النقيب محمد الصديقي يصدر كتاب «أوراق من دفاتر حقوقي»

قنابل بمقر جريدة «التحرير».. مع عبد الرحيم بوعبيد في قضية المهدي..  حضور اعتقالات ما سمي «مؤامرة يوليوز 1963» وتفاصيلها.. إعدام الضباط رميا بالرصاص.. وأطلس محمد بلحاج وتهمة محاولة اغتيال الملك عند صلاة الجمعة 

أصدر النقيب محمد الصديقي كتاب « أوراق من دفاتر حقوقي « في مطلع هذه السنة عن دار النشر المغربية، وهو حوار أو محاكاة ما بين نقيب محمد بريكو والأستاذ الطيب لزرق وبين النقيب محمد الصديقي .
يحكي أمين السر المرحوم عبد الرحيم بوعبيد عن علاقته معه وكيف تدرب على يديه في مكتبه بالرباط،وعن المحاكمات التاريخية التي كان حاضرا فيها، من بينها أطلس بلحاج ومن معه وعمر بنجلون :محاكمة مناضل قتل غدرا، وعبد الرحيم بوعبيد: محاكمة رأي، ونوبير الأموي: محاكمة حرية التعبير، والمهدي بن بركة: ضياع ملف قضية، وشهادة عبد الرحمان اليوسفي عن مصير ملف القضية .

وفي تقديم الكتاب: «بحلول ربيع سنة 2017 أكملت فترة الانتداب الخاصة بالمهمة التي أسندت إلي من طرف جلالة الملك محمد السادس، بتعييني سنة 2008 عضوا بالمجلس الدستوري لمدة تسع سنوات.
وعندما رجعت إثر ذلك إلى ممارسة مهنتي التي هي. المحاماة، بكيفية منتظمة اكتشفت أن الملفات التي لاتزال تروج بالمكتب لا يتجاوز عددها بضع عشرات أو أكثر من ذلك بقليل.
وهذا أمر لم يفاجئني في الحقيقة كثيرا، لأن المهام التي باشرتها منذ الثمانينات،سواء في إطار الأنشطة الحقوقية أو السياسية أو الإعلامية أو القضائية، كان لابد أن يكون لها أثرها المباشر على وضعية مكتب المحاماة مهنيا.
ومن هنا، فإنه لم يكن أمامي إلا أن أعود إلى أوراقي القديمة للنبش في ثناياها لعلي أعثر على ما يساعدني على سد بعض أوقات الفراغ وما أصعبه ، وأيضا لاسترجاع بعض الصور مما عشته على امتداد السنوات الماضية بطريقة أو أخرى.
وفي ظل انغماري في البحث والتنقيب على أوراقي القديمة المبعثرة هنا وهناك، اتصل بي الأستاذ محمد بريكو نقيب هيئة المحامين بالرباط نهايةَ الأسبوع الأول من شهر رمضان للعام الحالي 1440 هجرية الموافق لشهر ماي 2019 ميلادية، ليطلب مني افتتاح الجلسات الحوارية التي دأبت الهيئة على إقامتها منذ سنتين في شهر رمضان من كل عام، والتي تخصص لمحاورة نقيب من النقباء السابقين للهيئة حول مساره المهني وما واكب هذا المسار من تجارب وأحداث.
ولم يكن علي أمام هذا العرض إلا أن أعرب للسيد النقيب عن تقديري لمبادرته وترحيبي بها خاصة وأني قد أصبحت متحررا من واجب التحفظ الذي كان يطوقني خلال ممارستي مهام العضوية في المجلس الدستوري، والذي لم يكن يسمح لي بالتحدث عن الأحداث السياسية وما يماثلها أو يقاربها. وأنا اليوم مقبل على الكلام عن مساري الذي لايخلومن كثير من السياسة.
وفي الموعد المحدد، تم لقائي في نادي المحامين مع مجموعة من الزملاء يتقدمهم السيد النقيب مع عدد من الإخوة الأفاضل الذين حضروا مشكورين بعدما علموا بالدعوة التي أطلقتها الهيئة. وكذا الأستاذ الطيب لزرق الذي وقع الاختيار عليه من طرف النقيب لتسيير اللقاء وإدارة الحوار.
وقد أتيح لي من خلال الأسئلة التي طرحت علي أن أستحضر عدة محطات من مراحل حياتي المهنية، بالإضافة إلى ما يتعلق بمسارات أخرى قدر لي أن أساهم فيها وخاصة في المجال الإعلامي والحقوقي والسياسي ومساهمتي الأخيرة في مهام القضاء الدستوري.
وتوقفت جلستنا في الساعة الثانية والربع من صباح يوم الجمعة الحادي عشر من رمضان.
لكن حواري مع الأستاذ الطيب لزرق لم يتوقف حينها، وإنما استمر عن بعد، إلى ما بعد أذان الفجر، حيث زودته بما كان لايزال قابلا للإفراج عنه من ذكريات توليت تدوينها فيما بعد.
ومن خلال مراجعة تسجيل الحوار المجرى، تساءلت مع نفسي، ما الفائدة من أن أبقى محتفظا بهذا وحدي؟ ألا يكون من الأجدى أن أعمل على إذاعته و إشاعته بين من يكون معنيا أو مهتما بما يحتويه؟
وكان الجواب عن هذا التساؤل ، أني سارعت إلى مراجعة ما أدليت به في مساء العاشر من رمضان، مع ما ألحقنا من إضافات في الحوار البعدي، زيادة على بعض المرافعات والمداخلات التي سبق لي أن قدمتها أمام القضاء في ملفات غير عادية، أو في بعض المنتديات، أو نشرتها في بعض الصحف، علما بأن مرافعتين من المرافعات المشار إليها، يرجع الفضل في تدوينهما أثناء الجلسات، مع وقائع جلسات محاكمة الفقيد عبد الرحيم بوعبيد ورفاقه خلال شهر شتنبر 1981، إلى الزميل عبد الوهاب المريني الذي قضى ردحا غير يسير من الزمن رفيقا لي في الدرب، فله مني كل الشكر.

مسارات“ في مسار

تخرجت من كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط وحصلت على الإجازة في دورة يونيو من سنة 1961.
في هذا الوقت بالضبط لم أفكر قط لا في ولوج مهنة المحاماة ولا في مزاولة أي مهنة أخرى. كان اهتمامي منصبا إذ ذاك على الإعداد لمواصلة دراستي الجامعية في الخارج وبالضبط في فرنسا من أجل محاولة الحصول على دبلوم الدراسات العليا، تم التفكير في إعداد الدكتوراه في أفق الالتحاق بالجامعة كأستاذ جامعي باحث . كانت هذه أمنيتي في الحياة منذ بداية دراستي الأولى، فأخذت بالفعل في الاستعداد لهذه المغامرة بداية من تقديم الملف المتعلق بطلب الحصول على المنحة الضرورية عن طريق وزارة التعليم إلى الشروع في أخذ الاستعدادات اللازمة للسفر إلى الخارج.
لكن بعدما تمكنت من قطع الأشواط الأولى في هذا السبيل، فوجئت في منتصف شهر يوليوز 1961 بأن قيادة الحزب السياسي الذي كنت أنتمي إليه، وهو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، تنادي علي وتبلغني بأن لديها مشكلا في صحيفة Œالتحرير˜ التي كان الحزب يصدرها وكانت الناطقة باسمه. وهذا المشكل يتمثل في أن مهمة سكرتير تحرير الجريدة ستصبح شاغرة بسبب أن المكلف بها، وهو الأخ المرحوم محمد عابد الجابري، حصل من جهته على الإجازة في الاداب، ويرغب في أن يتجه إلى التعليم مباشرة مما يجعل منصبه في الجريدة مهددا بالفراغ، ولذلك فإن القيادة تطلب مني أن أتولى هذه المهمة إذا كان ذلك ممكنا. و طبعا، فإنه لم يكن من السهل علي الإجابة على عجل، ولذلك فإني أخذت بعض الوقت لأفكر في الأمر جيدا. غير أن هذا التفكير لم يدم طويلا.. لأنه لم تمض إلا بضعة أيام حتى اتخذت قراري وأنا أقول مع نفسي هذه فرصة ستتاح لي لمواصلة السير في الطريق التي اخترت أن أسلكها عندما التحقت بالحركة الوطنية، وأنا ابن الخامسة عشرة من عمري، ومساهمتي في الحملات التي سبقت الإعلان عن إنشاء الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال في 25 يناير 1959 ثم مشاركتي في المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي انعقد بسينما الكواكب بالدار البيضاء يوم 6 شتنبر 1959ثم انخراطي في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب الذي تحملت في إطاره عدة مسؤوليات وعلى الخصوص مسؤولية الكاتب العام بالنيابة في اللجنة التنفيذية التي انتخبت برئاسة المرحوم عبد الرحمان القادري من طرف المؤتمر الوطني الخامس الذي انعقد بمدينة الدار البيضاء في شهر يوليوز سنة 1960 .

سكرتير جريدة التحرير

على امتداد السنتين اللتين قضيتهما في جريدة Œالتحرير˜ ،عايشت وواكبت مجموعة من الأحداث الكبرى التي عرفتها البلاد من صيف سنة 1961 إلى صيف سنة 1963.
من بين هذه الأحداث التي لاتزال وقائعها وما ترتب عنها عالقة بذهني، الإضراب العام الذي شنته نقابة موظفي وزارة الخارجية التابعة للاتحاد المغربي للشغل في شهر دجنبر 1961 في إطار ما كانت تعرفه الساحة الوطنية تلك السنة من صراعات وعراك اجتماعي قوي في عدة قطاعات مثل قطاع البريد وغيره.
لكن النجاح الكبير الذي عرفه إضراب موظفي الخارجية، والذي وصل إلى مايقارب المئة في المئة، أدى إلى رد فعل عنيف من طرف الدولة تجلى في طرد كل الموظفين السامين بالوزارة من مدراء ووزراء مفوضين ورؤساء الأقسام والمصالح وعدد من السفراء كان من أبرزهم على الخصوص الدكتور المهدي بنعبود رحمه الله الذي كان سفير المملكة لدى الولايات المتحدة الأمريكية..
ومن الأحداث البارزة التي عشتها في هذه الفترة كذلك، انعقاد المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية أيام 25 /26 /27 ماي سنة 1962 الذي كان محطة أساسية لتوطيد التنظيمات الحزبية وتقوية الجبهة النضالية في تفاعل منشود بين الجناح السياسي، والجناح النقابي، على صعيد القيادة الحزبية.
وكان من أبرز ما طبع أشغال هذا المؤتمرأن جلسته الافتتاحية كانت برئاسة وقيادة شيخ الإسلام المرحوم محمد بلعربي العلوي، مما أعطى للمؤتمر نكهة خاصة بالنسبة للرأي العام الوطني وفي مواجهة خصوم الاتحاد ومناوئيه.

قنابل بمقر جريدة التحرير

لم تمض على انعقاد المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلا بضعة أشهر حتى عشنا في الجريدة حدثا تراجيديا تعرفه لأول مرة في تاريخ المغرب الحديث جريدة وطنية:ذلك، أن اعتداءً شنيعا بالقنابل تعرض له مقر جريدة Œالتحرير˜ الكائن بمطبعة امبريجيما بزنقة لاكارون بالدار البيضاء في منتصف الليلة الفاصلة بين يوم الخميس 6 والجمعة 7 شتنبر 1962 ،أي غداة الذكرى الثالثة لتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان قد أخذ يتجذر أكثر فأكثر في أوساط الجماهير.
وكانت القنابل التي تمكن الجناة من إدخالها إلى بناية المطبعة في جنح الظلام وبالوسائل التي تستعملها العصابات المتخصصة، هي عبارة. عن قنابل من النوع الأمريكي الذي يستخدم في تحطيم القناطر، وينبعث منها غاز سام قاتل إذا انفردت في مكان مغلق كمقر المطبعة.
ومما يؤكد احترافية العناصر التي أنجزت العملية، أنها وزعت القنابل الثلاث بالشكل الذي يترتب عنه في حالة انفجارها كلها، التدمير التام لكل أدوات العمل بالمطبعة وللجزء الأكبر من البناية بأكملها.

اعتقال بمقر الحزب 1963

كانت هيئة التحرير في الجريدة تتابع ساعة ساعة تطورات محاصرة مقر الحزب دون أن تتجاوز تقديراتها لهذا الأمر أكثر من اعتباره شكلا من أشكال الترهيب في مواجهة مناضلي الحزب وقيادته، وهو على أهبة اتخاذ قرار له أبعاد هامة على الصعيد السياسي.وهذا ما جعلني أفكر في ضرورة الالتحاق بالاجتماع لتتبع المراحل الأخيرة من اتخاذ القرار الحزبي المنتظر بعد أن كنت قد أنهيت مهامي على رأس سكرتارية التحرير وسهرت على دفع العدد الجديد من الجريدة الذي سوف يحمل تاريخ 17 يوليوز 1963 إلى آلة الطبع قصد السحب.
وفعلا، فإني غادرت الجريدة حوالي السابعة عشية قاصدا زنقة الساعة التي ما أن وصلتها حتى اكتشفت بالعين المجردة العدد الكبير من رجال الشرطة الذين يحيطون بالعمارة التي يوجد بها مقر الكتابة العامة ، ولم أتردد لحظة واحدة في اقتحام تلك الجموع والصعود مباشرة إلى القاعة التي ينعقد بها الاجتماع، والتي ما أن دخلتها حتى فوجئت بالأخ عبد الرحيم بوعبيد ينهض من المقعد الذي يجلس به في المنصة ويناديني وهو في حالة من الانفعال والقلق، لما حضرت الآن آسي الصديقي؟ وعندها أحسست بأن الأمر أخطر مما تصورناه ونحن نشتغل في الجريدة لإخراج عدد الغد.
هكذا ، ولم تمض الا أقل من ساعة حتى أقدمت قوات الشرطة على اقتحام قاعة الاجتماعات، وأخذت في دفع المجتمعين نحو أبواب المقر ثم اقتيادهم إلى خارج العمارة، حيث تتواجد العشرات من سيارات النقل البوليسية التي حشر فيها الجميع وتوجهت بهم نحو كوميسارية المعاريف المشهورة.
كان عددنا يتجاوز المئة بقليل. سيق ما يفوق التسعين منا إلى القبو الرئيسي في الكوميسارية بالطابق تحت السفلي، حيث افترشنا الأرض العارية وتفرقنا جماعات جماعات في أرجائها لقضاء ليل طويل. عبد الرحيم بوعبيد أفرج عنه في نفس الليلة، وكذلك المحامي محمد التبر الذي كان قد انتخب برلمانيا باسم الحزب في تشريعات يوم 17 ماي 1963، وأيضا الصحافيان اللذان حضرا لمتابعة أشغال اللجنة، وهم أندري أزولاي مدير تحرير جريدة «ماروك انفور ماسيون» المقربة يومها من حركة التقدمية، والأمريكي طوم برادي.

اختطاف الشهيد المهدي بنبركة

لعل من الغريب أن قضية اختطاف الشهيد المهدي بن بركة من القضايا النادرة التي لم تكتشف لحد الآن الحقائق الكاملة المحيطة بها ولا الإجابة عن كل الأسئلة المتعلقة بها.. من قرر عملية الاختطاف؟“ لماذا“ ؟ماذا جرى بعد الاختطاف؟“ هل قتل المهدي عنوة؟ أم خطأ؟ ما مصير جثته؟“ لماذا كل هذا التستر على الأفعال المرتكبة وتفاصيلها.. وعن المسؤولين عنها؟ وهل ستعرف الحقيقة كاملة في يوم من الأيام؟.. ومن يكون بطل الكشف عن الحقيقة إن ظهرت يوما ما“؟
هي أسئلة كثيرة تجعل من قضية المهدي بن بركة إحدى القضايا الكبرى التي لاتزال عالقة في تاريخ المغرب الحديث.
هناك حدث آخر عرفناه في المكتب خلال نفس الفترة، لكنه حدث صغير وغير ذي أهمية كبيرة“ ومع ذلك فإنه يستحق إشارة ما.
يتعلق الأمر هنا بالزميل أحمد بلحاج الذي كان قد افتتح مع عبد الرحيم بوعبيد مكتب المحاماة المشترك بدايةَ الستينات، بعد أن كان هذا الأخير قد غادر الحكومة، والأول خرج من منصب مدير الشؤون المدنية بوزارة العدل.
ذلك الزميل فوجئنا به يغادر المكتب ذات يوم من أيام شهر نونبر 1965، ودون إشعار مسبق، حتى. أعلنت وسائل الإعلام في الأيام الموالية أنه عين في منصب الكاتب العام للمكتب الشريف للفوسفاط.
وكان من الطبيعي أن يطرح كل واحد منا على نفسه، ومع نفسه فقط، السؤال التقليدي“ وما العمل الآن؟

السجن المؤبد في حق القائد البشير، والإعدام في حق القائد بنحمو

صدر بتاريخ 29 دجنبر1966 الموافق لمنتصف رمضان 1386 الحكم الذي قضى بالسجن والحبس لمدد متفاوتة في حق أغلب المتهمين، وببراءة البعض منهم، وبالسجن المؤبد في حق القائد البشير، وبالإعدام في حق القائد بنحمو.
ومن عجائب الأقدارأن هذا المقاوم الذي حكم عليه بالإعدام في اليومين الأخيرين من سنة 1966 عاش بعد ذلك مدة 52 سنة، ولم يتوف، وهو حر طليق، إلا منذ حوالي أسبوعين من هذا اليوم الذي نجتمع فيه.

كيف كانت المحاماة في تلك الفترة

أذكر في هذا الصدد أنه لم يكن مقبولا من أي محام أو محامية أن يلج المحكمة بالجلباب أو القفطان أو يمشي بالبلغة أو ما شابهها، زيادة على وجوب ارتداء بذلة المحاماة بمجرد الدخول إلى بهو المحكمة.
وفوق ذلك، فإن مجلس الهيئة كان يسهر بصرامة على ندوات التمرين التي كان يشرف عليها النقيب شارل برينو، وكانت تشمل مجموعة من العروض والمناقشات حول الجوانب العملية في ممارسة المهنة، وكذا المشاركة في مباريات تنصب على طرح نوازل هامة عقارية ومدنية على الخصوص، بحيث كان المتمرنون ­ وعددهم لا يتجاوز يومذاك الأربعين أو الخمسين ­ يوزعون على مجموعات، البعض منها يمثل المدعي أو المدعين والبعض الآخر يمثل المدعى عليه أو المدعى عليهم، وعلى كل طرف أن يقوم بإعداد المقالات والمستنتجات، ثم يكون على الناجحين في الكتابي أن يمثلوا أمام مجلس الهيئة الذي يجتمع على شاكلة هيئة حكم ليتقدموا بمرافعاتهم الشفوية، ومن يحالفه النجاح ، يقع عليه الاختيار ليكون كاتب ندوة التمرين، و ليقوم بعد ذلك بإعداد بحث في أحد الموضوعات الهامة، قانونيا أو مجتمعيا، ليقع تقديمه في افتتاح ندوة التمرين التي تنظم سنويا في حفل رسمي يحضره وزير العدل ورجال السلطة القضائية.

في مكتب المرحوم عبد الرحيم بوعبيد

بالرغم من أني أنهيت فترة التمرين بتاريخ 29 نونبر 1966، لم يطرح علي أمر افتتاح مكتب خاص بي لأنه كان هناك نوع من التوافق التلقائي بيني وبين الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد لأستمر في العمل معه في نفس المكتب. وقد امتدت هذه الوضعية إلى بداية سنة 1970، التي اقترح علي فيها أن أصبح شريكا له بالتساوي ودون أي مقابل من جانبي إلا ما كان من عملي.
وبالنسبة للوضعية المهنية العامة في هذه الفترة، فإنه كان يطبعها نوع من الانتعاش والتفاؤل خاصة على ضوء الآفاق التي فتحها قانون مغربة وتوحيد وتعريب مرافق العدالة إعمالا لمقتضيات القانون الذي صادق عليه البرلمان قبل تعطيله ببضعة شهور، وبالضبط في شهر يناير 1965
وبالفعل، فإن هذا التطور الذي عرفه قطاع العدل في بلادنا بعد سنة 1965 فتح آفاقا جديدة وواعدة بالنسبة للمحامين المغاربة الذين أخذوا يتوافدون على المهنة تباعا، بعدما كان أغلب المحامين الممارسين قبل ذلك من الأجانب، وكانت أهم المنازعات تحتضنها مكاتبهم.
أما بالنسبة لمكتبنا، فإنه لم يتأثر بالوضعية الجديدة، ولم يستفد منها كثيرا، باعتبار أن المتقاضين الذين كانوا يتوافدون عليه لم يتغير منهم شيء، مع الأخذ بعين الاعتبار كذلك أن المكتب كان ملجأ للعديد من المواطنين، الذين كانوا يجدون فيه ملاذا لهم، مما كانوا يعانون منه من مظالم خاصة ما يتعلق بالاعتقالات التعسفية والانتهاكات التي لم تكن تخلو منها أي جهة من الجهات.
وعلى ذكر الاعتقال التعسفي، فإن أول قضية من هذا النوع حضرتها إلى جانب الأستاذ بوعبيد بعد انتهاء فترة التمرين، هي القضية التي توبع فيها الكاتب العام للاتحاد المغربي للشغل أمام محكمة السدد بالرباط صيفَ سنة 1967 على إثر البرقية التي وجهها إلى المرحوم الحسن الثاني احتجاجا على الوجود الصهيوني بالمغرب، في الوقت الذي كانت فيه الدول العربية تواجه العدوان الإسرائيلي، وهي المتابعة التي انتهت بالحكم بإدانته ومعاقبته بسنة واحدة حبسا نافذا فيما أذكر.

قضية أطلس محمد بلحاج ومن معه

القضية السياسية الثانية التي ساهمت في القيام بمهمة مؤازرة ثلاثة متهمين فيها من بين سبعة عشر منهما، فهي القضية التي كنت معروفة بقضية اطلس محمد بلحاج ومن معه التي عرضت أمام محكمة الجنايات باقليمية الرباط، بناء على قرار الإحالة الصادر عن غرفة الاتهام بمحكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 16 فبراير 1967 والذي قضى بإحالة المتهمين على المحكمة المذكورة لمحاكمتهم بتهم تدبير مؤامرة، الغاية منها الاعتداء على شخص جلالة الملك وبعض أعضاء الحكومة، والمس بأمن الدولة الداخلي والمشاركة.
وكان قرار الإحالة هذا قد ارتكز فيما انتهى إليه على محاضر الضابطة القضائية التي جاء فيها أنه تم اعتقال اطلس محمد حوالي العاشرة من مساء يوم 24 اكتوبر 1963 بمدينة مراكش، وهو يحمل حقيبة تبين عند فتحها أنها تحتوي على مفرقعتين ومسدسين، وأن المرفقعتين كانتا ستستعملان لاغتيال الملك عند أداء صلاة الجمعة داخل المسجد أو أثناء مرور الموكب الملكي، كما أن المسدسين كانا سيستعملان لاغتيال أوفقير وكديرة.
وقد جرت مناقشة القضية خلال جلسات متوالية امتدت من 27 نونبر 1968 إلى 13 يناير 1969 تمسك أثناءها المتهمون بنفي ما نسب إليهم من اتهامات، كما تمكن الدفاع من تفنيد الادعاءات الواردة في الخلاصات التي تضمنتها تقارير الضابطة القضائية.
لكن محكمة الجنايات بالرباط، ذهبت إلى تبني هذه الخلاصات كما وردت في المحاضر، وقضت بالإعدام في حق كل من أطلس محمد ومحمد بنسعيد الشتوكي وعبد الفتاح سباطة ولحسن زغلول، حضوريا بالنسبة للأول، وغيابيا بالنسبة للآخرين، كما قضت بعقوبات سجنية متفاوتة في حق أحد عشر و بتبرئة متهمين اثنين.

مؤازرة الضباط والجنود

لكن مهمة أخرى كانت تنتظرنا مع حلول صيف 1971 حيث كان علينا أن نتجند طيلة أيام متوالية لإعداد قرارات تعيين المحامين في إطار المساعدة القضائية للقيام بمؤازرة المئات من الضباط والجنود الذين أحيلوا على المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية عقب اعتقالهم في أحداث محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها يوم العاشر من يوليوز 1971 مجموع من كبار ضباط الجيش بقصر الصخيرات بضواحي الرباط، والتي كانت تشكل لو نجحت، خطرا حقيقيا على استقرار البلاد ونظامها ومستقبلها.
على أن تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة كانت لها آثار أخرى على مستوى مرفق القضاء في البلاد، ذلك أن شهر غشت 1971 وما بعده، شهد حملة مركزة ضد بعض أعمدة هذا المرفق، في إطار الحملة الرسمية التي شنت ضد جرائم الرشوة واستغلال النفوذ، وصاحب ذلك عدة تغييرات وتعديلات في المناصب، وبعض التوقيفات، والتهديد بالمتابعات، إلى جانب حملة من التشهير ببعض المحامين لنفس الأسباب.

إعدام كل المحكوم عليهم رميا بالرصاص

كلفت بمؤازرة كل من الملازم عبد القادر زياد والرقيب الأول الطاهر البحراوي، وهو ما قمت به فعلا خلال الجلسات التي عقدتها المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية بمدينة القنيطرة من تاريخ 17 أكتوبر 1972 إلى تاريخ 7 نونبر 1972 الذي صدر فيه الحكم بإعدامهما معا إلى جانب تسعة من باقي المتهمين الرئيسيين.
ولعل من الجدير بالاشارة هنا، أن الأستاذ أحمد رضا اكديرة الذي كان قد عاد إلى ممارسة المحاماة في تلك الفترة، تنصب في القضية للدفاع عن الملازم بوخاليف حميد، وتقدم لفائدة بالتجريح في أحد أعضاء المحكمة وهو العقيد أحمد الدليمي طالبا تجريده من صلاحية الاشتراك في هيئة الحكم لكونه قام بعمل من أعمال التحقيق في الدعوى، لكن المحكمة قضت برفض هذا الدفاع لأن الدفاع لم يثبت أن القاضي المطعون فيه بالتجريح تولي القيام بأي بحث في القضية من قبل.
وبالفعل، فإن أحد الزملاء، الذي كان ينوب في الملف كذلك، استدعاني مع زميلين آخرين إلى بيته للعشاء في تلك الليلة، حيث بقينا في انتظار أن تلتحق بنا إحدى سيارات السلطة العسكرية التي حملتنا في الساعة الثالثة من صباح اليوم الموالي إلى السجن المركزي بالقنيطرة، حيث تم الاتصال بالمعتقلين وفق الإجراءات المقررة بمقتضى قانون المسطرة الجنائية، ثم غادرنا المؤسسة السجنية إثر ذلك نحو إحدى التلال المتواجدة بنواحي مدينة القنيطرة، حيث جرى إعدام كل المحكوم عليهم بالإعلام رميا بالرصاص.
وأذكر أني عندما رجعت إلى منزلي حوالي الساعة التاسعة والنصف من صباح ذلك اليوم وأنا في حالة إنهاك شديد، جسديا ونفسيا، بادرت إلى الاتصال عبر الهاتف بالأستاذ عبد الرحيم بوعبيد في منزله لأحكي له معاناتي في ليلة الجمعة ­ السبت فوجدته في حالة أسوأ وهو يبلغني ما تعرض له أخونا محمد اليازغي عندما انفجر بين يديه طرد ملغوم تسلمه في ذلك الصباح نفسه.


الكاتب : إعداد: مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 18/01/2020