تشريح في لاوعي الاستبداد قراءة في رواية «محجوبة» للكاتب إبراهيم حريري

حين قرأت الرواية الأولى «شامة أو شتريت» الصادرة عن دار إفريقيا الشرق سنة 2013 للأديب المغربي إبراهيم حريري، وجدتني أمام اسم إبداعي من الذين أحب أن أصفهم ب «ساكنة الظل» كاستعارة للأدباء الذين (لأسباب غير وجيهة) تجاهلهم المشتغلون بالنقد الأدبي، فيما أعمالهم المنجزة تستحق احتفالا مميزا. فروايته الأولى المذكورة أعلاه التي تناولت أحداث «هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل» و أنماط المصاهرات الأسرية لعائلات اليهود المغاربة، إلى جانب روايته الثانية «محجوبة» الصادرة عن دار إفريقيا الشرق سنة 2016، تضعانه في مصاف روائيين مرموقين مثل : كمال الخمليشي، أحمد التوفيق، حسن أوريد ومحمد علوش.. و آخرين قدموا للمنجز الروائي المغربي أعمالا روائية موسومة بالتميز والفرادة أخصبت سجلات التخييل السردي من خلال اشتغال عميق على التاريخ و الذاكرة، الشيء الذي يؤطر العالم الروائي التخييلي في (شامة أو شتريت)، مثلما يؤطر العالم الروائي التخييلي في «محجوبة» التي تنهل أحداثها من مرجعية تاريخية و اجتماعية ثقافية، تشمل الامتداد التاريخي من عهد الحماية إلى عهد الاستقلال، وهي تصوغ في حبكة روائية أقدار ومصائر الوعي الفردي والجماعي في أزمنة القمع المخزني بالبادية المغربية وتسلط قياد ولاء التحالف المخزني / الحمائي الاستعماري من القايد الحاجي والقايد عيسى بن عمر والقايد أحمد الحلوف والقايد حميدة… هؤلاء الذين كانوا تُبَعا للقايد أحمد الباشا الكلاوي في مراكش، و الذي يأخذ سلطته مباشرة من نظام الحماية ولا يتبع للسلطان إلا بالبيعة.
يؤشر الكاتب في بداية الرواية على أن « الأحداث تنهل من الواقع ولا تقوله، وأي تشابه بين الأحداث والشخوص هو محض صدفة»، وذلك من أجل إبراز أن العمل الروائي يتموقع في المسافة التخييلية بين ما هو «روائي» و ما هو «تاريخي / مرجعي « : أي أن صورة الواقع في الرواية ليست استعادة تطابقية لصورة الواقع المعاش، بل يندرج التخييل الروائي في صلب محاكاة تخترق سجل التاريخ و الذاكرة المعاشة ب»قراءة ثانية»، وآلية اشتغال السلطة المخزنية في البوادي، و تشريح الوعي الانتفاعي لسلطة الفقهاء وسلطة الشرفاء الركراكيين، ونقد الفكر الانهزامي الاستسلامي لأتباع الطرق الصوفية الذين تجمد وعيهم في إرث طقوسي من الماضي لا تأثير له على الحاضر، هذا إلى جانب الخلاصة الكبرى لهذا العمل الروائي الشيق المتمثلة في نقد أوهام الفكر الاستقلالي، كما سنوضح بعد قليل.
على مستوى البناء السردي : نرى أن الرواية زاوجت بين منظور السارد / المؤرخ متمثلا في عائشة ابنة الشخصيتين الأساسيتين في الرواية (المحجوب و محجوبة) التي تحول الحكي إلى مادة تاريخية توثيقية و تحليلية، ومنظور السارد التخييلي الكلي بضمير الغائب الذي يقتفي أثر الأحداث باعتماد ذاكرة تجعل خط الزمن مفتوحا على اشتغال كثيف لأشكال السرد الاستباقي و الاسترجاعي، وهو ما منح لحبكة الرواية مُكْنَة أن تميز الرواية شبيهة بنوع من ترميم الذاكرة المتشطية لحقبة من الواقع الاجتماعي والتاريخي اختلط فيها الوعي المعيشي بأنماط من الوعي خرافية وأسطورية مؤدلجة إلى جانب أشكال التماهي بين الذاكرة الفعلية للواقعي وأصوات وظلال الموروث الشفاهي الشعبي.
تمثل « محجوبة « الجسد و الوعي الجريح لهذه الحقبة من الذاكرة و التاريخ : الوعي المقموع الذي يتساكن فيه الحب والجنون، وهو وعي تراجيدي يعكس طبيعة الحالة الانفصامية والموقف الاستسلامي الانهزامي لوالدها الفقيه سعيد الماروري المنتسب إلى الطريقة القادرية والذي سيعمل على «تتريكه» قياد الحماية و الباشا الكلاوي من القايد الحاجي إلى القايد حميدة…لكن خلاصها لا تظهره الرواية كاملا ومتحققا…لأن التاريخ يعيد نفسه، سواء في أزمنة الحماية أو في أزمنة الاستقلال، معيدا إنتاج نظام القمع و الاستبداد. ويمثل الزوج المحجوب قيم الوعي النضالي و النظرة المثالية الحالمة بواقع بديل من خلال انخراطه في الحركة الوطنية ، وانتمائه إلى حزب الاستقلال. إنه الابن الشرعي لهذه البادية المضطهدة ذات الوعي الايديولوجي المتسامي والذي من خلاله عكس لنا المؤلف جانبا من إيديولوجية الحركة الوطنية المناهضة للمستعمر والداعية للاستقلال. وطبعا فإن هذا الوعي المثالي يتحول في نهاية الرواية ( خلال عهد الاستقلال) إلى وعي شقي، بل و تراجيدي، حين تُظهر عائشة وهي تحلل اشتغال ذاكرة السلطة والمخزن والأحزاب إلى أن الواقع يعيد إنتاج نفس منظومة القيم الاستبدادية في حركة دائرية و لولبية للتاريخ.. والفصل الأخير من الرواية بعنوان (عودة محجوبة) يفيض بخطاب فاحص لارتكاسات هذا الوعي الشقي. واحدة من أبرز العلامات المضيئة في هذه الرواية، تتعلق بطبيعة التشخيص التخييلي للبادية المغربية وهي أنه على النقيض من تلك النصوص الروائية التي قدمت تلك الصورة المبسترة عن البادية ، باعتبارها هامشا للمدينة أو باعتبارها فضاء طوباويا لتسيد قيم الرومانسية والعذرية أو باعتباره عالما فلكلوريا غرائبيا، فإن الكاتب إبراهيم حريري يقدم لنا البادية المغربية كنص اجتماعي وثقافي زاخم بكل علاماته التاريخية و الانتروبولوجية. البادية : بما هي المغرب المنسي والمغرب اللانافع والهامش الاجتماعي ‘الذي ليس بالضرورة هامش المدينة). بل الهامش الذي أسسته السلطة المخزنية وهي تنظم العلاقة به من خلال البيعة تارة ومن خلال السيبة تارة أخرى، وهو ذاته الهامش الذي أدرك المستعمر الفرنسي أنه المساحة الفائضة عن حاجة المخزن ليستثمر في فضائه تكريس قيم النهب الاستعماري من خلال توظيف مؤدلج لاشتغال ما يحكم وعي هذا الهامش من إسلام رسمي و إسلام شعبي وفكر خرافي و أسطوري.
أبدع الكاتب إبراهيم حريري بجرأة متميزة في صناعة شخوصه الروائية و تأطير بنية الوعي واللاوعي لشخوصه. تستحق شخصية المرأة دراسة خاصة من خلال الوقوف عند شخصيات مثل ( محجوبة، للا خدوج، عتيقة، الشيخة ميلودة والعبدة كبورة….إلخ) لإبراز نمط آخر من التسلط الذكوري الذي خضعت له المرأة في تاريخ البادية المغربية. وبالمثل، فإن تشريح الرواية لشخوص القياد وتكوين عالمهم النفسي، تمنح للناقد إمكانية الاستعانة بعتاد وافر من منظومة التحليل النفسي لإبراز شخصية المستبد في تجلياتها المختلفة : الفصام، جنون العظمة، السادية، العجز الجنسي، القتل، العنف، العبث والمجون، التأله وحلول المقدس في المدنس….الخ). وفي نفس السياق ومن خلال شخوص مثل المحجوب، الفطواكي، الفقير سعيد وأيت السي، نقف عند هذه التركيبة الانطولوجية للشخصية المغربية التي يلتبس قي وعيها حدود التمايز بين الديني والايديولوجي إذ الرواية تنتهي إلى تأكيد حقيقة كبرى وهي : إن الفضاء الرمزي لتشكل الاستبداد كان دائما ولا يزال هو استغلال منظومة الالتباسات بين الديني والايديولوجي. ويكفي أن نستدل هنا بالتحليل العميق الذي تقدمه الرواية لسلطة الشرفاء الركراكيين لنلمس هذا البعد بوضوح. فعلى امتداد تاريخ من القهر والقتل الدموي الذي مارسه القياد في البادية المغربية، كانت ناقة دور ركراكة في أرض الشياظمة تمرح في حقول القياد، تلك الحقول من الأراضي المغتصبة بالنهب والتتريك والتصفية الجسدية.
رواية «محجوبة» إضافة قيمة ونوعية إلى المتن الروائي المغربي، تجعل الأديب إبراهيم حريري يوقع اسمه بجدارة كروائي بإمكانه أن يغني الأدب المغربي بأعمال روائية لا شك أنها ستكون موضوع اهتمام كبير في الأوساط النقدية ومحافل الدراسات الجامعية… فرواياته تتأسس على إرث معرفي، وتجعل التخييل السردي حقلا منفتحا على مباحث للتاريخ وعلم الاجتماع والانتربولوجيا والحقل الديني…إن المتعة الجمالية لديه تأتي دوما متضامة مع عمق السؤال المعرفي، أو كما يقول أمبرتو إيكو عن إحدى الروايات لإيطالو كالفينو « لا تنظر إلى الشجرة، انظر إلى الجذور، و البذرة المانحة للحياة «.


الكاتب : محمد علوط

  

بتاريخ : 21/04/2018