخصبة حول آلية اشتغال النسق السياسي المغربي، وطبيعة العلائق التي تربط بين فاعليه، وكيفية تأطير الوثيقة الدستورية لممارسة اللعبة السياسية، من بين الملاحظات التي تثار من داخل الكتاب، نذكر:
– أولا: التأكيد على الطبيعة الانقسامية للنسق السياسي المغربي، وهي روح فكرة أكدها الباحث الامريكي جون واتربوري في دراسته حول «الملكية وأمير المؤمنين» بالمغرب، المستوحاة من عمق تحليلات ارنست غلنير وقبله افنس بريتشارد من داخل البنى القبلية؛
– ثانيا: التركيز في تحليل النسق السياسي على صورة استدماج المخيال السياسي للجسد السلطوي، كجسد روحي ومادي، ميتولوجي وميتافيزيقي، وهي تحليلات مستوحاة من تنظيرات الفيلسوف الألماني ارنست كونترفيتش في دراسته للجسد السياسي من خلال كتابه المرجعي « جسدا الملك»؛
– ثالثا: التأكيد على وظيفة التحكيم والتعالي عن الانقسامات السياسية، وتعزيز قوة السلطة من خلال بث الخلافات بين الفرقاء، بهدف إضعاف وتفتيت المعارضة، وهي فكرة مستوحاة من أعمال المؤرخ جرمان عياش؛
– رابعا: التسابق بين المؤسسة الملكية والتيارات السياسية حول كسب رهان البادية المغربية كخزان انتخابي، عبر تدجين النخب وصناعة الأعيان الجدد، وهي تحليلات تتوافق مع تصور ريمي لوفو حول الفلاح المغربي المدافع عن العرش.
والحاصل، تبقى مساهمة هند عروب ومحمد الطوزي ورحمة بورقية وغيرهم، حلقة من حلقات فهم جانب من خبايا دار المخزن في تدبيرها للنسق السياسي، وفي رؤيتها للأشياء، في مزجها للتقليد والتحديث لا الحداثة، في تعطيل مسار تاريخي، بهدف تقوية جهاز المخزن، على حساب إجهاض مسلسل الديموقراطية، إسهامات خصبة تثير من ورائها أسئلة عميقة في حاجة إلى حفر علمي رصين.


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 17/11/2017

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *