جديد دراسات التاريخ الثقافي لمنطقة الشمال.. التربية والتعليم بالريف

 

تابعت دورية «مجلة الذاكرة» تعزيز مسارها العلمي الرفيع بإصدار عددها الثالث عند نهاية سنة 2018، في إطار أفق عام أخلص في الوفاء للمنطلقات العلمية التي حددتها المجلة منذ صدور أولى أعدادها بعنوان تفريعي دال، اختزلته صيغة «مجلة علمية محكمة تعنى بالريف تاريخا وحضارة وفكرا». ويمكن القول إن العدد الأخير استطاع أن يضع الأسس الصلبة لخط تحريري صارم في التعاطي مع مجمل التراكمات الحضارية التي راكمتها منطقة الريف في سياق تطوراتها التاريخية الطويلة المدى. لم تركن المجلة التي يصدرها «مركز الريف للتراث والدراسات والأبحاث بالناظور»، للأجوبة السهلة المرتبطة بارتدادات حالة الاحتقان التي عرفتها منطقة الريف بشمال المغرب خلال الفترة الماضية، ولا بأجواء «الهوس الهوياتي» المرتبط بسياقات التدافع العرقي الذي أصبح صفة ناظمة للكثير من عناصر الفعل والمبادرة داخل المجال المغربي الواسع والممتد. وفي المقابل، اختارت المجلة الانحياز لصوت البحث العلمي المتخصص، ولصدى التنقيب الأكاديمي الفاحص، ولآفاق التأصيل لشروط تحقيق التصالح الحقيقي مع الذاكرة ومع التاريخ، وفق رؤى جريئة في إعادة تقليب صفحات التفاصيل «الأخرى» الكامنة في الهامش، أو المنزوية في ظل الوقائع المركزية الكبرى الموجهة للمسار العام للدولة وللمجتمع المغربيين. باختصار، سعت المجلة إلى الانخراط في مغامرة البحث المونوغرافي المجهري الذي لا يستسهل النتائج، ولكنه يتسلح –بالمقابل- بكل العدة المنهجية والمعرفية الكفيلة بإعادة تفكيك بنى الريف المتداخلة، بحثا عن معالم البهاء الذي صنع للمنطقة ريادتها الحضارية العريقة.
انسجاما مع هذه الرؤية العامة، خصصت المجلة مضامين العدد الثالث لملف «التربية والتعليم بالريف»، في محاولة لوضع أسس كتابة تاريخ العطاء المعرفي والثقافي للمنطقة، على ضوء مخاضاتها الداخلية العميقة، وعلى أساس تأثراتها وتفاعلاتها مع مجمل مكونات محيطها الإقليمي والوطني والدولي الواسع والمتشعب. ولعل هذا ما سعى الأستاذ الميلود كعواس إلى إبرازه بشكل مركب في كلمته التقديمية للملف، عندما قال: «إن المطالع للتاريخ ليجد أن كل أمة قد بذلت جهدها في تهذيب نفوس أبنائها، وشحذ عقول أفرادها، وقد كان لأهلنا في الريف المغربي إسهامات مشكورة في هذا المجال، بل إنهم قد حصلوا سبقا تاريخيا، وحققوا أولية علمية على مستوى الزمان والمكان، وليس هذا من قبيل الادعاء أو الاعتداد بالذات، وإنما هو إقرار بما هو كائن وثابت، إذ يكاشفنا أبوعبيد البكري، مثلا، بأن أمراء بني صالح بنكور قد كان لهم قصب السبق في تشييد المؤسسات التعليمية، فقد بنوا على مستوى نقطة التقاء نهري نكور وغيس مدرسة رباط نكور، التي يمكن اعتبارها أول مدرسة عرفها التاريخ إلى الآن في البادية المغربية، وهي أسبق بكثير من حيث التأسيس لرباط أكلو بضاحية مدينة تزنيت… ونظرا لأهمية هذا السبق الذي عرفه الريف في هذا المجال، ورغبة في لفت أنظار الباحثين إليه، ارتأينا في مجلة الذاكرة تخصيص ملف هذا العدد لتناول هذا الموضوع، ونفض الغبار عن بعض جوانبه…» (ص ص. 5-6).
في هذا الإطار، احتوى الملف على دراسة لأحمد الفقيري في شكل تعريف عام بمراكز التربية والتعليم بالريف المغربي، ودارسة ثانية لعبد الرحمن الطيبي حول المشروع التعليمي لمحمد بن عبد الكريم الخطابي، في حين قدم مصطفى الغديري قراءة في كتاب «التربية والتعليم في برنامج محمد بن عبد الكريم الخطابي». وفي آخر مواد الملف، نجد دراسة لعبد الله بوغوتة في شكل قراءة في كتاب «المدرسة والإيديولوجيا في منطقة الحماية الإسبانية في شمال المغرب» لإرين كونسلبيث.
وإلى جانب هذا الملف المركزي، احتوى العدد الثالث من دورية «مجلة الذاكرة» على دراسات وأبحاث، اختلفت في أدواتها الإجرائية، والتقت في آفاقها العامة المرتبطة بالبحث في تحولات ماضي منطقة الريف العريق. في هذا الإطار، نجد دراسة لعبد العزيز طليح حول أدوار مركز «اسناذة» بالريف، ودراسات منفصلة لكل من عبد الواحد الكركري ومحمد بنعلي حول التطورات المجالية لقبيلة بنوبويحيى. كما اهتم موسى مرغيش بفحص مضامين محاضرات السوسيولوجي الفرنسي إدوارد ميشو بلير حول منطقة الريف. وتتبع كل من المودن موسى وآسية واردة، بعض من دعوات المتنبئين بمنطقة الريف، واهتم جواد الزوبع ببعض القضايا الصرفية الخاصة بأمازيغية تاريفيت.
وإلى جانب كل ذلك، احتوت المجلة على العديد من الأبواب الثابتة الخاصة بالترجمة، وبالنصوص الدفينة، وبالمعالم والآثار، وبأعلام المنطقة، وبالمتابعات ذات الصلة. وبكل ذلك، استطاع القائمون على هذا المنبر تقديم منتوج علمي رفيع، لا شك وأنه يساهم في تنظيم الجهد المشتت والموزع، قصد الوصول إلى مستوى متقدم للارتقاء بالمعرفة العلمية لماضي منطقة الريف العريق، ولارتدادات ذلك على واقعنا القائم. لقد أثبتت المجلة، من خلال أعدادها الثلاثة الصادرة إلى حد الآن، ممكنات هائلة للاشتغال وللاحتفاء بذاكرة منطقة الريف، في أفق تحويلها إلى قاعدة للنهوض وإلى أرضية صلبة لتحقيق المصالحة الضرورية التي لازالت تنتظر انبثاق إرادتها الجماعية بالنسبة للدولة وللمجتمع وللنخب. ويقينا إن تلقيح هذا المسار بنتائج البحث الأكاديمي المتسامي عن الانسياق خلف أوهام «الأصل» أو «العرق» أو «الآخر»، يشكل خير جواب عن الآفاق الواسعة التي تؤسس -من خلالها- «مجلة الذاكرة» لمسار بديل في التعاطي مع الشأن العام لمنطقة الريف، وفق تأطير ثقافي وعلمي يمكن أن يقدم الكثير من الأجوبة عن منغلقات المرحلة وعن العديد من حالات «سوء الفهم» المتبادل الذي لازال يرخي بثقله على الكثير من أشكال تعاطي المركز مع واقع المنطقة ومع انتظاراتها المؤجلة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 18/07/2019