المغرب على محكّ الحريات الفردية: أتقبلون باجتهاد «ليوطي» وترفضون اجتهادنا؟

 

تعتمل في الشارع المغربي، وفي أوساط نخبته، عملية تفاعل ونقاش واسعة، تتخذ صيغا راديكالية حينا وعقلانية حينا آخر، كلها تدور، في عمقها، حول قراءة تأويل القانون الجنائي المعروض حاليا على النقاش البرلماني وتسويغه، غير أن النقاش يفجّر، في الواقع، نقاطا مجتمعية تهم التطور السياسي والمجتمعي والثقافي في مغرب الحاضر، وتتعلق برؤيةٍ إلى الوجود، وقد اتخذت شكلا قانونياً، فيما قد يسمح الاشتقاق اللغوي بأن نسميه “قَوْننة النقاش حول قضايا المجتمع..”، ففي صلب هذه الحيوية التي تعيشها البلاد، والتي قد تغنينا تفاصيل راهنيتها في الصحافة والإعلام وفي منصات التواصل الاجتماعي عن العودة إليها، في صلبها، توجد قضية المرجعية في اتخاذ الموقف من التعديلات، باعتبارها موقفا ثقافيا وحقوقيا ومجتمعياً..
وبعيدا عن الاختزال القدحي، في تقسيم المتبارين في السجال بين رجعيين وإباحيين، وبين سلطويين وتحرريين، وغير ذلك من الثنائيات التي تعطل الفائدة، فإن ما هو معروض اليوم على الفضاء العمومي، يكشف أشياء أعمق، عند عقلنة النقاش..
وإذا كان هذا القانون، كما قال وزير العدل المغربي محمد بنعبد القادر، “يعيش غربة دستورية واجتماعية كبيرة”، باعتبار أن سقفه أقل جرأةً ومستوىً من سقف الحريات في الدستور، فإن النقاش حوله استدعى العودة إلى جزء من تاريخه وتاريخ تقعيده.
اليوم، هناك ثلاث أو أربع محرّمات معروضة للنقاش، تتعلق بالممارسة الفردية للحريات الجماعية.. أولاها، الحق في الوقف الإرادي للحمل (الإجهاض)، وثانيتها الحق في المشروبات الكحولية بدون تجريم، وثالثتها العلاقات الرضائية بين الراشدين، أو الجنس خارج مؤسسات الزوجية، ورابعتها، حرية الأكل في رمضان. وقد قدّر لكاتب هذه السطور أن يتابع أطوار ندوة متميزة، من نوع الندوات التي تستفز التفكير والتفاعل، في فاس، حاضنة المغرب الثقافية.
وجامعة القرويين (الأولى في العالم)، نظّمها حزب الاتحاد الاشتراكي، وهو أكبر حزب يساري في المغرب، قاد الحكومة في نهاية عهد الراحل الحسن الثاني وبداية العهد الجديد مع العاهل المغربي محمد السادس.
انطلق المتدخلون من مسلمّةٍ جدليةٍ تقول إن المجتمعات لا تطرح من الإشكالات إلا ما تستطيع الإجابة عنه، وهو ما ذهب إليه الحقوقي والأستاذ في العلوم السياسية، عبد الرحمن العمراني، عندما اعتبر أن المغرب قادر على طرح مشكلات يستطيع الجواب عنها. ومن ذلك تفرعت المقاربات، ولعل أكثر المتدخلين معارضة لإبقاء القانون على ما هو عليه، كان هو عبد الوهاب رفيقي، الذي سبق أن قضى تسع سنوات سجنا، لانتمائه إلى السلفية الجهادية المغربية، التي كانت وراء تفجيرات ماي 2003 في الدار البيضاء، الذي شدّد على أن العقوبات المحكوم بها، بخصوص هذه القضايا، الإجهاض والخمر والأكل في رمضان والعلاقات الجنسية خارج الزواج، لا تمت إلى الشريعة الإسلامية بصلة، باعتبار أن الأخيرة تقيم الحد، بالجلد أو العقوبة أو الرجم أو قطع اليد، وأن ما يعاقب به اليوم هو قانون وضعي كانت للجنرال ليوطي، في فترة بداية الاستعمار يده فيه، وبصماته لا غبار عليها، وهو ما اعتبر، في أدبيات التسويغ، بترشيد الحد الديني بوضعية العقوبة، ودعا إلى رفع النص الديني إلى مستوى التاريخ، لكي يتحرّر من كل ما تحجر حوله.
يفيد المنطق الضمني، في نظر أصحابه، بأن “الذين يعارضون مناقشة القانون الحالي ورفع التجريم عن هذه القضايا يقبلون بفتوى الجنرال ليوطي، ويرفضون الاجتهادات الحقوقية الحالية”. وقد التقى في ذلك مع مناضل يساري، كان من قادة تجربة “الإنصاف والمصالحة” التي عرّت سنوات الرصاص، وحدّدت المسؤوليات فيها، الشاعر صلاح الوديع، الذي دعا إلى تجاوز النفاق السياسي بشأن موضوعٍ صار من صلب المعيش المغربي، بل ذهب إلى حد الجزم بأن المجتمع تجاوز نخبته في مزاولة حياته الحديثة. وأكد عميد كلية الحقوق في فاس، محمد بوزلافة، في مداخلته، أن الأمر يتعلق بقانونٍ وضعي، لا علاقة له بالمرجعية الدينية التي تعتمد “القصاص والحدود والتعزير”.
وفي سياق الأمثلة، ذكر مسألة الإفطار العلني في رمضان وعدم وجودها في أي دولة عربية ما عدا المغرب، بل ذهب إلى حد القول إن النص القرآني لا يجرّمه لكن القانون الجنائي المغربي يتجاوز القرآن في العقوبة!
ثانيا، نقاش الهوية، على ضوء مجريات هذا النقاش، حضر أيضا بمرجعياتٍ مختلفة، ولعل أهمها المقاربة التي ترى أن في طرح الهوية مقابل الحرية تعسّف حضاري وتعسّف عقلاني، إذ إنه لم يثبت أبدا “أن هوية أو دينا ما انقرضا بسبب الحرية وتطور المجتمع”. كما في الهندوسية والبوذية والمسيحية وغيرها من الديانات، بل إن الحرية لا تهدد كيانا سوى عندما لا يتم الاعتراف بها من الجميع، وقد احتمى أستاذ الفلسفة وأحد الوجوه المعروفة، محمد الدكالي،
بمونتيسكيو الذي قال عنه “سيدنا مونتيسكيو” لكي يرفع الإشكال من البحث عن حرية فردية إلى حرية جماعية، يقرّ بها الجميع وتمارس على مستوى الأفراد.
ثالثا، نسبية النصوص الوطنية نفسها بخصوص مستوى الاجتهاد، وتفاوت جرعة التحديث فيها، كانا موقع مساءلة كذلك، باعتبار ذلك عقبة أخرى في التنظير وفي الممارسة، فالحقوقية والمناضلة النسائية والبرلمانية، نزهة العلوي، سطرت على التناقض الحاصل بين مدونة الأسرة والقانون الجنائي، بخصوص العلاقات خارج الزوجية، فالمدوّنة التي تشكّل دستور الحياة العائلية، وموضوع توافق وطني كبيرا حصل في العام 2004 بين كل تيارات المجتمع، تسمح بإثبات النسب للمولود عن علاقة رضائية بين رشداء، ولكن القانون الجنائي يعاقب على هذه العلاقات! وبالتالي، هناك تناقض بين القوانين في البلاد الواحدة.
الواضح أن المغرب اليوم يعيش نقاشات تهم البنية العميقة لكل أنظمة التمثل فيه، السياسي والمؤسساتي والعقدي والدستوري، بحثا عن تطور سلسٍ، أهم مرتكزاته إعادة النظر في طبيعة الدولة وطبيعة المجتمع وصياغة نماذج قادرة على حل معضلاته الآنية والقادمة، لكن بتموقعاتٍ مختلفة، يبدو أن الأسلوب الذي ينحاز إليه أصحاب القرار، هو التوافقات الكبرى عوض الاحتكام إلى موازين القوى التي قد تختل وتكون وخيمة العواقب.

نشر بموقع «العربي الجديد»..


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 22/01/2020