النظر بهدوء إلى الخلف

I
لن تتحقق الوثبة الشعرية بغير المطرقة غير الرحيمة. فإذا قتلت شاعرا تحبه كثيرا، فاعلم أنك قريب من اصطياد سمكتك الشعرية الخاصة.. غص في أعماقك وخذها..

II
إذا كان الشاعر يمشي في طريق واحدة مع أنداده، وهي طريق مزدحمة بشعراء حقيقيين ومذهلين، فإن ما يتوقعه منه الشعر ليست تلك القصيدة المجوفة والمليئة بالثقوب، ولا تلك القصيدة التي تتمتع بسطوة تاريخية ما، ولا تلك القصيدة التي يركض الجميع خلفها منخطفا ببريقها الأخاذ.
إن ما ينتظره منه الشعر هو أن يكسر كل توق إلى الاقتفاء، وكل اهتمام بالخلطات السرية التي تصنع رائحة هذا الشاعر أو ذاك. ولهذا عليه أن يعزل نفسه عن هذا الزحام الشديد، وأن يهوي بكل ما أوتي من قوة على الشعراء الذين يسحرونه ويفرضون عليه الدخول في لحظة انذهال مفتوح بقصائدهم. عليه أن يخرج من القالب، وإن استطاع أن يخرج عن الطريق خفية، وأن يعصب عينيه عن كل ما رآه ليستكشف تلك الأماكن المجهولة التي لم يسبقه إليها أحد.

III
إن الشاعر الذي يشعر بالعجز أمام المنجز الشعري السابق شاعرٌ لم يولد بعد، أو ولد ميتا، لأنه مكبل بما حققه الأوائل، مما سيحوله ربما إلى «تلميذ نجيب» في مدرسة الشعر، وليس إلى شاعر تحركه الرغبة في خرق القوانين، وفي الانتماء عن جدارة لصناع التاريخ الشعري.
لا شيء نهائي في الشعر.. والشعراء الكبار كلهم حملوا قصائدهم الهادرة إلى أراجيح أخرى، تصورا وتجربة وفلسفة وإيقاعا وموضوعا..
IV
هل تتحقق «تحولات الشعر المغربي» بالالتفات في المنجز العام، أم بالتحيز إلى السياط الناقمة التي ترى في كل التفات «سلفية شعرية»؟
أعتقد أن رمي المنجز الشعري المغربي في موقد الحطب لا يحل الإشكال القائم، لأن من شأن ذلك أن يصنع حجابا أسود بين مختلف التجارب والأجيال والشعريات.

V
الشعر لا ينزل من السماء، ولا يتحقق إلا بنوع من المكابدة التي تفضي، على مستوى الإيقاع (المعنى)، إلى «اليقظة». ولهذا، لا أستطيع أن أفهم من يعتبر الشعر «طَرْقَ مطر على الزجاج» أو «خفقة جناح خلف باب» أو «شجرة رابطة الجأش أمام فأس».

VI
الشعر ليس تجسسا على الشعر العالمي من خرم الباب. وبتعبير أدق، الشعر ليس نظرة من الخارج، ولا يمكنه أن يكون كذلك. إنه تلك التجربة التي تتلاطم داخلها النشوة بالإعياء، التمكين بالتلوين، اللغة بالكلام، الأنوار بالظلال، اليقين بالارتجاف.

VII
لا يمكنني أن أفهم ذلك الجهل الذي يختلج تحت جلد بعض الشعراء الجدد بمنجز أسلافهم. بل لا أستطيع أن أفهم ارتفاع نسبة الفخر بهذا الجهل في دمائهم، وبما «يقترفونه» من نصوص يلحقونها، كيفما اتفق (ظلما وعدوانا)، بالتجربة الكونية.
وحتى لا نجمح بخيالنا بعيدا، هناك من الشعراء الآن من يحطم كل الجسور التي قد تربطه بشعراء أمثال (أحمد المجاطي، عبد الله راجع، محمد الخمار الكنوني، محمد بنيس، محمد السرغيني، مصطفى المعداوي، محمد الحلوي، عبد المالك البلغيثي، على الصقلي، محمد بنطلحة، علال الحجام، أحمد بلحاج أيت وارهام، عبد الكريم الطبال، عبد السلام بوحجر، العياشي أبو الشتاء، محمد علي الرباوي.. إلخ)، بل يعلنون انفصالهم الشامل عن هؤلاء الآباء، ظنا منهم أن الشعر «النقي» على مرمى حجر من قصائدهم، وأنه يكفيهم أن يذكروا أسماء مثل وديع سعادة وسركون بولص، حتى تأتي الرقاب إليهم صاغرة. ومنهم من يعتقد أنه يملك المستودع الشعري العالمي بمجرد اطلاعه على ريتسوس أو أندري فيلتر أو إبف بونفوا.. إلخ.

VIII
التحول الشعري يعني، في المقام الأول، الانتقال من لحظة شعرية إلى أخرى، ويمكن أن يتحقق هذا التحول داخل التجربة الواحدة نفسها. والتحول، يعني حيازة قوة شعرية مرجعية لمواجهة «الفراغ»، ومعاكسة النظر بغضب إلى الخلف كما يعبر عن ذلك «جون أوزبورن». إنه جهد شعري ينطلق من التحولات والإبدالات التي لا مناص منها لكتابة نص شعري مغربي.

IX

إن التحول الحقيقي، الذي تنتظره الشعرية المغربية، لن يتحقق إلا بعقد تحالف جديد مع المنجز الشعري السابق، قائم على الصداقة والالتفات، لأن أي تجاوز لا يقع إلا باستحضار هذا المنجز، وتملكه، واستظهاره رأسا على عقب، في أفق إنتاج نص شعري مختلف.

X
من حق أي شاعر أن يلفت الأنظار إلى قصيدته «الأصيلة»، وأن يجازف بالانتماء إلى الكون الشعري الفسيح ، لكن «الأصالة الشعرية» لا تتحقق باقتفاء التجارب العالمية، بل بالالتفات في الذات، وفي إيقاعاتها وأساطيرها وهوياتها ولغاتها. الشعر المغربي لن يتحقق بارتداء «الكيمينو» أو «التنورة الأسكتلندية» أو «القبعة المكسيكية». الشعر المغربي يقع على بعد أمتار قليلة من إيقاع الذات المغربية، وبعد ذلك يمكن الانفتاح على إيقاعات العالم، وهنا لا بد أن نطرح، بعمق، سؤال الذات والحدود.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 22/03/2019

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *