حكايات من قلب واقع التمريض مسار بطموحات وكسب التحديات 25 :

الممرض .. العمود الفقري لكل المؤسسات الصحية بمختلف مستوياتها، «الدينامو» المحرك للعملية الاستشفائية، الذي يقوم بالعدد الأكبر من المهام لفائدة المرضى، ويتعامل مع مختلف الفئات والأشخاص، أحيانا حتى ما قبل ولادتهم، عندما تكون المرأة حاملا وتقوم بالوضع، وبعدها في مرحلة الرضاعة، فالطفولة، ثم الشباب، وعندما يبلغ المرء أشدّه، وبعد ذلك أثناء مرحلة الكهولة. طيلة هذه المسيرة العمرية، يحضر الممرض والممرضة، لتقديم حوالي 80 في المئة من الخدمات الصحية.
الممرضون والتقنيون يشكلون نسبة 56 في المئة من مهنيي الصحة، يقومون بمهام جسيمة، قد تنال اعترافا من طرف البعض، وقد تواجه بالجحود والنكران من طرف البعض الآخر، خاصة من الذين ينظرون للممرض نظرة تقليدية، نظرة «الفرملي»، انطلاقا من منظور «تقزيمي»، ممن لا يزالون سجناء زمن مضى وولى، ولا يعلمون بأن الممرض إطار بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وساعد من سواعد النهوض بالمجتمع وبنائه.
الممرض ليس دائما عنوانا للرشوة، للتسويف واللامبالاة … والممرضة ليست هي تلك الشابة التي تهتم بأظافرها، وتضع فواكه في جيب وزرتها، المشغولة بهاتفها النقّال .. وهي الصور النمطية التي تحاول بعض التصنيفات تكريسها وتعميمها، باعتبارها قاعدة وليست استثناء كما هو حال مختلف القطاعات.
الممرض قصة ليست كباقي القصص، يومياته ولياليه حكايات تستحق أن تروى، هو جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع، بإيجابياته وسلبياته، وبالتناقضات التي يحبل بها.
للتقرب أكثر من الممرضين والممرضات، تفتح «الاتحاد الاشتراكي» صفحاتها في فسحة رمضان، لعدد من المنتمين لهذه الفئة، لكي يحكوا عن طبيعة الأقدار التي ساقتهم لاختيار هذه المهنة، أو ينقلوا إلى القراء تفاصيل واقعة من الوقائع التي عاشوها والتي تركت وقعا خاصا عليهم، للكشف عن وجه آخر للممرض/الممرضة غير ذاك المتخيّل في كثير من الأذهان.

رأيت النور في الراشيدية سنة 1964، التي تلقيت بضواحيها تعليمي الابتدائي والإعدادي، بينما قضيت مرحلة الثانوي بثانوية محمد الخامس بكلميمة، تخصص علوم طبيعية تجريبية. كانت الأمور تسير بشكل طبيعي إلى أن اضطررت سنة 1983 وبسبب ظروف عائلية عصيبة مرتبطة بالفقر والحاجة، إلى ترك مقعد الدراسة رغم تفوقي، والتحقت بمدرسة تكوين الممرضين الإعداديين بالراشدية التي كانت حينها تقبل التلاميذ ابتداء من المستوى الرابعة إعدادي ( التاسعة إعدادي حاليا).
أتممت تكويني بالمدرسة المذكورة ما بين نونبر 1983 و نونبر 1985، ومباشرة بعد استكمال تكويني أتت مرحلة العطالة إذ كنت وزملائي في فوجنا من الأوائل في المغرب الذين تخرجوا وواجهوا شبح «الشوماج»، وفي حالتي الشخصية بقيت عاطلا عن العمل منذ أواخر سنة 1985 إلى غاية يوليوز 1987 التي اجتزت خلالها مباراة التوظيف، ثم امتحانات الخبرة والكفاءة، فالتحقت بمهنة التمريض بمنطقة الطوس كأول تعيين لي. كانت منطقة جد وعرة وقاسية، اشتغلت في مركز صحي يقع على بعد 25 كيلومترا عن مدينة مرزوكة في الحدود مع الجزائر، الذي كان يستغل كمركز لاعتقال السياسيين أيام الاستعمار، وكان خاويا على عروشه من أية معدات طبية كبيرة إلا مما كان يساعد في الإسعافات الأولية.
كنت أعمل حينها لصالح الجنود المرابطين على الحدود، أما المدنيين فكانوا قلة وأغلبهم كانوا من موظفي وزارة الداخلية. قضيت سنة كاملة هناك كأنني في سجن، ثم انتقلت إلى مدينة الريصاني، للعمل بمستوصف قروي اسمه تابوعصامت لمدة ثلاث سنوات، كنت أشتغل كممرض متجول أحمل المعدات الطبية والأدوية القابلة للحمل، وكنا نطوف على منازل المنطقة منزلا منزلا، ثم ننتقل للدواوير المجاورة للمركز الريصاني وتابوعصامت تحديدا، لنصل في تجوالنا الذي نضطر فيه لتجاوز الكثبان الرملية الوعرة من أجل زيارة منازل متناثرة في حدود الجزائر.
هذه الظروف الصعبة كانت حافزا قويا لبذل جهد أكبر في التحصيل العلمي والاستعداد لمباراة الممرضين المجازين، التي كانت مطمح أقراني، الذين كانوا يعانون من أجل النجاح في المباراة، وكانت ظروفي الاجتماعية وظروف تعييني دافعا قويا جعلني أستعد بشكل جيد خولني النجاح منذ الدورة الأولى. التحقت بعدها بمدرسة لالة مريم للممرضين المجازين بمدينة مكناس من أجل فترة تدريبية مدتها سنتان ممتدتان من نونبر 1991 إلى غاية نونبر 1993، تخرجت بتفوق من المدرسة وانتظرت التعيين الذي كان موعده يناير 1994 فكانت الوجهة صوب مندوبية إقليم سيدي قاسم، وانتقلت لمقر عملي، الذي صادف حينها تفشي مرض حمى المستنقعات التي كانت منتشرة بجماعة تروال وضواحيها، التي كانت آنذاك تابعة ترابيا لإقليم سيدي قاسم قبل أن يضمها إقليم وزان.
كان السياق هو مشروع سد الوحدة وإجلاء الدواوير التي سيتم إخلاءها وتعويض ساكنتها من أجل انجاز المشروع، وكان من المنتظر أن ينتشر المعنيون بعد تسلم مبلغ التعويض بكل ربوع المملكة، ونظرا لتفشي حمى المستنقعات بالمنطقة، توجست وزارة الصحة من نقل الوباء إلى مناطق أخرى بشكل يصعب التحكم فيه، لذلك كانت هناك تعليمات بالعمل ليل نهار، والحرص بشكل جدي على التخلص منه بشكل كلي، دون ترك أي هامش للخطأ، وهي غاية وضعتها الوزارة الوصية على القطاع نصب أعينها، وتمكنّا من إدراكها لاحقا، لكوننا موظفين صغار ننفذ التوجيهات، ولم نستطيع تمثل الغايات الكبرى من ذلك الضغط الرهيب في العمل إلا بعد حين.
كسبنا التحدي، وفي ظرف سنة استطعنا أن نقضي على المرض في المنطقة بنسبة 90 في المئة، ولكي أكون أكثر دقة فقد رصدنا 120 حالة إصابة، تعافت بشكل كلي 110 حالات في سنة واحدة فقط، وبقي تحدي العشر حالات التي تم شفاؤها لاحقا. قبل التدشين الذي تم سنة 1995، أتيحت لي الفرصة للانتقال من منطقة تروال الجبلية الوعرة لظروف خاصة، إلى منطقة حدكورت التي كان فيها العمل الجمعوي والسياسي في أوجه، وهو ما اعتبره تحولا جوهريا في تكوين شخصيتي من الاهتمام بالتكوين في الجانب المهني الوظيفي إلى تكوين جوانب أخرى من الشخصية مرتبطة بالعمل السياسي والعمل الاجتماعي والجمعوي، وكأني خرجت من مكان العمل المحض إلى مدرسة الحياة في جوانب أخرى.
التحقت بحدكورت في يناير 1996، كانت دار الشباب بها متوهجة حينها، بدأت العمل الجمعوي بجمعية الشعلة، وبالموازاة مع ذلك كان عملي بالمركز الصحي متواصلا، كنت حينها رئيس منطقة، تعلمت الكثير في تلك المرحلة، تحملت مسؤولية مندوب جمعية الشعلة فرع حدكورت لولايتين، استفدت خلالها من مجموعة من التكاوين، من أهمها هندسة المشاريع التي كان حينها مصطلحا غير متداول ولا يعرف عنه إلا القليل. في طنجة وبوزنيقة تخصص فروع العالم القروي، أكسبني تجربة وخبرة في العمل الجمعوي. هي تراكمات أدت سنة 2014 رفقة مجموعة من الأخوات الممرضات والإخوة الممرضين إلى تأسيس جمعية ممرض اليوم، قمنا برحلات، قوافل صحية، وبأعمال اجتماعية خيرية كتوزيع الملابس المستعملة. وفي سنة 2015 نضجت فكرة الاحتفال باليوم العالمي للممرض، واحتفينا أيضا بالمتقاعدين من الأخوات والإخوة.
في سنة 2017 راودتنا فكرة توسيع فكرة الاحتفال باليوم العالمي للمرض، فقمنا بذلك بتنسيق مع جمعيات أخرى من بينها جمعية الممرض للأساتذة الدائمين بمعهد تكوين الممرضين بالقنيطرة وجمعية الطلبة. أما سنة 2018 ونتيجة لنجاح التجارب السابقة والاستحسان الذي لاقته، تحمسنا للقيام بندوات كبرى بتأطير من قضاة ومحامين ورجال قانون، بالتنسيق مع جمعيات المجتمع المدني المهتمة بالمجال، في سياق صدور قانون الممرض الذي كان في مرحلة النقاش، كما قمنا خلال سنة 2019 وفي سياق الحادثة التي وقعت للزميلتين بالمركز الصحي الليمون، بتنظيم ندوة وطنية حول الخطأ الطبي، وشارك فيها قضاة ومحامون وأساتذة جامعيون.
لقد عرف مساري الجمعوي والسياسي من المحطات أغنت رصيدي وأكسبتني مناعة وتجربة محترمة، أغنت محصلتي في مساري المهني الذي كان مليئا وزاخرا بالعطاء الذي لا ينضب ولا يفتر إلى يومنا هذا والله ولي التوفيق.


الكاتب : إعداد: وحيد مبارك

  

بتاريخ : 04/06/2019

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *