تحت وطأة الثلوج والصقيع : قرى معزولة وطرق مقطوعة على امتداد جغرافية خنيفرة وميدلت

في الوقت الذي تتواصل  الإعلانات عن كل ما هو جديد في عالم المكيفات، هناك في مناطق جبلية بالمغرب العميق أناس وأطفال لا يجدون ما «يسخنون» به أجسادهم المرتعشة من شدة البرد وقساوة الثلوج، حيث اختفت عدة قرى ومداشر بالأطلس المتوسط خلف تراكم الثلوج، فتحولت إلى «عالم بلا خرائط» من الصعب الولوج إليه، وغالبية السكان هنا من دون مؤونة أو طعام وغاز وحطب، ولا ما يكفي من الأغطية واللباس والدقيق والأدوية، علما بأن حالة المقاومة الصعبة التي يواجهها هؤلاء السكان حيال انخفاض درجة الحرارة قد يتعذر وصفها دون تعابير مؤلمة، وكم هي المرارة قاسية في ظل افتقار هؤلاء أو أولئك لحطب التدفئة الذي تنضاف مشكلته إلى باقي المشاكل الأخرى من قبيل انعدام البنى التحتية والمرافق اللازمة، وتلف المراعي والمزروعات ونفوق المواشي وارتفاع أسعار المواد الأساسية.

 

من المؤكد أن اللون الأبيض ليس رمزا للحياة في كل مرة، فكما هو لون لباس العروس فإنه أيضا لون الكفن، كما أن الثلج ليس في كل مرة يكون رمزا للترفيه والأفراح، وعندما ابتهجت عدة دول، قبل أسابيع معدودة، بتساقط الثلوج لغاية استكمال أجواء الاحتفال برأس السنة الميلادية في جو راقص وسط شجيرات الصنوبر وهدايا “بابا نويل” وبطائق “العربات المجرورة بالغزلان فوق الجليد”، المؤكد أن أطفالا في”المغرب العميق” يرتعشون الآن تحت بيوتهم الطينية من شدة برودة هذه الثلوج، ولا يطلبون أكثر من خبز للأكل وحطب للتدفئة وحلول لانتشالهم من عزلة قاسية، وقد تجمدت أطرافهم من شدة البرد وهم شبه “عراة” يسعلون ويعيشون على “الخبز والأتاي” حول قبس من النار.

تضاريس خارج التغطية

شهدت خنيفرة المدينة ومحيطها تساقطات ثلجية لم تشهد لها مثيلا منذ سنوات طويلة، وتسببت في توقف الدراسة بجل مؤسسات التعليم، كما في محاصرة عدة سيارات خاصة، وحافلات النقل وشاحنات، في جل المحاور والمداخل، ما أجبر العديد من المسافرين ومستعملي الطرق، سواء بطريق تغسالين أو بين خنيفرة ومريرت مثلا، عند منعرجات “تكط”، على قضاء الساعات الطوال تحت الحصار ، إذ كتب أحد المحاصرين ليلا على صفحته الفايسبوكية حكاية نجاته وركاب حافلة من كارثة محققة، في الصباح الباكر من يوم الاثنين خامس فبراير 2018، عند انزلاق الحافلة بنقطة “تكط”، على طريق مريرت، ولم يفصلها عن هاوية المنحدر إلا بضع سنتيمترات قليلة، حيث توقفت برعاية إلهية، ليظل الركاب داخلها في غابة موحشة وظلام دامس وبرد قارس، وانعدام وسائل التواصل الإرسال الهاتفي مع العالم الخارجي.
وغير بعيد عن المنطقة، عاشت مريرت، ساعات طويلة من “الغربة” عن العالم إثر اختفاء الحرارة من هواتفهم وظلوا خارج التغطية، قبل أن تدخل البلدة في الانقطاعات المتكررة في الكهرباء، ثم انقطاع الماء الشروب عن بعض الأحياء الشعبية، لتتجه الأنظار نحو بلدة القباب التي عاشت هي وعدد من دواويرها انقطاعا بالتيار الكهربائي، وظلت تحت رحمة الظلام لفترة طويلة، دون تدخل من الجهات المعنية، بالرغم من “نداء الاستغاثة” الذي أطلقه مواطنون من المنطقة، ومن خلاله طالبوا بالتالي بإنقاذهم من الحصار حين بلغ سمك الثلوج إلى مستويات غير مسبوقة.
وبكروشن، عرفت المنطقة بدورها موجة برد قارس و تساقط ثلوج كثيفة على خلفية انتمائها لسلسلة جبال الأطلس المتوسط، حيث تنخفض درجات الحرارة إلى مستويات متدنية تصل أحيانا إلى 10 درجات تحت الصفر، ما ساهم في شل الحركة الاجتماعية والاقتصادية والطرقية، كما في إلحاق عدة أضرار بالغطاء النباتي والمزروعات والمواشي، حسب أحد الجمعويين من المنطقة، الذي وصف الوضعية بالمأساوية جراء نقص الغاز والمواد الأساسية، سيما في ظل عدم اشتغال السوق الأسبوعي بسبب التساقطات الثلجية.
وفي نداء آخر من كروشن أكد فاعلون محليون أن دواوير آيت حمو، تمداحت، آيت الطالب، اروكو، امرهان، آيت شعا اوحدو، ايت علي اوموسى، بوشرمو، ايت سيدي علي اوعمر، وغيرها توجد داخل الحصار وخارج التغطية، بسبب الثلوج التي بلغ سمكها إلى ما بين المتر والمترين، وذلك لعدة أيام ؟

فقراء وسط الثروة

وبمنطقة أجدير، حوصر السكان خلف الثلوج، مع تسجيل الكثير من الخسائر ونفوق المواشي وانهيار منازل واسطبلات، شأنها شأن مناطق مجاورة أخرى : أزرزو، اوشنين، آيت بومزيل، واكلمام نمعمي، في حين تعيش المنطقة الجبلية الجنوبية لجماعة أكلمام ازكزا، وبالتحديد قبائل آيت بوحماد، آيت علا أيت بوهو عزلة خطيرة جراء تعرضها لعواصف وتساقطات ثلجية كثيفة، وتفيد مصادر من المنطقة أن ساكنة دواوير موغروم تاشبوت، ماهية، تاتشا، ايت علا، افلكتور، أعفير، تافرنت وغيرها تستغيت لرفع تداعيات هذه القسوة عنهم، علما بأن المئات من السكان قد نفد ما يتوفرون عليه من طعام وحطب وكلأ للمواشي.
ومن المنطقة، تم إطلاق صرخة استغاثة من آيت بوحماد بجماعة أكلمام جراء مكوثها من دون كهرباء ولا اتصال هاتفي، منذ أزيد من يومين، وغالبية هذه المواقع تعتبر من أغنى المناطق وطنيا بغاباتها المفروشة بشجر الأرز التي تدر على جماعاتها ملايير السنتيمات وهي تعاني الكثير من التهميش والعزلة والإقصاء، كان من المفروض توجيه المداخيل لما قد يعمل على تجنيب المنطقة كوارث طبيعية تتكرر كل سنة، عوض جعلها في انتظار إعانات إنسانية في شكل أغطية وأفرشة ولباس …، وصلة بالوضع، تم تعميم نداء استغاثة من أعالي جبال مناطق معزولة أخرى كاغزر أرصود وأجكو حيث انقطعت المسالك من وإلى المنطقة.
وقد حلت الأجواء الطبيعية القاسية لتشير بأصابع الألم والامتعاض لمظاهر الإهمال والعجز الذي أبان عنه المسؤولون والمنتخبون، فضلا عن مشكل هزالة وضعف وسائل التدخل وآليات إزاحة الثلوج، مع أن الجميع استقبلوا النشرات الإنذارية بإقليم كخنيفرة معروف بتساقطاته الثلجية، ولا يتوفر على أسطول قادر على التدخل في طوارئ التقلبات المناخية التي بقدر ما شلت الحركة الاقتصادية والاجتماعية بالعالم القروي شلت حركة السير والدراسة بالعالم الحضري، وفي كل ذلك ما حمل “التنسيقية المحلية لمناهضة الفساد” بخنيفرة إلى دعوة السكان ومكونات المجتمع المدني للمشاركة في الوقفة الاحتجاجية، زوال أمس الأربعاء 7 فبراير 2018، أمام مديرية التجهيز والنقل.

عزلة بدون عتاد

الثلوج والأجواء الباردة تسببت في معاناة آلاف السكان خلف المسالك الوعرة ضمن رقع متناثرة على جغرافية إقليم ميدلت، سيما المتواجدة منها على ارتفاع ما بين 1400 و2070 مترا عن سطح البحر، حيث تحدث السكان هنا وهناك عن قساوة العزلة بمناطق أغبالو، بومية، تقاجوين، إيتزر، تونفيت، أنمزي، سيدي يحيى أوسعد، أكديم، سيدي يحيى أويوسف، آيت سعدلي، آيت مرزوك، تمالوت، أغدو، أنفكو، تيرغيست، تغدوين، آيت بوعربي، إمتشيمن، وغيرها من المداشر التي ليس سهلا الوصول إليها أو الخروج منها، رغم محاولات بعض السكان للتزود بحاجياتهم المعيشية والغذائية الضرورية والفحم وحطب التدفئة، في حين تسببت حالة العزلة التي شهدتها هذه الدواوير، حسب مصادر إعلامية، في وفاة مولودين اثنين من اكديم ورضيع من بواضيل.
وبتونفيت، إقليم ميدلت، وضواحيها سجلت تساقطات ثلجية كثيفة على المناطق التي تعرف عزلة تامة عن العالم الخارجي، ولا حديث للساكنة سوى عن البرد القارس والثلوج وحطب التدفئة ومظاهر التهميش، حيث في غياب أية مقاربة تنموية تساعد على فك العزلة، لاتزال الساكنة تتخبط في أوضاعها المزرية إلى أجل غير مسمى، وفي نداء أطلقه جمعويون حول معاناة القرى التابعة لجماعات تونفيت وأكوديم وأنمزي، بسبب كثافة الثلوج وانقطاع الكهرباء وشبكة الاتصال ونفاد المواد الغذائية، وعلف المواشي، وكل محاولات فتح الطريق نحو مركز تونفيت باءت بالفشل ومصالح التجهيز والنقل لم تتمكن من إعادة الحياة للمنطقة، ولا السلطات المعنية أعلنتها قرى منكوبة، علما بأن مستوى الثلوج وصل إلى متر ونصف ؟
وقد استيقظت ساكنة حي القصر القديم “إغرم” بإيتزر، صباح الثلاثاء 30 يناير 2018، على وقع حادث انهيار منزل طيني على رؤوس أهله، ما أسفر عن مصرع مواطنة في عقدها الخامس، وحسب مصادر محلية، فإن هذا البيت يقع من بين المباني المتداعية التي زادت التساقطات المطرية والثلجية من هشاشتها، حيث انهار في مشهد لم يكن مفاجئا على خلفية النداءات المتكررة التي ما فتئ المجتمع المدني والحقوقي والإعلامي يطلقها منذ عام 2005، ويطالب بإعادة إعمار هذا الحي المنكوب، حتى أن الوضع خلق إجماعا لدى الرأي العام بتحميل المسؤولية الكاملة للمتاجرين في مآسي المنكوبين، داخل جماعة غنية بالمداخيل التي تجنيها من الموارد الغابوية.
وبآيت حنيني بإقليم ميدلت أيضا نسجت الثلوج طوقا مشددا حول العديد من الدواوير، حيث وجه السكان نداء استغاثة للمسؤولين على الصعيدين الإقليمي والوطني، علما بأن المنطقة تئن تحت وطأة انعدام شروط الحياة، وغياب أبسط ضروريات العيش، فيما عرفت منطقة الريش وضواحيها تساقطات ثلجية كثيفة أدت إلى غلق عدة طرق وعزل الكثير من الدواوير، حيث وصل علو الثلوج ببعض هذه المناطق إلى 70 سنتيمترا والمرتفعة منها إلى 120 إلى 200 سنتيمتر .
ومن إملشيل لم يفت عدد من النشطاء الجمعويين تعميم “نداء استغاثة”” يطالبون من خلاله كافة الجهات المعنية بالتدخل لإنقاذ أزيد من 60 من الرحل، بينهم نساء وشيوخ وأطفال ورضع، يوجدون تحت حصار الثلوج بين إملشيل وأسول، على الحدود مع تنغير، علما بأن جل مناطق إملشيل تعيش وضعا قاسيا جراء التراكمات الثلجية التي بلغ علوها ببعض النقاط أزيد من ثلاثة أمتار، وأدت إلى انقطاع الطرق والمسالك وعزل المنطقة عن العالم الخارجي، ما رفع من حدة النداءات المطالبة بما يهم من التدخلات لإنقاذ المحاصرين، وبينهم الرحل الذين ظلوا مفقودين بجبال “أمجكار”، وحياتهم في خطر بعد أن انهارت بيوتهم ونفد ما بحوزتهم من أكل وحطب، سيما بالجماعات المتضررة : إملشيل، أموكر، اوتربات، أيت احيا، بوزمو وغيرها.
أما بومية، إقليم ميدلت، فتعيش بدورها وسط موجة من الثلوج والأجواء الباردة، ومن الأعراف والتقاليد بالمنطقة أن الأهالي يستعدون لاستقبال فصل البرد بتوفير ميزانية مهمة لاقتناء حطب التدفئة في ما يشبه “استعدادات لحرب محتملة”، ولم يعد غريبا أن يلجأ العديد من المواطنين للاشتغال مثلا في ضيعات التفاح لتوفير بعض المال من أجل اقتناء حطب التدفئة، وقد أكد أحد المتتبعين للجريدة مصادفته لمواطنين يشترون كيلوغرامات من الحطب يوميا على خلفية عدم قدرتهم على شراء الكثير منه بسبب غلاء هذه المادة التي ارتفع ثمنها عكس باقي الأوقات العادية.
وخلال الساعات الماضية الأخيرة، تناقلت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي صورا وفيديوهات لعشرات المواشي التي نفقت، في مشاهد مثيرة للألم والحسرة، بسبب التساقطات الثلجية وعدم استطاعتها مقاومة موجة البرد القارس، حيث لم يجد أصحابها ولا رعاتها أي حل من الوسائل المتاحة لإنقاذها من النفوق والتجمد تحت تلال الثلوج.

حطب “الحرب الباردة”

ما يجمع عليه المتتبعون هو التساؤل حول معنى وجود مواطنين فقراء لا يستفيدون من مناطقهم الثرية بمساحاتها وثرواتها الغابوية المدرة على الدولة والجماعات ولوبيات “أعالي البر” مداخيل بالملايير، وما يؤكد ذلك هو أن غالبية الأسر لا تستطيع توفير حتى حطب التدفئة أو حتى الإمكانيات لشرائه، وغالبا ما يتم توقيف كل من يتم العثور بحوزته على قطع من الحطب اليابس، ويتم تخييره ما بين أداء الغرامة أو الحبس بدعوى محاربة المخالفات الغابوية، في حين لا يخفى على أي مراقب ما تقوم به المافيات والمضاربون والمهربون الذين يعيثون في أشجار وأرز الغابة فسادا، ويستغلون حاجة البؤساء إلى الحطب فيعمدون إلى رفع سعره، إذ بقدر ما يشتد “انخفاض الحرارة” يعرف ثمن الحطب المزيد من “الارتفاع”، إذا لم يكن نادرا في أحيان كثيرة رغم اعتباره في هذه الأثناء مادة أساسية، وربما في مستوى الخبز.
ويطرح الوضع القاسي أسئلة محورية بشأن مشاريع مصالح المياه والغابات، مثلا ، ، سيما منها ما سمي ب “مشروع التنمية القروية التشاركي للأطلس المتوسط الأوسط” الذي يهدف في توجهاته إلى “تقليص الفوارق الجهوية وتحسين دخل الساكنة القروية المحيطة بالغابات، والأوضاع الاقتصادية للمرأة القروية، والبنيات التحتية والسوسيو اقتصادية” ؟

معاناة بلا حدود

كلما حل موسم الثلوج وعم البياض جبال إقليمي ميدلت وخنيفرة، تبرز معاناة المرأة بهذه المناطق، بسبب العزلة والطقس، وهزالة الخدمات الأساسية وضعف البنيات التحتية، بالأحرى الحوامل، والمتمرغات من شدة آلام المخاض والوضع، ما يضع أكثر من علامة استفهام حول واقعية “التصريحات ” التي تتحدث عن تحقيق “نجاحات كبرى” في مجال تقليص نسب وفيات الأمهات والأطفال حديثي الولادة، في حين نسمع من لحظة لأخرى فقدان عدد من الحوامل لأجنتهن، بسبب تعذر نقلهن إلى المستشفى، أو فارقن الحياة جراء انعدام وسائل النقل وغياب المرافق الصحية وبعدها عن المناطق المعزولة، وكم تكبر الصدمة أمام مشهد نساء حوامل محمَّلات على أكتاف السكان عبر الثلوج والوديان والمنحدرات الخطيرة؟
وكلما سألنا مواطني المناطق ذاتها عن انتظاراتهم تتقاطع ردودهم السريعة في المطالبة بفك العزلة على مستوى المسالك، وتوفير حطب التدفئة بعيدا عن المضاربات، والأعلاف للماشية، وإحداث المستوصفات الصحية ودور الولادة، وقد كان من ضمن أبرز مطالب الحركات الاحتجاجية والمسيرات التي انطلقت، خلال السنوات الأخيرة، من عدة قرى ودواوير بالمنطقة ، رفع التهميش والهشاشة، وتوفير الطرق والمسالك، وإحداث دور الولادة والمراكز الصحية المجهزة.


الكاتب : أحمد بيضي

  

بتاريخ : 08/02/2018