حتى لا تظل الذات خارج المفهوم

صدر مؤخرا للشاعرة المغربية سعاد الطوسي ديوانها الشعري الثاني بعنوان « المقعد الخلفي للجنة «. يضم 31نصا عن مطبعة: إفريقيا الشرق. يعتبر امتدادا لديوانها الأول  « محراب الصمت « من حيث الشكل وكذلك المضمون الذي لا يبتعد عن ما تتطلع إليه الذات الشاعرة، وبذلك تكون قد أعلنت عن نواياها منذ البداية.
اعترافها الذي دونته في المقدمة الموسومة ب «إطلالة « في الصفحة ( 10 ) : « أذنت للحروف أن تعانق رياح العمق  لترسم لوحات من دخان، أو تنام على بياض روحي ليحضن هواجسي مادام النبض اختار أن يجود بمشاعره التي اعتقلها الزمن سنين.» هذا الاعتراف جعل القارئ أمام  بوح نابع من الذات. ذات اختارت الكتابة الشعرية لتحيا من خلالها.  قد تكون الكتابة لحظة استراحة حين يكون الكاتب منشغلا بوزر ثقيل، يتنفس من خلال خلق عوالم موازية لعالمه. وقد تكون سلاحا كُرس للنضال. والنضال هنا لا أعني به الحرب، بل الانتصار لكل ما نؤمن به وبصوابه وملاءمته لما يضمن الحياة الكريمة في ظل التكافؤ الاجتماعي. فبماذا جاد عمق الشاعرة سعاد الطوسي؟ هل عكس ديوانها انشغالاتها وهمومها اليومية ؟ أم مجرد هلوسات جادت بها قريحتها الشعرية ؟
« المقعد « مفردة بسيطة بمعان مركبة، وبمدلولات تتشعب نحو اتجاهات مختلفة، بانعكاس يتسع ويتشتت كلما ابتعدت عن منبعه. تم حشره بالمكان الخلفي للجنة، فأصبح « المقعد الخلفي للجنة» عنوانا ذكيا لمجموعة شعرية، نصوصها لا تعترف باللحظة الساكنة. تبحر بالمعاني في اتجاهات متعددة لتطفو الحقيقة التي يراد إغراقها في العمق، وانتظار منطوق الحكم. للمقعد معاني مختلفة؛ ذاك الشيء العادي الذي تستريح عليه الذات، بإمكانه أن يتحول إلى عرش وتحكم من خلاله العالم. يقول عنه ابن سيرين: الحلم بالمقعد أو الكرسي في المنام يدل على الخير ومحمود رؤيته، ومن يرى في حلمه أنه يسقط من فوقه فإن حلمه يعد إشارة على فشله. هو أرض للاعتراف والبوح، وأيضا أداة للعقاب. هذه فقط بعض المعاطف التي يتجمل بها المقعد أو الكرسي، وجُلها تحتمل معاني إيجابية وسلبية، وأحيانا متناقضة، تدل على الشيء وضده. لكن لماذا «المقعد الخلفي للجنة» كعنوان لمجموعة الشعرية ؟ هل هو تكريس للتناقض الذي بُني عليه المجتمع، حيث الكراسي الأمامية محجوزة والخلفية مجرد مقاعد للبقية ؟ أم دعوة للتمسك بالحذر في التعامل مع الآخر الذي لا يؤمن بالاختلاف ولا يعترف به ويتركه في الظل ؟ أم هو إعلان ضمني ودعوة للبحث عما ترمز إليه النصوص، وعدم الاكتفاء بالمعاني السطحية التي قد تبدو بسيطة وعادية ؟ يجلو ذلك في نص: سؤال مؤرق، حين يُطرح السؤال بصفة مباشرة دون الاختفاء وراء تابوهات أو أقنعة ظرفية مناسباتية. تقول الشاعرة:
سألته ما الفرق
بين وطء وعشق.
أخفى بصره عني
داعب السماء لحظة الشفق
أخفى ابتسامة الخبث
دون إخفاء نظرة الشبق
أجابتني عنه كوني متعة زائلة
زوال ذاك الشفق.    ( ص 63)
قد يبدو التساؤل للوهلة الأولى عاديا، لكن حين يأخذ المفهوم في التحرك من الضد إلى الضد، تجد نفسك مجبرا على التوقف مهلة للتفكير، من أجل استيعاب ما هو مدسوس، فقد يكون المفهوم ملغوما وبإمكانه الانفجار في أية لحظة. المفهوم السطحي لكلمة، الوطء، يعني الجماع، ولا يمكنه أن يبتعد عن المشاعر. لكن في نفس الوقت يعني شيئا آخر. وطِئ الشَّيءَ يعني داسه برِجْلِه أو دنسه،وطِئ أرضَ العدوّ، غزاها و دخَلها واحتلها بالعنف. نلاحظ أن هناك معنى مقصودا وآخر ضمنيا مدسوسا يفهم من خلال سياق الكلام. فمحمول الجمل حُمل بالمعنى والمعنى المضاد. لفهم المعنى الحقيقي يجب ربط الكلام أوله بآخره، ويتضح الخطاب بقراءة النص كوحدة متكاملة تشكل المعنى العام الذي شُيد النص من أجله. هنا نتساءل: لما هذا الخطاب المشفر ؟ لماذا هذا السؤال الملغوم ما الفرق بين الوطء والعشق ؟ هل لابد من وجود الآخر بوجهين ؟ لماذا صار الخبث إيمانا راسخا ؟ هل تمنح النفس ذاتها إلى من يدعي الحب أو يعتقده نزوة عابرة مثل عبور الشفق ؟
تكرست تلك التساؤلات في نص « تماهي»، الذي هو بصفة عامة مقارنة بين حب المرأة وحب الرجل. أو الحب المتوفر وما تحلم به الذات الشاعرة التي يمكن كشف وجودها في المقدمة الاستهلالية المقتبسة من قولة الأديبة غادة السمان :» عمر الكبرياء عندي أطول من عمر الحب ودوما ما كبريائي يشيع حبي إلى قبره». كما أنها تكرر في نصوص أخرى كنص «رجاء ارحل». وأيضا في نص «إصغاء موجع» الذي جسد همومها وقلقها الوجودي، بحيث اسُتهل بمقولة العلامة الصوفي الشهير شمس الدين التبريزي. « إن في الحياة فترات انتقالية، لا يمكن اجتياجها دون أن يموت شيء بداخلك» . وقد تضمن النص كذلك التساؤلات التالية:
كيف لوطن يرضى بالذل ؟
يرضى أن تموت نساؤه،
أن تشرى الذمم وتباع،
أن تفتح أسواق النخاسة،
أن نسوق الكذب والبهتان،
أن نلمع صورة الواقع،
أن ندفن الطموح بفخر
وفي كل المحطات يذاع. ( ص 67)
نحن أمام نصوص من إبداع شاعرة، وجدت في نظم الشعر حقيقة جميلة تحيا من خلالها بأشكال مختلفة، وبطرق متعددة، وجسرا تعبر منه نحو أماكن قد تبدو للعين سريالية ومستحيلة، لكن بلغتها رسمت وشكلت وأبدعت ما يعجز الواقع عن احتوائه. باعتمادها على شاعرية النص، لخلق الامتياز والأفضلية، مع التركيز على فن رتق الحرف والكلمات، الذي يلف البعد الدلالي برمزية تحيل على المعنى المطعم بنصوص قديمة ومقولات موحية تجلو الغرض الذي من أجله نظمت النصوص بشكل عام. فأمكنها بذلك أن تُلوح لحارس السماء، وتمسح عن القمر دمعه المبعثر، وتراقص نجماته مثل هائمة تبحث عن الحروف والمعاني لتنتعش بتذوق نبيذ المفهوم ودلالة المحمول، وأن تسافر عبر المتخيل الشعري إلى عوالم مبتكرة بشغف ينافس الغواية، لتخلق لذاتها حبا عجز العالم عن خلقه لها.
هذه النصوص، أو هذا المتخيل الشعري إنما هو عوالم مختلفة، كل واحد منها يقص خباياه، بطريقته الخاصة، لكنهم يتفقون في قوة اللغة التي اكتسبت شعريتها من خلال خلق صور متعددة لذات خلفيات مثيرة. صور مركبة تختزل الأحداث المعبر عنها وترسمها كما تراه في عمقها لا كما يبدو عليه بألوانها البراقة المضافة، فالأصل عادة حرباء يبدي عكس ما هو عليه. تبدو الصور صرخات لا يمكنها ألا تسمع، تعكس تجارب أو حالات اختزلت دلالاتها في بورتريهات استهلالية مقتبسة من حِكم أو من عصارة تجارب مفكرين منهم الفيلسوف والصوفي والأديب والشاعر… . ولعل الخيط الرابط بينهم أنهم خلدوا مرورهم ورسموا أسماءهم في كتب التاريخ الإنساني العالمي. نذكر منهم ـ على سبيل الذكر لا الحصر ـ: فان غوخ، أنسى الحاج، الصادق النيهوم، خليل مطران، ثيودور أدورنو، وليم شكسبير، لؤي أحمد نزار، نزار قباني، ابن الفارض، إليا أبو ماضي، المتنبي، محمد درويش، ابن الرومي، التبريزي، ابن رشد، أبو العلاء المعري، فكتور هوجو، أبو نواس، وغيرهم. مما يُظهر انفتاحها على الثقافة العالمية وسعة اطلاعها على الموروث الثقافي الإنساني.
تتمرد نصوص الديوان على الأنساق الثابتة بلغة وبزمن يتوه في المطلق وينصهر مع اليومي. لغة تجنح للصمت لتنظر وتحلل وتتساءل، لكن سرعان ما تكسر جدرانه السميكة عبر صرخات تنطلق متتالية الدفع حين تحكي عن موقف ما، أو حين تطمس وتخفى حقيقة ما فتفضحها وتنشرها للعلن، عبر رمي الذات إلى خنادق الحروب المشتعلة، وخلف خطوط الدفاع الأولى بوجه عابس وأياد تشير إلى الخلل.
تلك الذات متمردة، لا تستطيع النصوص احتمالها رغم وجودها المكثف المعلن أو الضمني، من حيث كونها تأخذ أشكال متعددة وتجليات مختلفة. ولا تنقطع عن طرح التساؤلات في محاولة اكتشاف نفسها عبر رصد الاختلافات والاختلالات والتحولات التي تصاحب عملية الاستمرار والتقدم الحضري، في عالم رغم أنه ادعى التطور ومسايرة الركب، فقد حافظ في عمقه على غابته ونشأته البدائية، ـ على الأقل في تفكير البعض ـ . تلك الذات الحالمة تحيا في اللا مكان، الذي يتسع ليشمل الوطن والكون برمته، قد يكون قمرا، سماء، بحرا أو يختزل في فنجان قهوة، أو في الذات الحالمة التي لم تعد تتأثر بالدهشة الفلسفية، فالأشياء بالنسبة لها فقدت مصداقيتها، حين اختل توازن القيم والأخلاق وسيطر الوهم. وعلى عكس المكان فالزمن حاضر بقوة، لكن لا يقاس بالمسافات التي تفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، لتداخلها ولاعتماد الشاعرة على الأحاسيس والمشاعر، التي تشكل الخيط الرابط بين نصوص لا تركز على المكان كمكون أساسي في البناء السردي.  كما أن استخدام الزمن لم يكن اعتباطيا، والإحساس به لم يكن بهدف التيه في شساعته أو لمجرد الهروب، بل هو تجليات تعكسها لغة منصهرة في اليومي، وصرخة لاستعادة الكرامة.
لكل نص زمنه الخاص، يرصد تفاعل الذات بالمحيط الذي يحتويها، أو بالآخر الذي يتعايش معها وفق قوانين موروثة أو محددة سلفا، وحين تحاول الشاعرة البحث عن ذاتها فيه يصدمها الاختلاف بين الأنا الناظمة للشعر وبين الآخر الذي يستهدفه النظم الشعري، ذلك الذي يرفض من يقابله. يرفضه لا لشيء فيه يستوجب الرفض، يرفضه فقط لأنه يختلف عنه. تلك الصدمة الموجة التي انفجرت شعرا، نتجت عن الغياب، غياب ما يروج له كالمساواة وتكافؤ الفرص والقيم الإنسانية النبيلة. فتقف الذات الشاعرة لتشي بمحمول أفكار هذا الآخر المفتقر لثقافة الاعتراف، أو تعاتبه عن تخاذله، عن غيابه، عن، الإهمال المقصود المكرس للاختلاف الجنسي وما يصاحبه من موروث عقائدي إنساني يؤمن بأفكار تجاوزت، واخْتُلقت لتكرس سيادة النوع. تقول في قصيدة «آخر محل للورد»:
كفر الفقر زغاريد
نحيب النساء،
صراخ الصدور، غناء العرس
خيام من ذل،وللذل نُصبت
استقبلت أعدادا من النساء
عمرهن ضاع في برهة
بُعَيْدحياة مذاقها المهانة
طعمها المرارة
لبها علقم من  يأس
من غبن
من وجع
من  تشريد
ابتسمن حزنا
ألقين بالجسد
وبالحذاء القرمزي
وساما على صدر سارق الأحلام
ذاك الذي باسم الدين تصدق ضاحكا. (ص 71)
يضم الديوان صرخات مشتتة لأصوات متعددة، أخرست لسبب أو لآخر، تناولتها الشاعرة بخلفيات متعددة، وبإحساس بالاغتراب الذي تعاني منه الذات الشاعرة في تعاملها مع الآخر، الذي يفرض التغير نخو الأفضل وقبول الآخر بغيوبه وأفضاله. كما سخرت النصوص صوتا للذين لا صوت لهم، كاشفة بذلك عن العلاقة التي تتقاسمها مع من اختارت الشاعرة الكلام بلسانهم، دون إتباع أي تسلسل زمني يحدُّ من انسياب النصوص وامتدادها في الزمن. علاوة على ذلك فالقصائد تتمفصل في لحظات تنافر ورفض الإجباري والتطلع إلى ما هو أحسن عبر البوح والاعتراف والتنديد. كل ذلك تم نسجه بلغة قوية بسيطة تعتمد على التصوير والشاعرية، وبنفس سردي يرسم المتخيل الشعري ويخلق التميز داخل القصيدة النثرية.


الكاتب : عبـد العالـي أنانـي

  

بتاريخ : 22/08/2019