المغرب الكبير… مجهول السلم ومجهول الديمقراطية!

 

لم يستطع السلام، أوالسلام المسلح على أصح تعبير، خلق الحاجة الضرورية لميلاد تكتل المغرب الكبير، مغرب الدول الخمس: الجزائر، المغرب، تونس، ليبيا وموريتانيا.
الحرب بدورها الدائرة بأشكال مختلفة، لن تسعف السلام في ذلك، ولا يمكن، في الأفق المنظور، أن تعين دول المغرب الكبير على رؤية وسياسة استراتيجيتين للخروج من التشرذم إلى بناء كيان واحد يستطيع أن يواجه عالم الألفية الثالثة…
السلام كان واحدا، وقد عشنا طويلا عجزه عن إقناع أصحاب القرار بجدوى أن يكون المغرب الكبير كبيرا بوحدته عوض أن يظل صغيرا بتفرقته، أما الحرب فهي حروب، والحرب الأولى، هي حرب الجماعات المسلحة والحركات الإرهابية وكل الدول تعاني منها على مستويات متعددة، وبدرجات متفاوتة، فقد عاش المغرب ضرباتها، في فترات غير متباعدة منذ أن دخل نادي الدول ضحية الإرهاب في 2003، وما زالت تشكل هاجسا ثابتا في كل سياساته، وأيضا في كل تحركاته، إقليمياودوليا.
الجزائر التي غادرت العشرية السوداء من تسعينيات القرن الماضي إلى بداية الألفية دفعت ثمنا باهظا لهذه الحرب الأهلية التي دارت تحت شعار الإسلام السياسي المسلح، وكان من نتائج ذلك أن دولة الوسط الكبرى، لم تستطع أن تستفيد من ربيعين ديمقراطيين، أحدهما دولي والثاني إفريقي، وتلاه مرور الربيع الثالث بالقرب منها بدون توقف، وذلك إما بسبب الرعب أو بسبب آثار الرعب السياسية.
أولا في الرعب، تزامنت الموجة الأولى مع انهيارات الشرق السوفياتي، وما فتحته إمكانيته من إصلاحات مست المعسكر الذي كانت تنتمي إليه الجزائر علانية وأيضا بحياد، وليبيا التي تموقعت فيه بحكم الضرورة العدائية لأمريكا.
لكن الجزائر لم تستفد من تلك الموجة التي أفرزت الكثير من لحظات التصالح وقتها، ومن غريب التاريخ أن المغرب، الذي كان يُعَدُّ ضمن منظومة الغرب الأمريكية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني قرأ سقوط  جدار برلين وما تلاه من موجات سياسية انفراجية قراءة وطنية إيجابية، فتحت  الباب أمام توافقات حول تعديلين دستوريين مهمين، –  1992،1996 –  – كانا مقدمة لمصالحة وطنية سياسية ومؤسساتية، جاءت بالمعارضة التاريخية والتقليدية إلى سدة الحكومة، في شخص عبدالرحمان اليوسفي المعارض الدائم للملك الراحل، وبما صاحب ذلك من تعديلات وإصلاحات، تعمقت مع توالي الأيام وبدأت في تغيير طبيعة الدولة وأدوارها وأولوياتها… كما أن الجزائر فرطت بفعل شروطها الموضوعية، في موجة المناظرات أو المؤتمرات الوطنية التي انطلقت في إفريقيا في نفس الفترة، والتي تزامنت مع خروج إفريقيا، على الأقل ظاهريا، من الحزب الوحيد المُعسْكر، أو العسكر المحزَّب في حزبا لدولة والسلطة .. وقتها أيضا ضاعت وعود المرحلة ،بما لا يدع مجالا للشك، على ليبيا ..
في تونس كان التحول يحدث في هرم السلطة بما سمي بما بعد رحيل لحبيب بورقيبة ومجيء زين العابدين بنعلي، قبل أن تعصف بها الموجة الثالثة من الثورات الإصلاحية، موجة ما سمي بالربيع العربي الشامل.
وكانت النتيجة أن ليبيا، دخلت حربا ما زالت قائمة، وتونس عرفت أعمق تجربة تصالح مع السياسة وفكرة الإصلاح والبناء الدستوري المتوافق عليه،  المغرب بدوره سارع إلى التجاوب مع مطالب كانت إلى حد ما من صميم الحركات السياسية المعارضة قبل أن تتحول إلى مطالب شارع دينامي كبير، وموريتانيا لم يشملها الربيع، لأسباب بعضها يكمن في إجراء انتخابات لم يطعن في شرعيتها بشكل راديكالي يُخرج الشارع إلى التفاوض التاريخي كما في باقي الدول.
غير أن الجزائر أضاعت في الفترة المرافقة للربيع العربي موجتها الثالثة من الإصلاح، والتي عرفت تغييرا شاملا في جيواستراتيجية الإصلاح والثورات، ذلك لأن الرعب كان لا يزال قائما…
واليوم، تدخل البلاد مرحلة ما بعد الرعب بأجندة تتميز بعدم الفرز على مستوى أشكال إنجاح الانتقال الديمقراطي إلى حدود الساعة.
في الجزائر، وصل التغيير متأخرا بثلاث ثورات على الاقل، ويمكن أن يشكل الوضع الحالي تعليقا إجباريا لكل ما يمكن أن يتم لفائدة التكتلات الاقتصادية والتدبيرية والجيواستراتيجية.
الانتقال الديمقراطي الذي يسعف الدول في الغالب على التكتل، كما برهنت تجربة أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، هو أكبر من تغيير في شكل اتخاذ القرار، بل كان انتصار إرادة الوحدة بين فرنسا وألمانيا العدوتين التاريخيتين، انتصار كانمرده الأساس هو أن الديمقراطية أفضل طريق للوحدة، وسيتعزز هذا المعطى، بعد التحاق الدول الأخرى ومنها إسبانيا واليونان وغيرهما بعد نجاح الانتقالات الديمقراطية، في السبعينيات ( البرتغال بعد ثورة القرنفل، وإسبانيا بعد رحيل فرانكوونجاح خوان كارلوس في بناء ديمقراطية ملكية، ودول المشرق السوفياتي بعد انهيار جدار برلين وحلف الحزب الشيوعي الواحد …).
وهو الانتقال السياسي الذي ما زال متعثرا في العمق المغاربي، بفعل الوضع في ليبيا، والتردد التاريخي في الجزائر وانشغالات الأمن لحماية الدولة في تونس وانشغالات التراب لحماية الكيان الجماعي في المغرب وتأرجح موريتانيا بين تقاطباتالدول الوازنة في الإقليم المغاربي..
– الانتقالات المساندة والراعية، من قبيل الانتقال الاجتماعي والاقتصادي نحو مزيد من العدالة ومن الرخاء وتوزيع الثروة فشلا إلى حد الساعة بشكل يكاد يكون موحدا في دول المغرب الكبير، والشيء الذي جعل كل واحد يسعى إلى النموذج الذاتي من التدبير الاقتصادي، لا يستفيد من المحيط ولا من إيجابيات الموقع الجيواستراتيجي المشترك ( لقاء قارتين /أوروبا إفريقيا، ولقاء بحرين/  المتوسط والأطلسي ولقاء ثلاث مناطق /الشرق الأوسط، والمتوسط الأبيض وإفريقيا).
وخلاصة القول في هذا الباب، إن تفاوت الدخول في تجربة الانتقال الديمقراطي، أو على الأقل التفكير فيها ، وتفاوت الاستفادة من درجة تغلغلها في الحياة العامة وفي تدبير الدول، يؤثر بعمق في مسيرة توحيد المنطقة.فالديمقراطيات تساعد على التقارب عكس التقوقع الذي تمليه النزعات السلطوية.
– وبناء على هذا الاعتبار، فإن الوضع في المنطقة المغاربية، يظل رهينا ليس بالشعوب، الموزعة بين الأمنيات والحروب، ولا حتى بالدول في الكثير من تفاصيله، بقدرما يكون مرتبطا بقادة الدول، كما كتب ذات يوم الباجي قايد السبسي في توصيف الحالة…، وهو وضع يفرض علينا طرح المشكل من أساسه، أي كيف يكون المزاج الخاص للقادة عنصر تكييف عام للتاريخ!
– التموقعات الجيواستراتيجية زادت حدتها، مع تزايد السلاح والحروب، من جهة ومع تكلس الوضع الداخلي لبعض الدول من جهة أخرى، يضاف إلى ذلك العمل الذي تقوم به الدول في توتير العلاقات الثنائية كما هو حال الجزائر في قضية الصحراء مع المغرب.. والحال أن الجميع يقر بأنه لا بناء مغاربي بدون هذين البلدين المحوريين، وتوافقهما على العمل المشترك، والتجاوب مع إرادة الشعوب، في فتح الحدود، والتنسيق الأمني والتبادل الاقتصادي والتكاثف الإقليمي لتوحيد الخطاب معالشركاء القاريين والإقليميين.
والواضح أن تعميق الاصطفافات الدولية، سيزيد من تقلص حظوظ التحليل المشترك والفهم المتبادل، الضرورين في أي فكرة وحدوية أو تنسيقية..
وهذه الاصطفافات ليست تقليدية كما تآلفنا على تحليلها، أي بين القوى الدولية، فقد تبين أن قوى إقليمية، عربية ومشرقية قريبة من هذا المحيط، لها فكرتها عن المغرب الكبير الذي تريده وتسعى إلى بنائه، في سياق  حرب تتعلق باستراتيجيات التغييروبناء الأنظمة، التي تخلف المنهارة منها ، والدليل واضح في الموقف من معارك ليبيا، كما من الموقف من التطورات في الجزائر، وأيضا في ما تعلق بأدوار دول مشرقية في تونس ومواقف التيارات السياسية والدول منها.
ومن المرجح أن هذه الاستقطابات ستزيد من تنافر الوضع، وتزايد التحرزات العدائية في الوسط المغاربي، بل إن الأوضاع في بلد واحد، كما هو حال ليبيا، يعرف منافسة في النفوذ بين الدول المغاربية نفسها، لأسباب تتعلق بالتعاون الدولي أو بالأمن الداخلي أو بدائرة التأثير، ويصل الأمر إلى درجة التنافس من أجل إفشال أي حل، قد تكون دولة من دول المغرب الكبير وراءه، إذا كان لهذه الدولة منافس في الحلبة الإقليمية!
ومجمل الاستنتاج أن التنافس الجيواستراتيجي سيعمق من التنابذ، بالتالي سيصعب الوضع القائم، وقد يخلف وراءه يأسا أكبر من الوقت الحالي، في حال نشطت النظم التي سيفرزها واقع الحرب، أو الردة الديمقراطية في رد الصاع والتموقع العدائي.
لا سيما وأن دولتين من أغنى دول المنطقة وأكبرها مساحة وأكثرها حساسية من حيث الثروات الطبيعية – ليبيا والجزائر – ما زالتا أمام مجهول مضاعف: مجهول السلم ومجهول الديمقراطية…


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 10/06/2019