النصب التذكاري..

..غشت على الأبواب، وبداية الموسم الدراسي الجديد تطل برأسها.. بدأت مصاريف الدخول تقض مضجعه، لا عمل قار بهذه المدينة التي تقتعد كراسي مقاهيها الكثيرة، حرارة الشمس يذكيها لهيب المعيشة والأسعار ومداهمات الفواتير، ومباغثة صاحب الكراء..
اقتعد كرسيه مبكرا، على طوار «الموقف»، ونصب جنب الطريق فأسه ومجرفته، فانعكست على نصليهما الحديدين أشعة شمس يوليوز.. حتى غشيت عينيه غشاوة عطشآن.. و ثغاء عيد الأضحى هو الآخر يلوح في الأفق القريب..
وكمن فتحت له أبواب السماء، وجد نفسه، أمام الأرض التي ستقام عليها فيلا السيد الرئيس، أرض منبسطة وشاسعة، تتطلب سنة كاملة وأكثر من العمل لإقامة الأسس، وبناء الجدران، ورفع السواري، وبسط إسمنت الأرضية، ولطم الجدران بالملاط.. كذلك الصباغة والبلاط والزليج والرخام والنوافذ والشرفات والأبواب.. «وهي تتطلب نصف عام آخر، وحتى الحديقة يمكنني تهيئتها وإعدادها، في شهرين على الأقل.. فلدي خبرة بسبع صنائع.. والرزق ضائع!»
ودخل في مفاوضات حول التكلفة الإجمالية، وكذا طريقة الدفع، ومبلغا شهريا قدره… «تعطيني مقدما الآن… والباقي عندما أضع آخر لطمات الإسمنت على الثقوب والروتوشات، فلا أغادر الفيلا إلا والباقي معي كاملا.. كاملا.. بلى.. إذا كانت تنقصك بعض الألف فرنكات فلا ضير.. أحتسبها صدقة على المداخيل أو زكاة عليها.. ولكن المقدم ضروري، فلدي زوجة وأولاد يأكلون ويشربون ويدرسون، يوميا، واليوم كذلك.. اتفقنا؟ الرجال هم الكلمة.. وأنا أموت ولا أخل بالكلمة.. الكلمة هي الكلمة».
«أقول لك: أنا لا أملك حسابا بنكيا، لكن لدي صندوق التوفير البريدي، ولا أعرف التوقيع ولا كتابة اسمي أو المبلغ على الشيك.. ولكن لدي ابني واسمه.. عثمان .. يدرس ب… لا أذكر.. فالكدح والبحث عن عمل، ولقمة عيش حلال.. لم يترك لي وقتا ولا فرصة لمعرفة هذه الأشياء.. ولكن ما أعرفه أنه يذهب ويجيء من المدرسة.. «يا عثمان..» ما نفعه إن لم يملأ لي هاته الأوراق ويقرأها لي.. أما التوقيع فسأتعلمه.. لابد أن أتعلمه.. وكذلك الحساب، المداخيل، والميزانية،.. وكل ذلك يجب أن أقف عليه بنفسي، كي لا أفلس..»
«وماذا سأفعل بالأرباح؟! أشتري لزوجتي طقما من الذهب، بدل أقراط الزنك التي تأكل أذنيها، وعثمان سأضع له بابا ونافذة خشبية، بدل أسمال ستائر الفصل.. وزهرة، زهرة حياتي، أشتري لها دمية بدل تلك العرائس، التي تصنعها بيدها من القصب وخيوط الصوف.. وأنا..؟ لا يجب أن أنسى نفسي.. أشتري لي سيارة «طيوطا»، أو شاحنة «فولفو».. لتسهيل أمور العمل.. بدل هاته.. هاته..»
وشخص بصره..على الفأس والمجرفة، منتصبين أمام عينيه، كنصب تذكاري..!


الكاتب : زهير اسليماني /المغرب

  

بتاريخ : 19/07/2019

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *