تنويع حكائي متخفف مجموعة « عندما يطير الفلاسفة « للقاص محمد أيت حنا : تخلق القصة بين اليومي وقلق السؤال

ـ1ـ
أظن أن الحديث عن أي مجموعة قصصية مغربية ، يقتضي لفت النظر للامتداد القصصي بالمغرب منذ التأسيس إلى الآن ؛ وغير خاف أنه امتداد يحتوي على منعطفات و إبدالات ، تبعا للسياقات المرحلية . ويمكن تلخيص ذلك ـ رفقة دراسات نقدية درجت على هذا التناول ـ في:
ـ لحظة التأسيس ، وما تحمله من بدايات وتقليد ، وفي الصميم طغيان الهم الوطني في مرحلة ما قبل الاستقلال بالمغرب ، وبالتالي غلبة المحتوى والوظيفة على شعرية وأدبية النص الحكائي . فكان البطل وطنيا ، يبحث عن وطن على الأرض وليس في القصة .
ـ لحظة التأصيل : وهي اللحظة التي انفتحت فيها القصة على تناقضات الواقع وبالأخص منه الاجتماعي ، بتسقط الخلجات والانعكاسات الاجتماعية والنفسية لأبطال يخوضون حروبا يومية ، في معترك المعيش الذي تشعب وتعقد ما بعد الاستقلال . فكانت القصة تبحث عن مغربيتها ، بتصوير الحياة الاجتماعية بالتركيز على الهوامش والظلال .
ـ لحظة التجريب : والتي راكمت طرقا سردية وزوايا نظر اشتغلت على اللغة والتخييل والقصة نفسها . طبعا لم يولد ذلك من فراغ ، بل من امتداد قصصي بالمغرب ، دون إغفال التفاعل مع روافد سردية متنوعة ( غربية ، مشرقية ، سردية أمريكا اللاتينية ..) .
خلاصة القول هنا ، إن الامتداد السردي بالمغرب عرف إبدالات دون أن يعني ذلك قطائع ، مع أسماء نذكر منها على سبيل التمثيل عبد المجيد بن جلون ، عبد الكريم غلاب ، محمد بن رادة ، محمد زفزاف ، إدريس الخوري ، أحمد بوزفور، محمد عز الدين التازي… وهو ما يقتضي تلاقحا جماليا دون نفي الخصوصيات؛ للاستمرار بخلفية متينة في الكتابة والأداة.

ـ2ـ
في تواز مع ذاك العطاء وتناميه المتنوع ضمن سياقات غاصة بالأسئلة بما فيها الأسئلة الأدبية ، ظهرت إطارات قصصية وبالأدق جماعات : نادي القصة بالرباط ، جماعة الكوليزيوم ، نادي القصة بالبروج ، مجموعة البحث في القصة القصيرة ، الهامش القصصي… نقوم هنا بعرض هذه الإطارات للتنصيص على بعض الملاحظات؛ منها أن هذه الروافد أسست من قبل مبدعين قصصيين. فتأسيس حلقة ما، يعني تمرير طريقة ورؤية جمالية وفكرية إبداعا وتنظيرا..على أي ، دون الخوض في سياقات ذلك وملابساته ؛ أريد أن أؤكد أن هذه الإطارات ساهمت في اتساع دائرة القصة وإغناء أفقها الجمالي المتنوع .

ـ3ـ
« عندما يطير الفلاسفة « لمحمد أيت حنا ، واحدة لما أشرنا إليه من تنوع ، لذا نراها في تخلق داخلي وانفتاح إحالي على أنواع إبداعية ومعرفية في الكثير من قصصها ( الفلسفة ، التشكيل ، الموسيقى ، التصوف..) . وهو ما خلق جدلا فنيا جذابا؛ إنه ليس تناصا إبداعيا بعيدا عن الواقع ، بالتقوقع في مرجعيات عالقة ؛ بل حوارا إيحائيا بين التناقضات اليومية ( في الشارع ، في الحي ، الهجرة ..) والحقائق الفلسفية التي هي بمثابة قفزات قد تصل إلى القفز اللانهائي في الهواء. تقول قصة» الفيلسوف الطائر « في نفس المجموعة : «..وفي إحدى لحظات حياته الأكثر تألقا أحس أن بإمكانه أن يحلق عاليا ، فاقترب من حافة شرفته حتى حذاها ثم أسلم نفسه للريح ، وحلق عاليا..ملتحقا ب» اسبينوزا « وباقي الأصدقاء «. لكن حدث انتحار الفيلسوف هذا ، ستستهلكه الصحف في اليوم الموالي ببرودة كأن الموت يوظف سياسيا أيضا .
تسوق مجموعة « عندما يطير الفلاسفة « الكثير من التناقضات اليومية والمعرفية ضمن مسارات متوازية ، أو قل تناقضات تفضي لأخرى إلى حد الإحساس بالعبث الباعث على سخرية ظلت سارية في التلافيف . تقول قصة» أخلاق الكلاب « في « عندما يطير الفلاسفة « : « ولا أخفيكم سرا، أني كدت أحب كلوبيتي ( من كلب ) في كندا ، إذ كنت أنفق سحابة يومي في الأكل والنوم واللعب ..وفي المغرب، تنقلت بين عدة ملاكين ، فصرت كلبا ضالا أنام على الأرصفة آكل القمامة « . من خلال هذا المقطع الحكائي (وأخرى) ، يسعى السارد اعتمادا على معادل موضوعي ( الكلب ) أن يمرر قيما معينة ؛ وهي تقنية قديمة في تراثنا الأدبي العربي توظف بعض الحيوانات كأقنعة تشير وتلمح وهو ما يخلق إيحاءا ولعبا متبادلا .
أما من حيث المبنى السردي لتبليغ هذه المضامين في « عندما يطير الفلاسفة»، يمكن القول إن السارد يشكل بؤرة السرد في كل قصة من المجموعة ، باعتباره فاعلا في كل لبنات الحكاية ؛ مما يجعل المؤطرات السردية ( من حدث ومكان وزمان ..) تظهر وتختفي بسرعة لأن كل قصة في « عندما يطير الفلاسفة « تنبني على الفكرة التي تتشكل أمام القارئ كورشات من المقروء والأحلام والتأملات. وهو ما جعل كل حكاية تتوالد من الداخل انطلاقا من قطرة سردية طبعا تكبر إلى أن تغدو إقامة زجاجية ( أي شفيفة) منفتحة على نفسها وعلى الآخر ( الواقع والمرجع الفكري) .
« عندما يطير الفلاسفة « للقاص محمدأيت حنا ، مساهمة جادة وجديدة في حقلنا السردي المغربي والعربي عامة ؛ بناءا على تنويعها الحكائي المتخفف من القوالب الجاهزة ، والغني بالدفق المعرفي والفلسفي الذي يمر عبر الذات فيغدو ملونا وإيحائيا.
وهذا يعني أن ثمة جيل جديد له قلقه المنفلت عن أي إجماع أو مواضعات ماعدا المشي على حافة رصيف لزج لا ينتهي في العمق والمحتمل ، فتعددت الصياغة والرؤى التي ذوبت الكثير من أنماط السرد المترسب في الذاكرة والوعي الأدبي نذكر هنا محمد فاهي وقطراته القصصية المضغوطة كسيل. وأنيس الرافعي ولعبه الذي يقلب أية مائدة سرد . مصطفى لغتيري ومراياه القصصية المقعرة . عبد الواحد كفيح وحقيبة الطفولة . عزالدين الماعزي وامتصاصه للهامشي والمنسي . عبد الله المتقي ومفارقات الهوامش …وهي امتدادات بكل تأكيد لقص عربي ، بدأ يتخفف من شحوم السرد الثقيل، استنادا على قلق خلاق، نتمنى أن تكون له حساسيته وأفقه الجمالي.
ـــــــــــــــ
« عندما يطير الفلاسفة « لمحمد أيت حنا ـ منشورات أجراس بالدار البيضاء سنة 2007


الكاتب : عبد الغني فوزي

  

بتاريخ : 19/10/2018