المهدي بن بركة: بين الذاكرة والتاريخ.. 6

يكاد الكاتب يتبع هنا، في إطار تناوله لعلاقة بن بركة برفاقه داخل الحزب، الطريقة ذاتها التي اتبعها في محاولته الإحاطة بالعلاقة التي كانت قائمة بينه وبين الملك الحسن الثاني، هناك طبيعة العلاقة ما قبل 1965 وما بعد 1965. يبين الكاتب في نهاية المطاف وجود نوع من الفتور في علاقة بن بركة بقادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قبل حصول الاختطاف ليبقي عليه (فتور العلاقة) بعد الاغتيال. سأثير هنا مرة أخرى بعض الأحداث التي يوردها الكاتب تسير في اتجاه اكتفاء رفاق بن بركة باستنكار الجريمة عبر الجريدة دون إبداء حماس لتبني القضية والدفاع عنها. أستحضر هنا مثلا التماسه من مجموعة من القياديين في الحزب إصدار بيان إدانة يحمل توقيع جميع أعضاء الأمانة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي قوبل بالرفض وبشكل ملتو.
يقول الأستاذ موريس بوتان « وبدا لي أمام اتخاذ النظام المغربي أي موقف، أن الأوان قد حان كي يصدر أعضاء الأمانة العامة لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهم رفاق المهدي بن بركة، بيان إدانة يوقعونه جميعا. أعددت نصا في هذا الصدد. عبر لي بوعبيد واليوسفي عن موافقتهم[ما] المبدئية، قبل أن يستطردوا[دا]:  «  لا حاجة إلى لقائنا من جديد في حالة حصولك على موافقة الآخرين » . ذهبت إلى الدار البيضاء ذاك اليوم وكلي اطمئنان أني سأقنع قياديي الحزب الآخرين بالتوقيع. التقيت بزميلي المعطي بوعبيد في منزله، حيث التحق بنا المحجوب بن الصديق. ولم تفلح الساعات الثلاث التي قضيناها في النقاش في دفعهم إلى التوقيع على النص الذي اقترحته! أصر عضوا السكرتارية العامة على الرفض:  «لا يمكننا التوقيع إلى جانب الفقيه البصري، هذا الوغد، هذا النكرة الذي لا يساوي شيئا ». واسترسلا في وصفه بأقذع النعوت ! أسقط في يدي. لم يكن يخفى علي الصراعات المحتدمة بين قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ولكن ليس إلى الحد الذي يمنعهم من التوقيع على نص مشترك للتعبير عن إدانتهم. حدث  «اختفاء»   رفيقهم الزعيم بن بركة…بينما يواصلون الاجتماع معا في إطار الأمانة العامة للحزب ! وبعد عودتي إلى الرباط، اتضحت لي الأمور بجلاء. فقد علمت أن الحسن الثاني استقبل بفاس يوم السبت 6 نوفمبر النائب العام للاتحاد المغربي للشعل برفقة خمسة قياديين آخرين. وخلال الاجتماع استجاب الملك لبعض المطالب التي كانت تقدمت بها المركزية النقابية قبل أشهر، وبالتالي، فإن قضية بن بركة لم تعد من أولويات النقابة…» (ص224 ترد نقاط الحذف في النص الأصلي).
يسترسل الكاتب في ذكر اتصال آخر لمراسلة وزير الداخلية المغربي أو مباشرة الملك الحسن الثاني:» وفي 7 من دجنبر، كاتبت من جديد زملائي التبر والمعطي بوعبيد وبنجلون: « أظن أن الوقت قد حان لأن نكتب من جديد إلى وزير الداخلية أو مباشرة إلى جلالة الملك هذه المرة، باسم والدة المهدي بن بركة التي لا تزال تجهل كل شيء عن مصير ابنها»، وحده الأستاذ التبر أجابني، ولكن دون أن يتطرق لاقتراحي.» (ص 227ـ228).
في الاتجاه ذاته نجد الكاتب يخصص فقرة كاملة لممثل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بباريس المدعو محمد الطاهري. « حللت بباريس لبضعة أيام في شهر يوليوز. وهناك التقيت بزملائي الذين نصبتهم زوجة بن بركة غيثة بناني لتمثيلها في القضية، وأيضا بممثل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية محمد الطاهري. وقد سبق أن حذرتني زميلتي ميشيل بوفيار من هذا الأخير، وذكرت لي أنه يزور قصر ماتنيون باستمرار، كما أن زوجته الثانية وهي إسرائيلية مغربية بالغة الجمال صديقة حميمة لزوجة بومبيدو. ومع ذلك، لم أتوقع أن يسعى الطاهري إلى ثنيي عن الذهاب إلى محكمة الجنايات لتمثيل موكلتي ! كما أن خطابه لم يبد لي لبقا بما يكفي وهو يحاول إقناعي بعدم المجازفة بمستقبلي المهني بالرباط(…) لن يحضر الطرف المدني المحاكمة الثانية في ربيع 1967. هل يكون الطاهري وراء قرار الانسحاب؟ لست أدري. وفي المقابل، ليس من قبيل المصادفة أن يعود الطاهري بعد بضع سنوات إلى المغرب منعما مكرما، ليمنحه الحسن الثاني منصبا وزاريا في ربيع 1971 !»(ص239ـ240)
لم ينس الكاتب ذكر موقف الاتحاد المغربي للشغل، النقابة التابعة مبدئيا لحزب بن بركة، من قضية الاغتيال، وذلك ليثير صمت المسؤولين عنها تجاه الحدث، حيث يقول:» وأخيرا، بعد صمت طال واستطال، أصدر الاتحاد المغربي للشغل بيانا أول يدعو فيه العمال إلى تحري « اليقظة والحذر،» ولكن دون أن يلوح بأي رد فعل وازن احتجاجا على ما وقع»(ص220).
وفي آخر الكتاب يثير الأستاذ موريس بوتان موقفي الشخصيتين البارزتين في حزب الاتحاد الاشتراكي باعتبارهما تقلدا مهمة الكتابة الأولى للحزب الذي يعتبر استمرارا لحزب بن بركة بعد أن استدرك زعماؤه ضرورة إحلال النضال الديمقراطي محل النضال الثوري، أو لنقل «الاختيار الديمقراطي» محل «الاختيار الثوري». ولا تفوتني هنا الإشارة إلى الترتيب الذي اعتمده الكاتب في ذكر هذين الكاتبين الأولين لحزب الاتحاد الاشتراكي، حيث فضل إثارة محمد اليازغي أولا ثم عبدالرحمن اليوسفي ثانيا ليكون هو آخر مسؤول حزبي يذكر في تناول المؤلِّف لمسؤوليات الشخصيات السياسية الاتحادية في ما يتصل بالكشف عن الحقيقة. قد يكون هذا التأخير لليوسفي نتيجة صدفة محضة، كما قد يكون نتيجة فعل إرادي لتمرير فكرة معينة، خاصة وأن الكاتب، كما قلت في بداية هذا المقال، شديد الحرص على تحديد درجات المسؤولية في القضية وفي مقدمتها مسألة الكشف عن الحقيقة مادامت هذه الأخيرة هي التي عادت ذات أهمية في قضية الزعيم بن بركة.
يقول الكاتب وهو يذكر الأستاذ محمد اليازغي: «ولا ننس ما ظل يردده الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية محمد اليازغي حتى تاريخ قريب، أي 4 يناير 2005، وهو يطالب بأن يتضمن  « التقرير النهائي لهيئة الإنصاف والمصالحة كل الحقيقة حول ظروف اختطاف بن بركة واغتياله» . ولكن نداءه ظل صيحة في واد ! لكن ذلك لم يمنعه من تسلم منصب وزير دولة دون حقيبة، ليكون الرجل الثاني في الحكومة الحالية… !» (ص387) وفي ختام تعرضه لما يمكن تسميته صمت رفاق بن بركة عن قضية زعيمهم، يثير الكاتب الأستاذ عبدالرحمن اليوسفي باعتباره: «زعيم الاتحاد الاشتراكي، وآخر وزير أول في عهد الملك الحسن الثاني، والوزير الأول في حكومة التناوب التوافقي»، وطبعا باعتباره كذلك من الشخصيات السياسية التي كانت تطالب من قبل بالكشف عن حقيقة الاغتيال والاختفاء، بل والمُتهِمة للمسؤولين المغاربة بالضلوع في الجريمة. غير أن الكاتب لا يثير عبدالرحمن اليوسفي إلا للإشارة، كما هو الشأن بالنسبة للرفاق الآخرين، إلى الهوة القائمة بين القول والفعل لدى رئيس حكومة التناوب. يقول الكاتب « صحيح أن عبدالرحمن اليوسفي زعيم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وآخر وزير أول والوزير الأول في حكومة التناوب التوافقي يطالب عن حق بأن يصبح المغرب دولة حق وقانون، (ويضيف الكاتب في الهامش « صحيح أن الوزير الأول عبدالرحمن اليوسفي صرح في غشت 2001 قضية بن بركة تجعل الشكوك تحوم حول ضلوع العديد من الدول ولا يمكن أن يلحقها التقادم، ويبقى من الضروري أن تتحدد مسؤوليات كل الأطراف بما في ذلك مسؤولية الدولة المغربية») ولكنه لم يذهب أبعد من ذلك» (389).
هكذا نسجل لوم الكاتب لأصدقاء المهدي في ما يتصل بموقفهم من اختفاء واغتيال رمز من رموز حزبهم. لوم يورده الكاتب ليمنحه، من دون شك، دلالة سياسية وأخلاقية ذات أهمية ووزن. غير أن هذا اللوم لا يرقى إلى مستوى التعبير عن تحميل أصدقاء المهدي المسؤولية في ما يتصل بجانب القضية الذي يهتم به هو: تحديد المسؤولية الأولى في الجريمة والكشف عن الحقيقة. لوم ارتأيت الإشارة إليه في هذه المداخلة لأن الكاتب تعرض له ليدلي بأن البحث عن الحقيقة لا يمكن أن نعول عليه جهة رفاق المهدي في الحزب، ولأنه لوم يبين في الوقت ذاته جانبا مهما من حياة هذا الزعيم المغربي الذي لا يثار على العموم، ألا وهو نوع من العزلة بصم حياة هذا الرجل، في نهاية المطاف، رغم أن معظم رفاقه يتبنونه ويستشهدون به حينما يتعلق الأمر بالتذكير بالتاريخ النضالي للحزب، وبالكلام عن المناضل النموذجي.
يضع الكاتب النقطة الأخيرة بعد إنهاء آخر جملة في مؤلفه وهو لم ينل من الهدف الذي اشتغل من أجله لمدة خمسين سنة سوى فكرة التشبث بالأمل والمراهنة على دور التاريخ. من يمكن أن يفيد في الكشف عن الحقيقة وأغلب المتهمين، أهم المتهمين، غادروا الحياة؟ إن تعليق الحل بالأمل وبالتاريخ (ربما بمكر التاريخ) ما هو في الحقيقة إلا نوع من الاعتراف بلا جدوى الاستمرار في البحث عن الحقيقة. ربما لا ينبغي أن أستعمل كلمة الأمل ما دام الكاتب يتكلم في نهاية المطاف عن استبعاد اليأس وليس عن التشبث بالأمل، حيث يقول:»رغم كل هذه الروايات المختلفة، المتهافتة في أغلب الأحيان فإنني مقتنع أن اليأس يجب ألا يجد طريقه إلى النفوس التواقة إلى معرفة الحقيقة. وكما يقول الكاتب بيير سشووندووفر في روايته  «هناك في الأعلى » « إن الحقيقة في نظرنا عنيدة، وإنها حتما ستطل برأسها من قاع البئر يوما ما  » (ص322). يمكن القول: يتعلق الأمر بالنسبة للكاتب إذن بمقاومة اليأس أكثر مما يتعلق ببوادر الأمل. أضف إلى هذا أن الإحالة هذه المرة، وبهذا الصدد، تستند إلى الأدب، وبالضبط إلى الرواية، وليس إلى التاريخ كما فعل في تعرضه للماضي. كم هو مؤسف أن تكون مقاومة اليأس هي النتيجة التي انتهى إليها مؤلف استغرقت كتابته مدة عشر سنوات بصدد قضية رافقت اهتمام الكاتب خلال خمسين سنة. لقد التقى الباحث بمعظم المتهمين في القضية داخل المحكمة وخارجها، واتصل داخل البلدين المعنيين (مُذَكِّرا، متوسلا، مناشدا) بالمسؤولين السياسيين الكبار الذين كان بإمكانهم تقديم خدمة ما في القضية، واطلع على معظم الوثائق المتوفرة ذات العلاقة بالقضية، المتاحة منها والممنوعة، وكل هذا من دون جدوى في ما يتصل بالمبتغى: الكشف عن حقيقة الضحية. إنه مؤسف جدا أن تنتهي الجهود التي بذلها هذا المحامي الصديق لبن بركة، والمتشبع بأنبل قيمة تقوم عليها العدالة: الدفاع عن الحق والحقيقة، أقول: مؤسف أن ينتهي بعد كل الجهود التي بذلها إلى نتيجة كان قد قدمها ـ عرضاـ في بداية سرده لوقائع الجريمة وهو يستشهد بكاتب تناول بدوره الموضوع، ليسمي مأساة بن بركة «القضية». نقرأ في الصفحة 202 الاستشهاد التالي: « يقول ر.موراتيت: هكذا ابتدأت فصول ما سمي قضية بن بركة في انتظار أن يطلق عليها اسم  «القضية »  دون إضافة أو نقصان، قضية ستلقي بظلالها على الحياة السياسية الفرنسية، وربما على الحياة السياسية المغربية إلى الأبد». يبدو إذن أن الكاتب قد أعلن عن نتيجة بحثه وخاتمة عمله ومصير قضيته وسط الكتاب، ومع بداية تطرقه للجريمة. ربما كان هذا هو ما يفسر لجوء الكاتب إلى التعبير السلبي، مقاومة اليأس، بدلا من الكلام إيجابا واستعمال التشبث بالأمل.
هل تعني مثل هذه الخاتمة أن قضية بن بركة سائرة في طريق التحول إلى أسطورة؟ يصعب القول بهذا الأمر لأن الجانب الغامض وغير المعروف في الأسطورة على العموم هو البداية وليس النهاية. أضف إلى هذا أن الأسطورة تُوظَّف، على العموم، في البناء وفي التأسيس. لا يبدو إلى حد الآن أن قضية بن بركة وظفت في تأسيس ما. هل يمكن أن يحصل مثل هذا الأمر؟ لم لا ما دمنا نسجل اهتمام المسؤولين السياسيين بمسألة إعادة التأسيس، بمسألة تجديد التأسيس على مستويات عدة. نقول لم لا، لأن توظيف القضية في مجال إعادة التأسيس سيمنح من دون شك قوة للفعل السياسي داخل المجتمع المغربي، ومن ثمة متانة للتلاحم بين المؤسسات السياسية المغربية ومختلف الفئات الاجتماعية. لقد علمنا التاريخ المغربي الحديث أن التصدي للتحديات الكبرى بعزم وحكمة يؤدي إلى التلاؤم الوثيق رغم كل ما قد يرافقه من شكوك وتعثرات في البداية. إن حصل الأمر فإن القضية ستعرف تحولا كبيرا في المستوى الذي تحتله وسط المجتمع، إنها ستنتقل من مستوى الذاكرة إلى مستوى التاريخ، من مستوى التشكيك إلى مستوى الطمأنينة. أظن أن الفرق الأساسي بين الذاكرة والتاريخ يكمن في كون فعل الأولى يتسم أساسا بالمفاجأة، في حين إن عمل الثاني يخضع على العموم للتوجيه. إن الذاكرة بمثابة بركان صامت، بينما التاريخ ذخيرة نرجع إليها كلما كنا في حاجة إلى استثمارها. إن الذاكرة فاعلة وفعالة من تلقاء ذاتها، في حين إن التاريخ يحتاج إلى من يُفعِّله. أظن أن تحويل الذاكرة إلى تاريخ، معناه تحويل قوة غير عقلية إلى قوة عقلية. وهذا التحويل لا يمكن طبعا أن يتم بالعمل على إسقاطها في النسيان لأن السير في هذا المنحى لا يعمل إلا على تفخيم قوتها غير العقلية.