اليوسفي ومحاولات «الاتحاد» لبناء المغرب العربي

إذا كانت عدة مظاهر من حرب الرمال سيئة الذكر لسنة 1963 مازالت بحاجة للتوضيح، فمع ذلك يمكن أن نسجل لصالح بن بلة: إخلاصه الأيديولوجي للقوات الشعبية المغاربية، وإرادته السياسية، انطلاقا من 1964 في التعايش مع الدول المغاربية ومحاولة بناء «المغرب العربي الممكن» معها.

 

أدرك اليوسفي وزملاؤه في الحركة الوطنية المغاربية أن فرنسا كانت ترمي من وراء “القوة الثالثة” إلى دحض فكرة الوحدة بالمنطقة المغاربية، وإلى عزل الجزائر عن محيطها، والحؤول دون تحقق البناء المغربي المندمج والمتكامل.

 

ظل بناء المغرب العربي “بهجة ضائعة”. كان الفقيد عبد الرحمان اليوسفي يتطلع، دائما، إلى إعادة تشغيلها، كما حلم بها قادة الوطنية وزعماء التحرير المغاربيون. وظل يؤمن بأن القوة الثالثة التي جيء بها لتسهر على “تنفيذ الاستقلال”، كانت تريد أن يظل كل شيء في مكانه الطبيعي، وأن يظل المستعمر هو المسؤول عن طلاء الأسود بالألوان البراقة؛ هذا ما استعرضه الرجل في بروكسيل، حين اعتبر أن الحكومة الفرنسية كانت تهدف من وراء التفاوض مع “شخصية مستقلة”، إلى ضرب وحدة المعسكر الوطني الذي تشكل منذ الثلاثينيات، وهو الجناح المكون من الحركة الوطنية (الاستقلال) ومؤسسة العرش (الممثلة في شخص محمد الخامس)، وذلك من أجل الحيلولة ضد أي استقلال حقيقي للبلاد وتأخير جلاء القوات العسكرية للاحتلال (القوات الفرنسية والأمريكية والإسبانية)، وكذا إبطاء عملية بناء المغرب العربي ودعم الثورة الجزائرية وعرقلة بناء اقتصاد وطني حر، وخلق حياة ديمقراطية يساهم فيها بفعالية المناضلون المنتمون إلى الحركة الوطنية والشرائح الشعبية بقطع الطريق على ذيول الاستعمار والانتهازيين والخونة”.
لقد أدرك اليوسفي وزملاؤه في الحركة الوطنية المغاربية أن فرنسا كانت ترمي من وراء “القوة الثالثة” إلى دحض فكرة الوحدة بالمنطقة المغاربية، وإلى عزل الجزائر عن محيطها، والحؤول دون تحقق البناء المغربي المندمج والمتكامل.
كان مشروع البناء المغاربي حاضرا عند الزعماء، من خلال العمل الوحدوي الكفاحي المشترك بين الدول المغاربية، سواء على المستوى السياسي أو من خلال التنسيق بين خلايا المقاومة وجيوش التحرير. فمنذ الحرب العالمية الثانية بدأت تظهر عدة جمعيات تحمل بذرة الوحدة ك»جمعية نجم شمال إفريقيا» وجمعية «طلبة شمال إفريقيا المسلمين».
خلال أربعينيات القرن الماضي، انتقل العمل الوحدوي من المطالبة بالإصلاحات إلى المطالبة بالاستقلال، بظهور بعض الهيئات واللجان التي عملت على التعريف بالقضية المغاربية ك»مكتب المغرب العربي بالقاهرة» و»لجنة تحرير المغرب العربي»، وعلى المستوى الشعبي ازداد الوعي المغاربي إثر حادثة اغتيال فرحات حشاد، حيث خرجت العديد من المظاهرات الاحتجاجية في المدن المغاربية، واصطدمت بقوات الاحتلال الفرنسية، كما تميزت فترة الاستقلال بدعم المغرب وتونس الحديثي الاستقلال للقضية الجزائرية عبر حدثين مهمين: الأول هو زيارة الملك محمد الخامس لتونس والثاني هو مؤتمر طنجة التاريخي والذي «يعتبر أهم محطة في العمل الوحدوي».
كان اليوسفي قد كتب أثناء حديثه عن جهود تحقيق البناء الجزائري: «العمل من أجل بناء المغرب العربي»، من هي الحكومة أو رجل السياسة الشمال إفريقي الذي لم يرفع هذا الشعار إلى درجة تحويله إلى عقيدة سياسية؟ من هنا فإن القول بالتالي، أن رجل الدولة هذا أو القائد الفلاني هو أكثر مغاربية من الآخرين، أمر يستعصي على القبول. بل الأكثر من هذا، أن أقل فحص للمشروع المغاربي يكشف للأسف، تدهور حظوظ تحقيقه منذ إعلان الاستقلال و استقرار «النخب المغاربية» في السلطة. ومن هنا يبدو ، من الانحياز، القول بأن بن بلة كان مغاربيا ملتزما. عناصر هذه الشهادة مأخوذة بشكل كبير من المظاهر الملموسة للتوجه المغاربي لابن بلة سواء في كتاباته أو في خطبه. أليس هذا هو معيار التحقق من جميع الدعوات المغاربية التي سُقيت بها شعوبنا طويلا؟ باعتبارها أساسا نوعا من الجمعية أو الزواج، وإن «مؤسسة المغرب العربي» تتطلب، من أجل تحقيقها، شركاء ذوي نفس الأهداف. ولم يتمكن بن بلة من البرهنة على مغاربيته سوى بقدر تمكنه من وضعها بالاشتراك مع شركاء يعملون في البلدان الأخرى من شمال إفريقيا. وهذه الشهادة التي أتقدم بها تقتصر على المجال الجزائري- المغربي. من المهم التأكيد أيضا على أن بن بلة الذي نتحدث عنه في هذا السياق، ليس هو بن بلة الحالة المدنية، لكنه بن بلة الذي كان شخصية مهمة، «ذا موقع» في القيادة الجماعية لجبهة التحرير الوطني، زعيم تيار معين، كان في وقت من الأوقات يشكل «القاطرة» . لهذا من الملائم في تقديرنا للخط المغاربي لبن بلة، إشراك رفاقه (خيضر، بوضياف، أيت احمد) وكذا عدد كبير من مناضلي وقادة جبهة التحرير المتشبثين بالمصير المغاربي الكبير”.
وتابع الفقيد: “إذا كان الأمراء الذين يحكمون إفريقيا الشمالية لا ينُون يرددون شعار «ضرورة بناء المغرب العربي»، فلأنهم يعلمون بأن شعوبنا تعتبر أن الدرس الكبير الذي أخذته من الاستعمار كما من مكافحته، هو أن الرد على تحديات التخلف والاستعمار الجديد، يكمن أساسا في العمل المشترك داخل مغرب عربي ديمقراطي و عادل. فمن أجل هذا المبدأ، التقت قيادة جبهة التحرير الوطني، بزعامة بن بلة، و قيادة حركة المقاومة المغربية ( المنبثقة أساسا من صفوف حزب الاستقلال والتي ستشكل فيما بعد نواة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ثم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية). ومنذ 1954، أعطى قادة حركتي التحرير لتعاونهما شكلا أكثر توحدا وانسجاما مع مرور الزمن: هيئات ثنائية للتنسيق، بنيات مشتركة للتمثيل في الخارج والتموين والإعلام والتكوين. وتم اتخاذ عدة قرارات كبرى بشكل مشترك، متبوعة بالتطبيق في مجموع ترابي البلدين، بهدف سياسي وبيداغوجي يتغيا توعية الشعبين الجزائري والمغربي بمصيرهما المشترك. ولنذكر في هذا السياق حدث عزل محمد الخامس عن عرشه (20 غشت 1953) إذ أن المظاهرات الشعبية و العمليات الفدائية التي ميزت الاحتفال بالذكرى الثانية لهذا الخلع، عمت مختلف مدن وقرى الجزائر والمغرب، كما أن التضحيات التي قدمها المقاتلون والسكان في البلدين معا لم تكشف فقط عن عمق التضامن المغاربي، ولكنها شكلت أيضا منعطفا حاسما في تسريع مسلسل تحرير البلدين. فبعد ستة أسابيع على ذلك، قام علال الفاسي باسم المقاومة المغربية، ومحمد خيضر باسم جبهة التحرير الوطني الجزائرية، في ندوة صحفية مشتركة بالقاهرة، بالإعلان عن تشكيل جيشي التحرير الجزائري والمغربي وانطلاق العمليات العسكرية، في فاتح أكتوبر بالريف وبمنطقة وهران”.
وأكد عبد الرحمان اليوسفي أن تأثير مثل هذه الأحداث كان كبيرا، إذ «انطلقت ظاهرة بلورة المغرب العربي… وعلى عكس ما كان يتمناه البعض من إضعاف للتضامن المغاربي، بعد استقلال كل من المغرب وتونس، شكل هذان الحدثان في الواقع مساهمة جديدة في تطور تحرير المغرب العربي. إذ أن إخفاق المباحثات شبه الرسمية بين جبهة التحرير الوطني والشعبة الفرنسية للأممية الاشتراكية، (الحزب الحاكم في فرنسا)، وتشدد الحزب الكولونيالي بعد تأميم قناة السويس، وانكشاف أوهام الاستقلال المغربي والتونسي، كلها عناصر استفاد منها فريق بن بلة كي يحصل من المسؤولين المغاربة والتونسيين على الموافقة على عقد مؤتمر قمة للمغرب العربي في 22 أكتوبر 1956 بتونس.
«وإذا كان اختطاف الطائرة التي كانت تقل على متنها بن بلة و رفاقه (بأمر رسمي) يوم 22 أكتوبر 1956، قد أجهض مؤتمر القمة هذا، فإنه لم يتمكن من إخماد “روح 20 غشت 1955” في مجموع إفريقيا الشمالية.
وستحمل ردود الفعل الفرنسية على هذه الموجة التضامنية المغاربية، أسماء مثل “ساقية سيدي يوسف” و عملية “إيكوفيون»… إلخ. وطيلة مدة اعتقاله المديدة (1956 ـ 1962) بفرنسا، ظل بن بلة وفيا لفكرة المغرب العربي. فالآراء التي كان يوجهها للمسؤولين الآخرين في جبهة التحرير الوطني كانت تندرج دائما في هذا المنظور، رغم ما لوحظ من «تخل» عند عدد من زعماء إفريقيا الشمالية عن الفكرة… ولم ينعقد مؤتمر طنجة للمغرب العربي في أبريل 1958 (الذي أقلق المسؤولين الفرنسيين بالجزائر وساهم في الإطاحة بالجمهورية الرابعة الفرنسية) إلا على مستوى الأحزاب السياسية الثلاثة المؤثرة (الدستور الجديد، جبهة التحرير الوطني وحزب الاستقلال)، وبعد إعداد نشيط بفضل العناصر الأكثر “مغاربية» والأكثر «بن بلية» في حزب الاستقلال».
وينقل اليوسفي حقيقة المزاج الذي كان سائدا لدى قيادة جبهة التحرير الوطني الجزائري سنوات بعد مؤتمر طنجة بقوله: “في إطار الرحلات المكوكية التي كنت أقوم بها بين مكان اعتقال بن بلة وأمكنة منفى رفاقه الآخرين، سجلت خلال محادثة لي مع عضو مهم في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الرسالة التالية: «قل لسي احمد بأن المغرب العربي لن يتحقق غدا. فإذا كان المغاربة قد حافظوا على مظهر الدولة، حتى وهم تحت الحماية، فإننا نحن الجزائريون، بحاجة لفترة من الزمن كي نرى رايتنا ترفرف ونسمع نشيدنا الوطني ونتفرج على طقوس بروتوكولنا الرئاسي…» إطلاق سراح بن بلة في نفس الوقت الذي استقلت فيه الجزائر، أثار الأمل والحذر في نفس الآن. فهل سيعطي زخما جديدا لفكرة المغرب العربي الأساسية كما فعل ذلك ما بين سنتي 1954 و 1956؟”
يقول اليوسفي جوابا عن ذلك “الواقع، أن جبهة التحرير الوطني كانت تستعد آنذاك لتحمل مسؤولية الحكم في الدولة الجزائرية الجديدة، ولم تعد تمنح شعار “المغرب العربي” نفس المكانة التي كانت له في السابق. انتظر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية استقلال الجزائر كي يعقد مؤتمره الثاني في ماي 1962 آملا أن يتخذ الحزبان الشقيقان الآخران خيارات مشابهة، تشكل امتدادا للخيارات التي وجهت كفاحها التحريري. هكذا تبنى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية «المغرب العربي كإطار للتنمية». وسعى إلى نوع من التشاور مع المجموعة التي كان يرأسها بن بلة والتي كلفتها هيئات جبهة التحرير الوطني بتحرير مشروع ميثاق طرابلس”.
وذكر اليوسقي أن رئيس المجموعة أبلغه بأن مثل هذا الاختيار يعتبر سابقا لأوانه بالنسبة لحزبه، كما تقدم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية باقتراح لتسوية النزاع الجزائري- المغربي الموروث عن الاستعمار: عبر تجاوز الخلافات الحدودية من خلال الاستغلال المشترك للموارد المعدنية لغار جبيلات، في إطار تعاون مغاربي. إلا أن حكومة بن بلة لم تقدم أي رد رسمي على ذلك الاقتراح.
وقال اليوسفي: “إذا كانت عدة مظاهر من حرب الرمال سيئة الذكر لسنة 1963 مازالت بحاجة للتوضيح، فمع ذلك يمكن أن نسجل لصالح بن بلة:
إخلاصه الأيديولوجي للقوات الشعبية المغاربية، وإرادته السياسية، انطلاقا من 1964 في التعايش مع الدول المغاربية ومحاولة بناء «المغرب العربي الممكن» معها.
مباحثات القمة الجزائرية ـ المغربية سنة 1965 (المنظمة بعد التشاور مع المعارضة المغربية) والترتيبات المتخذة من أجل محاولة تنقية الأجواء بين البلدين في أفق يستلهم اقتراح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”.


بتاريخ : 01/06/2020

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

أكد على أن تعامل الحكومة مع القطاع ومهنييه يساهم في اتساع دائرة الغموض والقلق   أكد ائتلاف يضم عشر جمعيات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *