تجلياتها متعددة ملامح فشل حملات تحرير الملك العمومي بمراكش

 

تقوم سلطات مراكش من حين لآخر بحملات لتحرير الملك العمومي من محتليه بمناطق مختلفة من المدينة. وهي الحملات التي يعرف المراكشيون منطق تصريفها على أرض الواقع: مطاردات، حجز بضائع و عربات، انتشار للقوة العمومية بالمكان المخلى، ثم العودة إلى ما كان عليه الحال قبل التدخل، في مسلسل سيزيفي أشبه بمن يروي الرمل بالماء.
يعرف السكان جيدا أنه ليس هناك من حملة تمكنت من تحرير الملك العمومي الذي استهدفته بشكل مطلق ودائم في المدينة الحمراء. فعادة ما يعود الباعة الجائلون بسرعة كبيرة لاحتلال الأرصفة والشوارع والممرات والساحات التي طردوا منها. بل إنهم يرتبون الفضاءات المحتلة وفق العادات التي ألفوا التعامل معها، كما لو كانت عملية الإخلاء مجرد فاصلة في إيقاع لا أحد يشك بأنه سيستمر، يتكون من متلازمتين هما إخلاء مؤقت مقابل عودة متجددة، حضور جد محدود للقانون على أرض الواقع، مقابل قانون تفرضه الفوضى.
تجر كل حملة لتحرير الملك العمومي بمراكش فشلها الخاص معها. بدايته ضعف يقظة الأجهزة التي تلقى على عاتقها أمانة صيانة الملك العمومي من كل تطاول، لأنه في نهاية المطاف تجسيد موضوعي للحق العام، لحق الجميع الذي لا يقبل الخوصصة. إذ أن أبسط بداهة تفرضها هذه اليقظة هو التصدي السريع لأول محاولة للسطو على هذا الملك ولو كان شبرا واحدا. لكن الذي يحدث عادة أن الحذر يعوض بحالة من التعايش بين السلطة المنظمة وبوادر الفوضى التي تظهر بالتدريج في هذا الشارع أو تلك الساحة، إلى أن يتحول البائع البسيط والوحيد الذي كان متنقلا، إلى مئات الباعة الثابتين بعرباتهم وبضائعم. ويصبح الشارع المخصص للمرور سوقا منتفخة بلا حدود، تتكدس فيها «المتاجر» العشوائية وتمارس فيها تجارة رابحة متحررة من أية رسوم أو ضرائب. فتفرض الفوضى سيادتها الشاملة، ويصبح الصوت المطالب بسيادة القانون والنظام نشازا.
ومع ذلك فالفشل كامن أصلا في طبيعة مفهوم الحملة نفسه الذي يناقض روح القاعدة القانونية التي من المفروض أن تكون سنده الأساس. لأن الحملة تعني تطبيقا استثنائيا للقانون، في الوقت الذي لا يكون القانون قانونا إلا بطابع الاستدامة الذي يتمتع به. إذ ما الفائدة من قوانين لا تسري على أرض الواقع إلا مؤقتا وبشكل متقطع؟ يدرك محتلو الملك العام بمراكش، جوهر الحملات التي تستهدفهم انطلاقا من خاصيتها الجوهرية المشار إليها، باعتبارها استفاقة مفاجئة للأجهزة الموكول لها الحرص على النظام، ستعقبها لحظة طويلة من الخمول. و لذلك فهم لا يرون فيها أي خطر أو تهديد بالحرمان المطلق من هذا الإدمان على الفوضى والعشوائية الذي فرضت مظاهره على المدينة بكاملها.
يمكننا أن نقدم نماذج كثيرة على ذلك، بل إن من يعيش بالمدينة الحمراء يعرف تفاصيلها الدقيقة. فساحة جامع الفنا مثلا، كانت مسرحا لحملات كثيرة لتحرير الملك العمومي، لكن لاشيء تغير بها. حتى أن بعض تجارها الذين طالبوا مرارا و تكرارا من خلال جمعياتهم، بفك الحصار المضروب على متاجرهم من قبل الباعة الجائلين الذين يحتلون ممر «البرانس» والكثير من فضاءات الساحة، نالهم اليأس من جدوى هذه التدخلات. نفس الشيء بالنسبة لشارع العيون بالمسيرة، الذي يعد معماريا من أوسع شوارع المدينة، لكنه استحال بسبب احتلاله، إلى ممر صغير يختلط فيه الراجلون الذين طردوا من الأرصفة، بالسيارات والحافلات والدراجات. وهي قاعدة تتكرر بأزيد من 100 نقطة سوداء بالمدينة، هي عبارة عن شوارع وأزقة وساحات وأرصفة عمومية، تحولت إلى تجمعات عشوائية للباعة الجائلين، أو احتلتها كراسي المقاهي والمطاعم مثلما يحدث بشارع محمد الخامس.
لا يُعزى فشل هذه الحملات فقط إلى كسل بعض الأجهزة في الدفاع عن الملك العمومي، لكن ذلك يتضافر أيضا مع كسل أفدح لدى المجالس المنتخبة التي تدير شؤون المدينة، في إيجاد الحلول المندمجة لهذه الظاهرة، إن لم نقل إن تدخلاتها تفشل الحلول المعتمدة. وتشهد على ذلك أوضاع الأسواق النموذجية التي استحدثت أغلبها لمواجهة هذه الظاهرة وتمكين الباعة الجائلين من أماكن منظمة لممارسة نشاطهم، والتي تحولت بدورها إلى مكان لتفريخ الفوضى والعشوائية.
تظل الحملة حملة. ومثلما فشلت حملات الوقاية من حوادث السير في الحد من حوادث السير، وحملات «الدور الآيلة للسقوط» في إيقاف تداعي البيوت بالمدينة العتيقة، و حملات مواجهة الدعارة في إنهاء نشاطها، ستواصل حملات تحرير الملك العمومي فشلها بمراكش، طالما ظلت محكومة في طبيعة عملها بذات المنطق، أي بالاحتكام المتقطع للقانون، وبالاستفاقة المباغتة لإنفاذه على أرض الواقع وتحويل الفوضى إلى مبدأ منظم يبسط نفوذه ويحول العشوائية إلى نزوع عام، لا يضر فقط بحياة الناس و توازنها بهذه الحاضرة، لكن يضرب في الصميم فكرة المدينة فيها.


الكاتب : ع. الكباص

  

بتاريخ : 20/04/2018