تاء التأنيث الثائرة ورهان التحدي : قراءة في رواية «قتل ميت» للروائية سعدية السلايلي

في البدء كانت الحكاية
بِيُمْنـــاها أذكت الروائية ‹‹سعدية سلايلي›› نار متعة السرد بلا هوادة، وبحرفها برهنت لمن وصف كتابة المرأة بـ»المعلبة» ومفتقدة للرؤية الكلية للعالم، لتكون نصوصها السردية مشرعة على تفاصيل الحياة بكلمات حائرة تضمد جراح العمق والإحساس بالتمزق. محاولة تغيير هذا العالم الفاقد للقيم والمبادئ، وتخليصه من فوضى الصراعات والطموحات الزائفة، وبعثه عالماً جديداً تدبّ فيه العدالة وتسوده السكينة والهدوء. نصوص سردية تحدثنا عبر هتك الحجب واستنطاق المساحات المسكوت عنها حقيقة الوجه الآخر لأناس كانوا يوما ما هم المثل والقدوة في النضال والتضحية.
تقول الساردة: ‹‹كان ينتظرني أناس من نوع خاص، أناس يتكلمون اللغة نفسها، يحركهم الهدف نفسه، ويعزفون على الوتر نفسه. كنت كلما قرأت عن أنشطتهم في الجرائد، طار جزء مني ليعانقهم…››(ص39)، محاولة بطريقة فنية تعرية شخوص روايتها، وتركها تتصرف على سجيتها، وتعلن عن رغباتها، وتتنفس بحرية، مبيّنة مستواها الفكري، فاضحة مرتبتها الاجتماعية. تقول: ‹›هل أنتِ من كنتِ تأتين للتحدث إلى الرفاق في المعتقل، مع أنه ليس لك حبيب أو زوج أو أخ في الداخل؟ وأخبرني أنهم كانوا يتحدثون طويلا عني، ويصفون لون شعري وشكلي، ويتفقون عمن سيطلب مني علاقة في المواعيد المقبلة››(ص40)، ما شَكَّلَ علامةَ استفهام كبرى، كيف أن المناضلَ الحقوقيَ الذي ضحى بحريته من أجل قضية أمة محكومٌ بموروثات اجتماعية هي في الأصل نتاج عقلية ذكورية متخلفة حصرت نظرة الرجل الضيقة للمرأة على أنها مجرد صندوق أثري، من حقه أن يُلقي بداخله أشياءه القديمة بلا مبالاة، وأنها جزء لا يتجزأ من إرثه التاريخي. تقول الساردة: ‹›لا أعتقد أن رجلا مازال محكوما بمنطق الحريم يمكنه أن يبني تنظيما سياسيا يساريا قويا، ولا أعتقد أننا نستطيع أن نخدم قضايانا ونحن لا نرى في النساء غير مواضيع للشهوة.››(ص68)، فكانت روايتها رصداً للفجوة بين الحلم والواقع في رؤية الرجل المناضل للمرأة.

العتبة بين سلطة الحكي وفاعلية الكتابة
يختصر العنوان جسد النص ويبني هويته وذاكرته فلا يضيع وسط نصوص أخرى، لذلك حرصت الروائية على انتقاء عنوانها وصياغته بطريقة ذكية، لأن القارئ المعاصر ما عاد يتتبع تلك العناوين الشفافة الكاشفة لعورات النص، والفاضحة لمحتواه، فكان ‹›قتل ميت›› عنواناً لروايتها. عنوان مختزل ذو ظلال لا يقول المعنى مباشرة، بل يجعله أمام جملة من المتاهات تخلخل الجاهزَ في ذهنه ليبحث عما تقصده، بما أن العنوانَ منزاحٌ عن المألوف والمعتاد، ويمنحه مساحة وارفة للتأويل، فهذا القتل إما أن يكون قتلا حقيقيا كما فُعل بالمعلم الرجل المناضل الذي قبع في السجن وباع حريته مقابل قضيته؟ أو يكون قتلا لصورة المعتقلين السياسيين المثالية التي بلغت حدّ التقديس؟ أو يكون قتلا بالانتحار؟
فيكون العنوان ‘’قتل ميت’’ على مستوى التلقي فاضحا لسرية النص، وذلك بتقديمه صورة أولية عن مجمل القضايا والموضوعات التي ارتضتها الروائية فضاء تروم عبره محاورة الذات والعالم.

شهرزاد وسلطة الوجود
يأتي اهتمام المرأة بالكتابة عبر مواجهتها لطريق مسدود حَدَّدت هندستَه الثقافة الذكورية السائدة التي عملت على وضع كينونتها على هامش المجتمع، فأصبح للكتابة وظيفة مزدوجة تنتقل من فك الأغلال الخارجية إلى تحرير القيود الداخلية، واقتراف فعل الكتابة هو فعل إثبات الذات والوجود، وهي لصيقة بالحياة، ووسيلة لدفع الموت ومواجهته. تقول الساردة: ‹›لابأس، قررت، بدل الموت، الكتابة››(ص37)، لتتحول الكتابة عندها إلى لحظة خلود، كما كانت الحكاية طوق نجاة عند شهرزاد.
فلا غرو أن تكون رواية ‹›قتل ميت›› وطيف «شهرزاد» يغازلها، هذه الأسطورة التي نالت حيزا كبيرا من الاهتمام ودخلت معبد الحكاية لتدفع القتل عنها وعن بنات جنسها. فعبر سلاح الحكي تراوغ ملكاً مدفوعاً بهوس الانتقام وتغويه بسلطة المعرفة، وبالحكاية المرويةِ بسحرٍ تقهرُ الموت وتُبعدُ أطيافَه لتُمَثِّلَ هذا الانتصار العجيب للبريء والضعيف؛ الذي ينجح في تغيير مصيره بمداهنة جلاّده؛ محولاً الحقد إلى حبّ. يقول السارد: ‹›لا يهم كم سيدوم حضورها في مساحة الزمن ولا كيف ستفكر في ردود أفعالي المرتبكة، المهم أنها ستكون هنا للحظات وإنني سأحظى بمزيد من حديثها وبفك بعض طلاسم الحكاية: حكايتها، حكايتنا المشتركة، وقّعت معها ما يشبه الميثاق الروحي: هي تكمل حكايتها على طريقتها المبهرة وأنا ألعب بكل خنوع دور المنصت المطيع، تماما كما تريدني›› (ص10)، فالساردة/شهرزاد هي من ستقوم بفعل الحكي والرجل ما عليه إلا الانصات، فما له خيار مادامت امرأة من نوع نادر اقتطعت الإعجاب والتقدير لدرجة التقديس، فقد عرفت كيف تستعمل اللغة والحكي في تدجين المتوحش، لتجعل منه إنساناً سوياً. يقول السارد: ‹›أنت لا تعرفين وقعك علي.. لقد جعلتني أكتب شعرا … أتعرفين ان سنوات السجن بطولها لم تحرك داخلي الرغبة في الكتابة وأنك فعلت››(ص142).
كيف لا تكون كذلك وهي المرأة الفدائية التي تقبل بمحض إرادتها أن تمدّ جسدها وسمعتها جسراً تمر عليه بنات جنسها إلى الضفة الأخرى من النهر. تقول الساردة: «أجد نفسي أحيانا أدافع عن كل النساء» (ص63). وتتمتع هذه الشهرزاد بخصائص المرأة المرغوب فيها: فهي جميلة ومثقفة يقول: ‹›لست أدري من أين يأتي سحرها؟ أمن جاذبيتها الكاملة أم من جمالها الأخّاذ أم من تلك الثقة التي تفصح عنها حين تأخذ الكلمة؟ حتى عندما تتكلم لتسأل أو تستفسر فهي تجعلك تحس أنها تَخْتَبر أو تستجوب..›› (ص9). لكن تختلف عن شهرزاد الجدة في كونها تناضل بغية منح معنى للحياة يقول السارد: ‹›كم أفهم سعادتها المبهمة في خضم صراعها من أجل إثبات هويتها وسط المسخ العمومي الذي يمحو كل الملامح ويسطح كل المعالم، كم أمجد وقفتها ضد قانون القطيع الذي يسحق إنسانية الإنسان›› (ص23).
إنها شهرزاد أخرى، تلبس ثوب الأنثى لتواصل ما قالته بإصرار، ولا تلتبس بشهريار كي تكمل فصول الحكاية، تقول:››رغبتي الدفينة في إتمام الحكاية: ما بدأ قد بدأ وليس لي أن أكسره. قد يكون لكل هذا اللامعنى معنى لو تمكنت من اتمام الحكاية. تمكّن مني ما يشبه الميثاق السري مثل ذلك الذي ربط شهرزاد بشخصيات حكاياتها في صراع بين الهوس المرضي لشهريار وأنوثتها المراوغة للموت.. قلت بالحكي ناضلت شهرزاد ووصلت للانعتاق، وبالصمت الجميل والصبر والترويض المرير، ثم تساءلت هل هي مجرد قصة سوف تحكى والسلام أم إنها فوق ذلك بكثير›› (ص130). لكن الإصرار والتحدي لقهر ظلم الآخر أضحى باهة المعالم مع شهرزاد سعدية إذ لم تتمكن من إنقاذ نفسها والخروج من قيد المعلم، إلا بالاستعانة بالآخر وطلب المساعدة تقول الساردة: ‹›لا أعرف كيف سلّمت مفاتيح النهاية إلى قاتل مأجور›› (ص168).

ختاما
تحاول الروائية سعدية اسلايلي في روايتها ‹›قتل ميت›› ضخ دماء جديدة في صلب كتابتها السردية، ومحاولة تشييد جسور إبداع امرأة في جعبتها ما يبشر بمستقبل سردي به عمق وروح وحياة، وهي تعبر بكل أَرْيَحِية عن إبداعها وما تخفيه ذائقتها من عشق لهذا الفن الأدبي.


الكاتب : د.جميلة رحماني

  

بتاريخ : 13/06/2019

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *