اليوسفي رجل التوافقات الهادفة والحوار الهادئ

من عاشر واشتغل بجانب الأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي لابد من أن يكتشف ويقر بأنه أمام رجل دولة استثنائي، ومع إنسان رائع بكل المقاييس، وبجانب رفيق وفي، وصديق صادق، وأخ مخلص.
اليوسفي رجل دولة استثنائي

لقد أتاحت لي حياتي المهنية، لاسيما منذ شهر مارس 1998 ، بداية ممارستي لمهامي بالوزارة الأولى كمستشار للأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي مكلفاً بالقطب الاجتماعي، أن أتعرف عن قرب على ثلة من الشخصيات الوطنية، ومن مسؤولي الدولة الكبار، ومن زعماء سياسيين، وأمناء عامين لمركزيات نقابية، وموظفين سامين، وفعاليات مدنية، إما من خلال مباشرتي معهم الملفات التي كنت مكلفاً بتدبيرها، أو إبان مواكبتي للأنشطة التي يترأسها السيد الوزير الأول، أو عند مرافقتي له في بعض المهام التي قام بها داخل وخارج الوطن.
واللافت للانتباه عند معاينة الجوانب المتعلقة بشخصية الأستاذ اليوسفي كمسؤول، وكزعيم سياسي، وكشخصية وطنية هو أننا أمام رجل دولة استثنائي بكل المقاييس.
فالرجل جمعت فيه خصال قل نظيرها، تظهر أننا أمام مسؤول من طراز عال وزعيم مميز، وشخصية رفيعة. فالأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي سياسي محنك، سماته البارزة الحكمة والتبصر . كتوم و معتدل لكن صلب في مواقفه، متزن لكنه عميق في تحاليله.
فالاعتدال والاتزان بالنسبة إليه مكونات لمنهجية واحدة هدفها الأساس الوصول إلى الأهم، أي إلى ما هو استراتيجي وجوهري، انطلاقاً من إخضاع وقائع الأمور إلى التقييم الموضوعي لموازين القوى سواء مع القصر، أو مع الشركاء السياسيين، سواء أكانوا أصدقاء، أم حلفاء، أم منافسين.
وذلك جعل منه رجل التوافقات الهادفة بامتياز، بتفضيله أسلوب الحوار الهادئ، والمسؤول المرسي على بناء تعاقد أخلاقي، وسياسي مع مخاطبيه، قوامه بناء الثقة معهم، والإيمان بسمو قضايا الوطن ومصالحه العليا، كما حدث هذا مع جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني، ومع وارث عرشه جلالة الملك محمد السادس، وكذا مع شركائه في الكتلة الوطنية الديمقراطية، مساهماً بهذه المنهجية في عملية التناوب الحكومي، وفي الانتقال المؤسسي التاريخي السلس بين ملكين، وفي موافقته على استمرار حزبه تحمل المسؤولية في حكومة إدريس جطو، رغم خروج تجربة التناوب عن « المنهجية الديمقراطية».
ولعل هذه المواقف نابعة من حرصه على الاحتكام إلى منطق المؤسسات والقانون، ومن إيمانه الصادق بضرورة وضع مصلحة الوطن قبل مصلحة الحزب، علماً بأن الأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي رجل مسكون بحزبه وبهويته الاشتراكية، حتى بعد اتخاذ قرار الاعتزال عن السياسة.
وفي هذا الباب، لابد من الإشارة والإشادة بأن الأستاذ اليوسفي كزعيم سياسي، وشخصية وطنية لا مكان في سلوكاته الاجتماعية اليومية، وفي ممارسته للسياسة في مفهومها النبيل للأساليب المبنية على النفاق، والمراوغة، والمناورة، والضرب من الخلف، والنميمة، والدسائس، والعدوانية السياسوية في تمظهراتها غير اللائقة أخلاقياً وأدبياً وإنسانياً. جوابه وتعامله مع أصدقائه وغير أصدقائه الذين يختلف معهم في الرأي، كما مع منافسيه، إن لم أقل أعدائه، لأنني لا أعرفهم، يتمثل دائم اً في الإنصات الهادئ لأطروحاتهم ومواقفهم دون انفعال أو سلوك عدواني . وعندما يحتدم الخلاف معهم ويصل إلى مرحلة اللاعودة وإلى القطيعة، فإما أن يخاطبهم بأنهم أحرار في خياراتهم، وإما أن يفضل كما هو الغالب مواصلة مساره بهدوء كما يمليه عليه ضميره وإيمانه بصحة نظرته وتقديره للأمور، وبصواب مواقفه وقناعاته وقراراته.
لكن خصال اليوسفي كرجل دولة استثنائي تكمن في جوانب أخرى من شخصيته، فمن اشتغل بجانبه لابد من أن ينبهر بالطاقة الكبيرة على العمل التي تميزه، حيث إنه رغم تقدم سنه ووضعيته الصحية المعروفة لدى الجميع، باستطاعته حضور اجتماع، وعقد جلسة عمل، وتسيير مجلس حكومة، ولجان وزارية، وتأطير ندوات حزبية ساعات طوال دون ملل، وتعب، وراحة طويلة، وحين يحصل أن يغادر القاعة بشكل مفاجئ بسبب توصله بمكالمة هاتفية هامة ومستعجلة تستدعي ذلك، سلاحه في ذلك «حبة شكولاطة» عند الاقتضاء، وهذا لسبب صحي فقط لا علاقة له بالملل والتعب.
ولقد روت لي زوجته الفاضلة المحترمة السيدة إلين أن الوتيرة المذهلة التي كان يشتغل بها إبان تحمله مسؤولية الوزارة الأولى شكلت مبعث قلق حقيقي بالنسبة لوضعيته الصحية، حيث روت لي أن «عبد الرحمٰن»، كما تناديه، كان يومياً يعتكف في مكتبه حتى أوقات متأخرة في الليل لدراسة الملفات، وإعداد الخطب، ومراجعة الكلمات والمذكرات التي كان يعدها له مستشاروه. وقليلاً ما كان ينام قبل الثالثة صباحاً ليستيقظ غالباً في الساعة الخامسة صباحاً.
لكنها تضيف أنه كان ينام، من حسن حظه، بسرعة ولو بضع ساعات عادة ما كانت كافية بالنسبة إليه لاسترجاع كامل قواه. ففضلاً عن تحمله لحجم وتيرة اشتغال استثنائي، كان للأستاذ اليوسفي قدرة مذهلة على استيعاب الملفات على كثرة مواضيعها، ونوعيتها اقتصادية، اجتماعية، سياسية، دبلوماسية، ثقافية أو دينية، سواء أكانت ذات أبعاد محلية، أو وطنية، أو عالمية، ومهما كان مصدرها الديوان الملكي، أو وزارات السيادة، أو الإدارات العامة للدولة، أو المؤسسات الجهوية والدولية.
وفي هذا الشأن، أظهر الأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي مميزات عالية في المجال الدبلوماسي وفي تدبير العلاقات الدولية للوزارة الأولى. ذلك أن المرء يكتشف مهارات الرجل المتميزة في التحليل، وإبلاغ الرسائل الكبرى، والدفاع الذكي والحضاري عن القضايا الوطنية ذات الأولوية، والتوازن المرن بين مقدمات وخواتم الكلام، والتحكم في الزمن، دون إهمال الجوانب التي لا تقل أهمية، بل هي أحياناً جوهرية، والمتمثلة في الاحترام التام والمرن لقواعد البروتوكول، وتفاصيل الاستقبالات، منذ وصول الزوار حتى مغادرتهم . كنا دوماً نحن مستشاروه فخورين ومعجبين في الآن نفسه، ونحن نستمع ، في نشوة وسعادة حقيقيتين وتامتين ، لوزيرنا الأول الأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي وهو يقدم ويشرح ويحلّل ويناقش نظراءه الوزراء الأولين، وضيوفه من المسؤولين السامين عن المؤسسات الدولية والإقليمية، والشخصيات السياسية الأجنبية بمهارة ممزوجة بأناقة ونظرات عميقة تتخللها ابتسامات طبيعية بعفويتها وتلقائيتها وصدقها.
دهاء، وذكاء، وبلاغة، وعمق في التحليل، وحرص دؤوب على الدفاع عن مصالح الوطن، تلكم سمات هذا البعد الدولي من خصال الرجل.
وفوق هذا وذاك، فإن ما يثير الانتباه والاهتمام إلى حد الحيرة هو سعة الصدر اللامتناهية للأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي في تحمل النكسات والصعاب، وفي تدبير التناقضات دون البوح بها، ودون الإفصاح بأصلها، ومضامينها، وتمظهراتها. فهذه القدرة على استيعاب وهضم انعكاسات النكسات والصعاب والمتناقضات تقوي مناعته، تيسر له اختصار المسافة في احتواء مخلّفاتها، فضلاً عن كونها غالباً ما تمكنه في آخر مطافه من أخد مسافة معها . ولقد أظهر التاريخ أنه كان على صواب في التحلي بهذا السلوك المطبوع بالحكمة والتبصر، وبعد النظر؛ مما زاد من شعبية مسار هذا الرجل الاستثنائي لدى عامة المواطنين والمواطنات، ولدى النخب السياسية بجميع مكوناتها ومشاربها.
ولعل أجمل وأنبل وأروع دلالة لهذا الاعتبار والاحترام والاعتراف والتقدير هو ما ناله مسار هذا الرجل من خلال العناية الملكية الخاصة والمبادرة السامية، من جهة حين ترأس جلالة الملك محمد السادس فعلياً ، يوم السبت 30 يوليو 2016 ، بمناسبة الذكرى السابعة عشر ة لعيد العرش، مراسم تدشين شارع رئيسي بمدينة طنجة، مسقط رأس الأستاذ اليوسفي، يحمل اسمه . وبهذا الصدد، فلقد كان لافتاً للنظر أن جلالة الملك وجه للأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي دعوة للحضور شخصياً بجانب جلالته في مراسم هذا التدشين؛ وهي التفاتة ملكية تحمل رسائل على أكثر من مستوى وإلى جهات عدة . ومن جهة أخرى، حين تفضل جلالة الملك وأطلق على فوج الضباط المتخرجين اسم «الأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي»، وذلك يوم 30 يوليوز 2019 بمناسبة الذكرى العشرين لعيد العرش حيث جاء في خطاب جلالته السامي:
«الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه،

معشر الضباط

يسعدنا أن نستقبلكم اليوم، لأداء القسم أمام جلالتنا، بصفتنا القائد الأعلى، ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية؛ وذلك بعد ما وفرناه لكم من تكوين حديث ومتكامل، وما اكتسبتموه من كفاءات ومؤهلات. وقد قررنا أن نطلق على فوجكم، اسم الأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي، الذي يتقاسم مع والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، ومع جلالتنا، نفس المبادئ الثابتة؛ في حب الوطن، والتشبث بمقدسات الأمة، وبالوحدة الترابية للمملكة، والدفاع عن مصالحها العليا.
وإننا نعتز بما يجمعنا به شخصيا، من روابط قوية ووطيدة، وعطف خاص متبادل.
فكونوا، رعاكم لله، في مستوى ما يجسده هذا الاسم، من معاني الاستقامة والالتزام،
والثبات على المبادئ، والغيرة الوطنية الصادقة؛ أوفياء لشعاركم الخالد : الله، الوطن،
الملك. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.»
وإذا كانت هذه هي خصال الأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي كرجل دولة استثنائي، فإن ملامح شخصيته كإنسان وكرفيق جديرة بالإشادة كذلك.
اليوسفي الإنسان

من عاشر الأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي لابد من أن يشعر بأنه محظوظ لكونه تعرف في حياته على إنسان استثنائي في كل شيء، ولاسيما في الصداقة المخلصة والأخلاق الإنسانية النبيلة.
فالأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي يحمل بالفعل قيماً عنوانها الصدق، والإخلاص، والوفاء، والتضامن، والثقة في أخواته وإخوانه في الحزب، وفي أصدقائه، ومستشاريه ممن يبادلونه هذه القيم، وكل هذا ممزوج بحس اجتماعي قوي.
فهو شخص ذو نزعة إنسانية، سموح، قنوع، متواضع، متعفف في كل شيء، صارم بالمفهوم النبيل للصرامة في مجال التدبير النزيه والترشيد الأخلاقي للمال العام .
وفي هذا الباب لن أنسى أبداً كيف أنه كان دوماً حريصاً كوزير، بعد رجوعه من مهمة خارج الوطن، على مناداة المدير الإداري والمالي بالوزارة الأولى، زميلنا زين العابدين بن يوسف لجلسة عمل، وذلك لتسليمه ما تبقى لديه من عملة صعبة لم يتم استعمالها خلال هذه المهمات، في إشارة قوية وعفوية مغزاها نشر قيم الحكامة الرشيدة والاستقامة والنزاهة والشفافية والمحاسبة في تسيير مصالح الوزارة الأولى، اقتداء بمبدأ الحكامة المسؤولة، والتدبير الجيد من خلال النموذج.
ولا يمكنني أن أنهي هذه الشهادة دون ذكر جانب آخر يعبر عن روعة هذا الرجل. فالأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي لا يمكنك أبداً أن تقضي معه لحظة، مهما كانت مدتها، دون مرح وتجاذب مشترك لما جد من نكت وأحداث مثيرة تبعدك عن مناخ الاجتماعات الرسمية، خالقاً بهذا أجواء الانشراح والمتعة، ومقوياً الرابط الاجتماعي مع الأقرباء والأصدقاء.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي له شغف حقيقي ممزوج بتقدير لافت لأهل الفن والإبداع، ذلك أنه يحرص دائماً وكل ما أمكنه وقته على الحضور المنتظم لمعارض الفنانين التشكيليين، ولمسرحيات الرواد، ولمنتديات الشباب، ولأنشطة المجتمع المدني.
وفي مجال آخر، فإن الأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي له ولع كبير بنشاط ترفيهي يحتل مكانة خاصة لديه، ذلك أنه يواظب يومياً على ممارسة هوايته المفضلة ألا وهي رياضة المشي ، فضلا عن حبه الاحتفاء بأقربائه وأصدقائه في مطاعم العاصمة الاقتصادية التي يحرص شخصياً على اختيارها.
ومسك ختام هذه الشهادة هو في حق إنسانة توازي روعتها قيمة هذا الرجل الاستثنائي، إنها رفيقة حياته، الفاضلة المحترمة إلين . فالسيدة إلين تجسد بحق المقولة الشهيرة» إن و راء كل عظيم امرأة «، حيث جمعت في هذه المرأة خصال عديدة ومميزات كثيرة مستمدة من القيم المشتركة التي يتقاسمانها.
وما من شك في أن إلين هي سر نجاحات الأستاذ اليوسفي الزوج، ومصدر ديمومة مناعته ضد الصعاب، ومبعث قوة إيمانه بجدوى ما ناضل من أجله طيلة حياته ومازال، منذ منفاه حتى رجوعه إلى أرض الوطن وتحمله لمسؤولياته الحزبية والحكومية.
هذا هو الأستاذ عبد الرحمٰن اليوسفي كما عرفته، وعاشرته، واشتغلت بجانبه، وواكبته في مرحلة هامة من مسيرة حياة غنية و مليئة، كرسها للمساهمة في بناء مغرب الاستقلال والتحرير، مغرب دولة الحق والقانون، والمؤسسات، مغرب التضامن، والعدالة الاجتماعية، مغرب التنمية والحداثة والديمقراطية، مغرب التنوع الثقافي واللغوي، مغرب التسامح والانفتاح والحوار بين الحضارات والأديان والثقافات الإنسانية، مغرب عربي، أمازيغي، إفريقي، متوسطي، متشبع بالإسلام المنفتح على العصر، والمثرى بروافده الحسانية والأندلسية والعبرية، وكلها قيم، ومبادئ سياسية، وجيوستراتيجية، وتنموية كرسها دستور المملكة الجديد.

 

 

 

 


بتاريخ : 05/02/2020

أخبار مرتبطة

بمشاركة 1500 عارض من 70 بلدا تتقدمهم إسبانيا كضيف شرف   انطلقت أمس بساحة صهريج السواني بمكناس فعاليات دورة 2024

يرى خالد السراج، عميد كلية الطب والصيدلة بوجدة، أن ما تم تحقيقه اليوم بالنسبة للمسار التكويني الممهد لممارسة مهنة الطب،

بكثير من الانشغال، عبّر الأستاذ سعيد المتوكل، وهو يلتقي «الاتحاد الاشتراكي» حين إنجاز هذا الملف، عما يؤرق باله ويختلج صدره

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *