برحيل السي عبد الرحمان اليوسفي، تفقد الصحافة الوطنية أحد مؤسسيها

كان يصعب تصديق هذا الرحيل المفاجئ للأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، رغم أن الأخبار في الأيام الأخيرة، كانت تتردد على تدهور حالته الصحية بشكل كبير. أحد أصدقائه الوزير لخضر الابراهيمي قال لكاتم سره الأستاذ عباس بودرقة يوم وفاته ،»لقد اختار سي عبد الرحمان وقت الرحيل، حتى لا يزعج أحدا، عدد كبير من أصدقائه المقربين، والذين عاشروه في المنفى، كلهم في فرنسا بسبب الحجر الصحي، لا أحد تمكن من التنقل لمرافقته نحو مثواه الأخير. اختار سي عبد الرحمان فترة رحيله دون أن يزعج أحدا.» لكن سي عبد الرحمان اليوسفي قام قبل رحيله بوداع شعبي بطريقته، عندما قدم مذكراته في عدد من المدن المغربية سواء بالرباط والمحمدية وغيرها من المدن وحضرت بعض هذه اللقاءات، حيث كانت كل مرة مناسبة للقاء بأبناء القوات الشعبية التي كرس حياته لخدمتها وكانت لقاءات عفوية وحميمية بكل المدن التي زارها.

من المؤكد أن فقدانه هو خسارة كبيرة لأصدقائه، لحزبه ولكل المغاربة. وهو من الشخصيات السياسية النادرة بالمغرب التي تحظى بالإجماع،الاحترام كما أنه كان مناضلا من ذوي النفس الطويل. وتنطبق عليه قولة الشهيد المهدي بنبركة « معركة بناء الوطن هي معركة يقوم بها أقوياء النفوس».

هذا الرجل الاستثنائي الذي واكب حياة المغرب الحديث من مقاومة الاستعمار إلى المعارضة وإلى إنقاذ المغرب من ال»سكتة القلبية « التي تحدث عنها الراحل الحسن الثاني. سي عبد الرحمان تعودت على حضوره عدة أجيال مغربية، وكان رمزا سياسيا حقيقيا للنضال والوطنية والاستقامة بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من معنى.


في مساره المتعدد والمتنوع، كان مؤسسا لصحافة الاتحادية،كان رئيس التحرير لجريدة التحرير والتي كان لفقيه البصري مديرها، وكان أول معتقل رأي في المغرب في 15 ديسمبر 1959 بعد أن قال إن الحكومة مسؤولة أمام جلالة الملك وأمام الشعب المغربي، وذلك كان سبب الاعتقال.
واهتمامه بالإعلام ليس سرا وهو مؤسس النقابة الوطنية لصحافة سنة 1963 وحرر وثيقتها الأساسية من أجل حماية حرية التعبير بالمغرب.
لا أعرف بماذا أبدأ للحديث عن هذا الرجل، هل من خلال الحديث عن مساره السياسي والحقوقي الطويل، وهناك العديد من الرفاق الذين شاركوه في عدة مراحل من هذه المسيرة أو من خلال الحديث عن تجربتي الشخصية والمتواضعة جدا إلى جانبه، في المرات القليلة التي أتيحت لي فرصة اللقاء والعمل معه. وهي لقاءات كانت كلها لقاءات مهنية نضالية من أجل الصحافة الاتحادية التي كان يكن لها مكانة خاصة.


أول لقاء تم بمقر جريدة الاتحاد الاشتراكي، حيث جمع الراحل سنة 1995 بصفته مدير الجريدة ،كل الصحفيين سواء بهيئة التحرير بالاتحاد الاشتراكي أو بأسبوعية النشرة التي كانت تصدرها الشبيبة الاتحادية آنذاك، والتي كنت عضو هيئة التحرير بها،وكان يترأسها الأستاذ محمد الساسي، وكانت النشرة آنذاك أسبوعية مشاكسة ومزعجة من خلال المواضيع التي كانت تنشرها.
اللقاء الثاني، كان بباريس في 9 نوفمبر 1999، على هامش انعقاد مؤتمر الأممية الاشتراكية بالعاصمة الفرنسية،وذلك بقاعة لكنيت بلاديفونس، حيث يحضر أشغال هذا المؤتمر القادة الاشتراكيون عبر العالم و رافقه إليها الاستاذة نزهة الشقروني والأستاذة فتيحة السداس.
هذا اللقاء كان متميزا بكل المقاييس في مساري المهني، وخصني مدير الجريدة والوزير الأول باجتماع على انفراد دام ساعة تقريبا، كان كله حول عمل الجريدة بفرنسا وضرورة تطوير الأداء، وحول إنجاز مشروع مكتب لها بالعاصمة باريس، واختيار فريق عمل وكذلك وضع ملف حول التوزيع بفرنسا. كانت توجيهاته الأساسية، أنه على الجريدة أن تتبع كل القضايا المهمة بفرنسا والاهتمام بقضايا الهجرة التي كانت أحد انشغالاته الأساسية. وقال لي « هناك أشياء مهمة لا نتابعها بهذا البلد الذي يعتبر أكبر شريك سياسي واقتصادي لنا ويضم أكبر جالية مغربية بالخارج، وكان جد حريص في توجيهاته على الاهتمام بهذه العلاقة وبإنشاء فريق عمل يغطي جميع المجالات الاقتصادية، السياسية والاجتماعية.

اثناء هذا اللقاء مع سي عبد الرحمان بباريس، أزعجنا العديد من الصحفيين، وكانت أسئلتهم حول إقالة وزير الدولة في الداخلية أنذاك، ادريس البصري، بعد أن تلقى سي عبد الرحمان مكالمة من صاحب الجلالة محمد السادس حول هذا الأمر. و يبدو أن هاتفه كان مقفولا بالمؤتمر، وجاء الأستاذ عباس بودرقة ليطلب منه فتح هاتفه لتلقي المكالمة.
مشروع المكتب وفريق العمل بباريس،لم يتحقق وذلك لعدد من المشاكل الحزبية وداخل إدارة الجريدة، و اقتصر فريق العمل علي بالإضافة إلى الزميل محمد المزديوي. و كانت إمكانياتنا للعمل محدودة تغطي بالكاد مصاريف التنقل.
آخر عمل قمت به، في هذا الإطارهو تقديم تقرير حول توزيع الجريدة بعد عدة لقاءات مع مسؤولي شركة التوزيع الفرنسية، وهي كلها مشاريع سوف تتوقف بعد ان قرر سي عبد الرحمان الاستقالة من المسؤوليات الحزبية.
وفي إطارالاهتمام بقضايا الهجرة المغربية، طلب مني إنجاز تقرير حول وضعية الإسلام بفرنسا، وهو عمل مكنني من اكتشاف عالم المساجد والجمعيات التي تقوم بتدبيرها، وهو عمل كان صعبا لما له من تعقيدات سياسية، إنني كنت حديث العهد بفرنسا، و العمل على هذا التقرير مكنني من معرفة تنظيم الإسلام بفرنسا ولو بشكل نسبي،والتعرف على العديد من الفاعلين في هذا المجال، وهو مجال كان جد معقد وساحة حرب بين دول أجنبية منها بلدان كانت لها جالية مهمة مثل المغرب والجزائر وبلدان ليس لها ذلك، وكانت تريد استعمال المسلمين بفرنسا كورقة ضغط مثل ليبيا وبعض بلدان الخليج العربي، بالإضافة إلى المراقبة الفرنسية في هذا المجال. سي عبد الرحمان، من خلال التقرير الذي طلبه مني، كان الهدف هو توجيه العمل الإعلامي والحزبي بفرنسا نحو هذا المجال الروحي، والذي كانت له أبعاد سياسية وأمنية معقدة سوف تبرز بقوة في الساحة الفرنسية والأوربية بعد بداية هذا القرن، فقد كان رحمه الله يعرف بحدس القضايا التي ستشغل عالمنا والتي مازالت تشغله حتى اليوم.
من المهام التي كان قد كلفني بها أيضا، كان اللقاء والحديث مع مدير مجلة «افريك ازي» سيمون مالي، وفتح مجال النقاش معه، من أجل تعريف هذه المجلة لتجربة التناوب دون أن تتوفر على معطيات حول الوضع بالمغرب.هذا الاحتكاك بهذه المجلة سوف يقودني إلى التعاون معها مدة سنتين مع الأستاذ ماجد نهمي.

اللقاءات والمسؤوليات التي كلفني بها الراحل سي عبد الرحمان اليوسفي، لم تكن تتم بالهاتف بل عبر قناة آمنة، وهي أمين سره الأستاذ عباس بودرقة، الذي كان كمناضل وخبير بما يجري بفرنسا، كان بمثابة منير طريق بالنسبة لي في فرنسا وكنت حديث العهد بالهجرة.
قمت بزيارته في مقر رئاسة الحكومة في المشور رفقة الزميل حكيم الغساسي مدير مجلة «لاميدينا»، وذلك لإجراء حوار للمجلة التي كانت تصدر بفرنسا وتهتم بقضايا الهجرة، وكنت أتعاون معها آنذاك. استقبلتنا الأستاذة أمينة بوعياش التي كانت مستشارة بديوانه، وهذا الحوار كان فرصة أخرى للحديث عن أوضاع المغرب والهجرة والإعلام. رغم انشغالات الرجل الكبيرة باعتباره رئيسا للحكومة كان دائما يجد الوقت للاهتمام بكل القضايا التي تمس المغرب صغيرة وكبيرة وكانت قضايا الإعلام والهجرة أحد اهتماماته الأساسية.
بفضل سي عبد الرحمان وعلاقاته وأصدقائه، تمكنت من لقاء مع عدد كبير من الوجوه البارزة بفرنسا وبالعاصمة أذكر منها وزير الخارجية رولان ديما،ووزير الخارجية ايبير فديدرين، ووزير الداخلية دانييل فايون، ووزير الخارجية الجزائري لخضر الابراهيمي بالإضافة إلى العديد من المثقفين العرب والفرنسيين، محمد حربي، برهان غليون، حميدة نعنع، جاك فيرجيس،بيير بايون وعدد اخر من الشخصيات التي توجد في أرشيف الجريدة للعقدين الأخيرين.
محمد حرمة الباهي وحلقة أصدقاء باهي، كانت أحد الاهتمامات الكبرى لسي عبد الرحمان، كان يتتبع أخبار الحلقة بباريس والأنشطة التي تنظمها، وهو تعبير منه عن الوفاء لباهي ولعمل الباهي الذي كان يحمل مشروعا كبيرا لصحافة الاتحادية، وكانت كتاباته بها خاصة «رسالة باريس» عملا استثنائيا، سيبقى موضوعا من ذهب في تاريخ الصحافة المغربية. فقد لاقته أعمال باهي سواء التي أصدرتها حلقة باهي والتي أشرف عليها الأستاذ عباس بودرقة نجاحا باهرا.


آخر لقاء تم مع سي عبد الرحمان كان منذ سنتين وبمنزله بالدار البيضاء في إطار الإعداد لنشر مذكراته « أحاديث فيما جرى « والتي أشرف عليها الأستاذ عباس بودرقة. وهذا اللقاء الذي حضره العديد من رفاقه والمقربين منهم. كان لي شرف الحضور في هذا اللقاء الإعدادي قبل نشر شدرات من مذكراته مع الصديق والزميل لحسن لعسيبي والصديق والزميل حميد برادة، وكان النقاش حول مغزى هذه المذكرات وكيف سوف يستقبلها الرأي العام المغربي، وكيف يجب مواكبتها، وتلى ذلك لقاء ثاني بالرباط بمنزل الدكتور حمزة أكديرة.
كانت اللقاءات المباشرة معه نادرة وحتى عبر الهاتف، كنت أتتبع أخباره وحالته الصحية باستمرار من خلال الأخوين سي عباس بودرقة والأخ مولاي حفيظ أمزيغ. والجميع فهم قرب موعد الرحيل. قال عباس بودرقة توقف سي عبد الرحمان عن القراءة مند أسبوعين على رحيله، وكانت القراءة قوتا يوميا لهذا القائد العظيم، الذي كان يحلم بمغرب يتعلم فيه كل المغاربة، وكان يعتبر نفسه وحكومة التناوب التوافقي،تتمة لرسالة حكومة الأستاذ عبد الله إبراهيم، والذي شاءت الأقدار أن يدفن إلى جانبه بمقبرة الشهداء، رفقة في الحياة وفي الموت.
ما تعلمته من هذا الرجل، الذي كان رمزا لعدد كبير من الأجيال المغربية، هو معنى الوطنية الصادقة وخدمة الصالح العام بدون انتظار أي مقابل ومن أي أحد، وهي قيم أصبحت جد نادرة بل اختفت، من القاموس السياسي.
وداعا سي عبد الرحمان، وهل سيكون جيلي والأجيال المقبلة قادرين على حفظ تراثه النضالي ونقل للأجيال المقبلة.


الكاتب : باريس- يوسف لهلالي

  

بتاريخ : 01/06/2020