تزيفتان تودروف … عندما أخطأته جائزة نوبل للآداب

لن يمر حدث وفاة الراحل تزيفتان تودروف ، دون الوقوف على ما أسداه هذا المفكر العالمي للفكر الانساني في العقود الأربعة الأخيرة . لن يمر هذا الحادث دون أن نتعبَّر من المواقف الانسانية التي طبعت مسيرته العلمية ، وأخيرا لن يمر هذا كله من دون أن نفهم جدوى الأدب في ظل منطق تزيفتان في الفكر والنقد معا.
تزيفتان رحل عن عالمنا صبيحة السابع من فبراير من العام الجاري، وترك وراءه زخما فكريا كبيرا.
اُفتُتنت بهذا المفكر منذ التحاقي بالدرس الجامعي، غير أنني مارست فكره في الدراسات العليا وثقفت تجربته وروادَ الفكر المغربي ؛ أساتذة جيل الظمأ المعرفي و الفكري والإبداعي ، فرسان حقيقيون يؤطرون الدرس الجامعي بكلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط.
وتبعا لذلك ، فمن الدرس المقارن إلى الدرس الشعري رحلة طويلة و شاقة تعرفت ، من خلالها ، على تزيفتان عالما نفسانيا وأنتروبولوجيا متمرسا وباحثا سيميائيا وناقدا أدبيا ومنظرا ومؤرخا. بحور معرفية لا سواحل لها. ركبها الراحل وسط تلاطم التيارات الإيديولوجية التي تنسف العالم ، وتزج به في معسكرين شيوعي ـ شرقي ورأسمالي ـ غربي . علاوة على ذلك، استطاع تودروف أن ينتصر على الأيديولوجيات، ويسمو بالأدب إلى الصفاء الابداعي والفني ، ويخلصه من العذابات والجراح.
أولا: قراءة فكره
من خلال أهم إصداراته

في كتابه الذي ترجمه عبد الكبير الشرقاوي عن دار توبقال للنشر “ الأدب في خطر la littérature en péril“، أسدى صاحبه للفكر الغربي خدمة جليلة، غيرت وجه العالم. تعرف الغرب، عن طريق تزيفتان، على الشكلانية، ذات المنابع الروسية. من بلغاريا إلى فرنسا، ومن صوفيا إلى باريس المتحررة من عقدة الايديولوجيا، استطاع تودوروف أن يبصم مجتمعه الجديد بمسار فكري وقناعات علمية قلَّ نظيرها.
في ماي 1963م طرق باب السوربون فاتحا وغازيا، بتسجيل أطروحته الجامعية متخلصا من الهواجس الايديولوجية، التي تحرف، في نظره، الرسالة الحقيقية للأدب؛ أطروحة تحوم حول علم النفس وهواجسه وتوجُّساته . ففي سنة 1966م تعرف على رولان بارث كقطب بنيوي غير مجرى تاريخ فرنسا . علاقته بهذا شربورغي لم تقف عند حدود الإشراف فقط، بل تجاوز كل الحدود ، وفسحت لتودروف الشهية للتأليف والإبداع و البحث .
أما كتابه « نظرية الأدبla théorie de la littérature « فهو عبارة عن أنطولوجيا نصوص للشكلانيين الروس ، غير المعروفين لدى شريحة واسعة من المثقفين الفرنسيين . في حين كتابه « غزو أمريكاla conquête de l Amérique « محكيات في الادب الاسباني ، إطلالة على الفرسان الإيبيريين المعروفين ب» الكونكستادورس « . خلال هذه الفترة تعرف أيضا على جيرار جينيت ، ودام إشرافهم المشترك على مجلة“ الشعريةla poétique “ زهاء عقد من الزمن .
بعد هذا المسار الحافل بالعطاء والبحث اقتحم تودروف قلعة فرنسا الحصينة، إنه «المركز الوطني للبحث العلمي CNRS»، بما هو مركز يخول له الإشراف المباشر على صياغة البرامج التعليمية للسلكين الثانوي والجامعي على السواء. بهذا الانفتاح اللامشروط على ما هو مدرسي وجامعي، استطاع القائمون على الشأن التعليمي الفرنسي، أن يدركوا مدى أهمية انفتاح هذه الخبرة، التي يتمتع بها تودوروف، على ناشئة المستقبل والأجيال الصاعدة. وبهذا المحفل المضيء ، شارك في المجالس الوطنية الفرنسية لصياغة البرامج التعليمية مابين 1994ـ 2004 ، جامعا بين الرؤى النقدية والنفسية والفلسفية والسيميائية والتاريخية.
إلى جوار ذلك، أمضى تودروف عشقه للأدب الخالص من خلال مناهج متعددة، خبرها بواسطة بحث وعلم مستفيضين. استطاع تزيفتان أن يؤلف بين غريمين، لطالما أقاما زوابع فكرية ومنهجية، اهتزت لها الساحة الثقافية الفرنسية على امتداد ثلاثة عقود من الزمن؛ بنيوية بارتية ، ترفض كل ما هو خارج النص الادبي، وبنيوية تكوينية كولدمانية تمتح من خارج الحدود ، فيما هي لا تهادن المألوف ؛ لذلك فهي تبحث في شعاب مغمورة ، وفالقة حبة الابداع ؛ لتصل إلى ما وراء البوح الابداعي .
البنية المغلقة والتبئير المستفيض والبنية المفتوحة والتمركز خارج البوح الابداعي، منهجان ألف بينهما تودروف ، باحثا عن نقط اللحمة والتلاقي ؛ فوجد التسامي نحو الأدبية أي ما يجعل من النص نصا أدبيا من جهة ، والبحث عن بلاغة الإمتاع من جهة أخرى ، شرطان أساسيان . بما هما ينزع إلى تحقيقهما محترفو الأدب . وبه أقر أن للأدب طاقات خلاقة ، تستطيع فعل الكثير، تستطيع فعل ما لا يتوقعه بشر. علاوة على ذلك فبالأدب ، حسب تزيفتان ، يتجاوز الانسان أزماته النفسية وفي الادب ، أيضا ، علاجاته الروحية والذهنية.
فمزيدا من المغامرة في مجهول العلم والمعرفة والنبش في الذاكرات الثقافية، انتقل تودروف، بموجب التحرر التدريجي والتلقائي من أسر المناهج العتيقة ، الفيلولوجيا مثلا، التي هيمنت على الدرس الجامعي الفرنسي، إلى استحداث أصول معرفية جديدة ذات روافد متعددة، ومتعلقة بعلم تاريخ الأفكار. وهي فرصة سنحت لتودروف للنبش في الأصول المعرفية والتاريخية للنهضة الأوروبية في القرن الثامن عشر، خصوصا بعدما اختمرت في الذاكرة الفرنسية أفكار فلاسفة الأنوار، من أمثال: جون جاك روسو ، فولتير، ديدرو، ومونتيسكيو . سبعون سنة على وفاة المنظر الأول للثورة الفرنسية جون جاك روسو ، كانت كافية كي تهتز فرنسا على إيقاع الثورة 1789 م . مستبدلة سيادة الملك لويس السادس عشر بسيادة الشعب . فضلا عن المذهب الذي تأسس عليه فكر الأنوار، واستثمره تودروف في رسم خارطة طريق نحو التخلص التدريجي من الرقابة الايديولوجية على العقل و الفكر والمعرفة والابداع .
فمن الواضح جدا أن تزيفتان لم يجد، في مسعاه العلمي العميق، الأرض مفروشة بالورود، بل واجه متاريسَ كانت تدافع على نشوب صراع، في ظنهم كان وشيكا، بين الشرق والغرب، إلا أن تودروف سحب البساط من تحت أقدام المنتصرين لهذا الطرح. وتبعا لذلك، فأطروحة صدام الحضارات، التي روَّج لها صامويل هنتنغتون لاقت فشلا ذريعا، بسبب الانتقادات القوية المبنية على أسس علمية، التي وجهها تودروف لهذا المسعى البائد والبربري . ففي كتابه الموسوم ب « الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات la peur des barbares .au delà du choc des civilisations « . إن قوة طرح البديل يستمده تزيفتان من قوة الحوار نفسه و التحلي بالتسامح في بناء حضارة كونية مشتركة مادامت الحضارات ، عبر الصيرورة الزمنية الطويلة ، نتاجا مشتركا بين كافة الأمم و الشعوب منذ السرمدي . ففي هذا الكتاب دعوة صريحة إلى التعايش والتسامح ونبذ العنصرية المتوحشة والبربرية ، فضلا عن مطالبته الصريحة باستبدال القوة التدميرية ، التي يستعملها الغرب في حروبه الصليبية الجديدة في الشرق العربي ، بالقوة الناعمة . بما هي أسلوب حضاري تدفع عن الغرب السلوك البربري الهمجي المتوحش ـ ما وقع في سجن أبو غريب مثلا ـ الذي يقترفه ـ أي الغرب ـ باسم إحلال الديمقراطية أو باسم إسقاط الأنظمة الدكتاتورية . علاوة عن الدور الذي تضطلع به القوة الناعمة في استتباب الأمن وإحلال السلم والسلام في كل أرجاء المعمورة. ومن ثم فهي تضع ضمن أولوياتها بناء الانسان ، من خلال مد جسور الثقة مشتركة في المستقبل ، وتنتصر إلى الانفتاح، دون قيد مسبق، على ثقافة الآخر وعلى ثقافة الأقليات على الخصوص .
ثانيا: ذيوع فكره وتأثيره
في الدارسين للأدب العربي

لا أحد ينكر مدى تأثير المدرسة البنيوية في جل الدارسين والباحثين العرب منذ بداية الستينيات من القرن الماضي . ففي السرد عُرف تودروف كقطب أسنى عمل على تطوير آليات اشتغال النقد ، منطلقا أساسا من البنية المغلقة، التي توجه النصوص الابداعية.
إلى جوار ذلك، وجد تزيفتان الأرض خصبة أمامه، خصوصا وأن دهاقنة هذا التوجه الجديد في النقد أمثال: رولان بارث، وجيرار جينيت، دخلوا في حرب ضروس وأنصارَ النقد الموضوعي، الذي هيمن على الدرس الجامعي الفرنسي زهاء خمسين سنة. فكان جوستاف لانسون نموذج الأستاذ الفرنسي، الذي وقف سدا منيعا أمام هذه الهجمة الشرسة التي يقودها البنيوي رولان بارث . في خضم هذه الزوابع الفكرية و العلمية ، اِنبثق صوت تودروف منتصرا إلى النقد باعتباره كلاما يتوسط العلم والقراءة. وجنح إلى علم السيميولوجيا سوسيرية ـ نسبة إلى فيردنان دي سوسيرـ كأداة فعالة لنقد النصوص الابداعية. انبهر رواد الجامعات العربية على امتداد الوطن العربي بهذا الكم الجديد من المعارف ، التي اجتاحت النسق الفكري الغربي ، فضلا عن الدور التي لعبته الترجمة، حيث أضحت قاطرة وصل بين الفكر العربي و الغربي. فمن خلال كتابه «ما البنيوية ؟» استطاع تودروف أن يلهم به الباحثين الشباب ، نظرا للقيمة العلمية التي يحظى بها هذا الكتاب من جهة ، ومن جهة ثانية لسهولة تطبيق آلياته المنهجية على النصوص السردية . في حين نجد الرواية أهم جنس أدبي طُبقت فيه المفاهيم السردية، التي روَّج لها تزيفتان .
إن هذه الأدوات التحليلية، حسب المهتمين، غائبةً في التراث النقدي العربي، رغم ما بُذل في هذا الصدد من أجل تأصيل هذه المفاهيم الوافدة . فتجنيس العمل السردي كان له كبير الأثر في تحليلات تزيفتان، التي استلهم معظمها من حوارية ميخائيل باختين، علاوة على تعلقها بالبناء الداخلي للجنس الادبي. فمن أهم الرواد العرب الذين تأثروا بهذا المسوغات النظرية، التي استلهمها تودروف من الحوارية الباختينية نجد الناقدة اللبنانية حكمت الصباغ الخطيب، المعروفة بيمنى العيد في كتابها «الراوي، الموقع والشكل» كما أن الباحث المغربي المتميز حميد لحمداني أستاذ السرديات بظهر المهراز بفاس ، كان له الأثر العظيم في استلهام مفهومي الحوارية والمونولوجية ، خصوصا في كتابه حول المرأة الموسوم ب « كتابة المرأة ـ من المونولوج إلى الحوار» .
يظل أفول نجم المفكر العالمي تزيفتان تودروف خسارة كبيرة للفكر الأخلاقي الوازن عبر العالم، والذي تبناه الراحل طيلة مشواره العلمي والأكاديمي، مدافعا عن إنسانية الانسان، غير متعصب لا للدين ولا للعرق ولا للجغرافيا. بجوار ذلك كان الهدف من هذا التعاقد الصريح هو: نشدانه العيش الكريم، الذي يحفظ الكرامة لبني الانسان ؛ ويعيش في سلم وسلام ووئام ، بالرغم من تباين العادات والتقاليد ، التي تجعل من العالم فسيفساء تغري بالاحترام والتقدير.


الكاتب : ذ . رشيد سكري

  

بتاريخ : 26/04/2017

أخبار مرتبطة

خبراء يسلّطون الضوء في الأسبوع العالمي للتلقيح على أهمية اللقاحات في مواجهة الأمراض الفتّاكة   أكد الدكتور مولاي سعيد عفيف

    قضت غرفة المشورة بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء في ساعة متأخرة من مساء الثلاتاء بمتابعة كل من سعيد الناصري،

أكد وزير شؤون القدس في الحكومة الفلسطينية، أشرف الأعور، أن المغرب تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس يعد من الدول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *