حكايات من قلب واقع التمريض 31 : إمرأة بين «السعار» و «الإعصار»

الممرض .. العمود الفقري لكل المؤسسات الصحية بمختلف مستوياتها، «الدينامو» المحرك للعملية الاستشفائية، الذي يقوم بالعدد الأكبر من المهام لفائدة المرضى، ويتعامل مع مختلف الفئات والأشخاص، أحيانا حتى ما قبل ولادتهم، عندما تكون المرأة حاملا وتقوم بالوضع، وبعدها في مرحلة الرضاعة، فالطفولة، ثم الشباب، وعندما يبلغ المرء أشدّه، وبعد ذلك أثناء مرحلة الكهولة. طيلة هذه المسيرة العمرية، يحضر الممرض والممرضة، لتقديم حوالي 80 في المئة من الخدمات الصحية.
الممرضون والتقنيون يشكلون نسبة 56 في المئة من مهنيي الصحة، يقومون بمهام جسيمة، قد تنال اعترافا من طرف البعض، وقد تواجه بالجحود والنكران من طرف البعض الآخر، خاصة من الذين ينظرون للممرض نظرة تقليدية، نظرة «الفرملي»، انطلاقا من منظور «تقزيمي»، ممن لا يزالون سجناء زمن مضى وولى، ولا يعلمون بأن الممرض إطار بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وساعد من سواعد النهوض بالمجتمع وبنائه.
الممرض ليس دائما عنوانا للرشوة، للتسويف واللامبالاة … والممرضة ليست هي تلك الشابة التي تهتم بأظافرها، وتضع فواكه في جيب وزرتها، المشغولة بهاتفها النقّال .. وهي الصور النمطية التي تحاول بعض التصنيفات تكريسها وتعميمها، باعتبارها قاعدة وليست استثناء كما هو حال مختلف القطاعات.
الممرض قصة ليست كباقي القصص، يومياته ولياليه حكايات تستحق أن تروى، هو جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع، بإيجابياته وسلبياته، وبالتناقضات التي يحبل بها.
للتقرب أكثر من الممرضين والممرضات، تفتح «الاتحاد الاشتراكي» صفحاتها في فسحة رمضان، لعدد من المنتمين لهذه الفئة، لكي يحكوا عن طبيعة الأقدار التي ساقتهم لاختيار هذه المهنة، أو ينقلوا إلى القراء تفاصيل واقعة من الوقائع التي عاشوها والتي تركت وقعا خاصا عليهم، للكشف عن وجه آخر للممرض/الممرضة غير ذاك المتخيّل في كثير من الأذهان.

 

كانت المنطقة مصنفة ضمن المناطق القابلة لتسجيل حالات مالاريا وذلك اعتبارا لعدة معايير من بينها تاريخها، فمدة تسجيل آخر حالة كانت ترجع لأقل من عشرين سنة، وأيضا بسبب وجود الكثير من البحيرات والأحواض الراكدة التي قد تشكل مرتعا خصبا لنمو الحشرة الناقلة للمرض التي تسمى بـ «anophele»، فما كان علي كممرضة مسؤولة عن المركز إلا المراقبة الشهرية لتلك المياه وجلب عينات منها وإرسالها للمختبر، خاصة في فترة الربيع والصيف، من أجل فحص وجود بويضات أو يرقات الحشرة الطائرة. كان الأمر يشكل لي متعة خاصة، فقد كانت فرصة للجلوس قرب المياه والخضرة واستكشاف الطبيعة الهادئة، كما كنا ننسق مع السلطات المحلية والجماعة الترابية في كل صغيرة وكبيرة تهم الصحة العامة للمواطنين هناك، لم نكن نبخل على بعضنا بالمساعدة والدعم، حتى أني انخرطت في العمل الجمعوي، وانتخبتني بعض نساء القرية رئيسة لجمعية فلاحية، يبدو الأمر بعيدا عن تخصصي لكنه كان ممتعا، فقد كان يكفي التسيير والتنسيق مع العمالة والجماعة. كانت تجربة رائعة تلك، تربية النحل جني العسل، كانت النساء تفرحن كثيرا عندما تحصلن على بعض النقود عند بيع ولو كمية قليلة من العسل، لقد كن محتاجات لدخل مادي، في قرية قست عليها الطبيعة والقدر، كما كانت أولى بدايات عملي السياسي وتم ترشيحي لخوض انتخابات 2009 باسم حزب الوردة، رفقة ثلة من الشباب المثقف، أستاذة وخريجين من كلية الحقوق، علما بأنه تم تهديدي بالتصفية الجسدية، لكننا حصلنا رغم ذلك على أصوات محترمة حتى لو لم نفز، كانت تجربة لن ننساها أنا وبعض رفاقي من المدينة. كما أتذكر دخولنا مباراة الجودة التي كانت تنظمها وزارة الصحة كل سنة، تبارينا، جهزنا، أصلحنا أخطاءنا، عملنا بجهد مضاعف أنا وطبيب المركز آنذاك، وحصلنا على مرتبة أعتبرها مشرفة بالنسبة لمركز صحي كان منسيا وسط الجبال، وهي الرتبة 27 وطنيا من بين مئات المراكز الصحية المدنية و القروية.
كل الأيام كانت جميلة بمعنى الكلمة، مهما كان التحدي الذي كانت تحمله، إلا أيام المرض وحدي، تعرضت لعضة كلب يوما ما قبيل آذان المغرب في عشية رمضانية، كانت ساقي تتقطع من الألم وأنا أحقن فيها السيروم المضاد للسعار، قبل أن أمر لحقن ذراعي الاثنتين باللقاح، كل هذا هان أمام أيام تراجيدية سأرويها دوما، تلك الأيام الرمادية اللون حينما هبت عاصفة شتوية رعدية و زمهرير بعثر ما تبقى من معالم السوق أو المركز، مركز القرية. اختفى الجميع، حتى الجيران سافروا قبل الواقعة فعلقت وحدي، في صمت مخيف، تيار كهربائي منقطع، شموع بالليل، حزن، بكاء، دعوات، شبكة هاتفية منقطعة، أشجار الأوكاليبتوس انكسر بعضها، وحل وبرد، لا أحد، لا أحد أبدا معي إلا الله، حتى المركز الصحي كان مهجورا. كانت المؤونة الغذائية كنت تتناقص يوما عن يوم إلى أن انتهى الأكل، فبدأت بأكل الخبز اليابس وبعدها الفلفل الحار والبصل، ثم انتهى هذا فمررت إلى تناول سكر سنيدة حتى أبقى على قيد الحياة، كما كنت أنوي شرب سيروم الغليكوز في الحالات القصوى. ألهذه الدرجة يحدث هذا فقط بكيلومترات تفصلنا عن المدينة؟ مجرد أوحال وقنطرة منهارة تكاد تودي بحياتي، أين الجميع، أين أمي، كيف أحدث أبي، وأصل إليه؟ أنا حزينة حتى في الليل كنت أبقى ساهرة على ضوء الشموع، أحاول عدم تذكر تلك المرأة البقرة التي حدثونا عنها، لقد أصبحت تلك الخرافة تخيفني في هذه الظروف.. كما كنت أخشى أن يعتدي علي أحدهم .. توقعت كل السيناريوهات…
لم يظهر في تلك الأيام الرمادية اللون حيث السماء ملبدة بغيوم مكفهرة، إلا رجلا أتى غارقا في الوحل من دوار بعيد خلف التل (4 كلم)، عندما دخل المركز، رأيت وجهه السموح وهو المعروف بشهامته، و احترامه لي، أتى لأخذ تحاميل مضادة للحمى من أجل طفله، لم يكن يريد المجيء على حد قوله في هذه الظروف لكن طفله كان في حالة حرجة، اقترح علي مرافقته وعدم البقاء وحدي لأن العاصفة قد تطول، لكني ترددت، فضلت البقاء في المركز حتى لو انتهى الأمر بي إلى أكل أوراق الشجر. ظهرت أشعة الشمس خفيفة على استحياء أمام زحمة السحب، كنت جالسة خائرة القوى على السور المحيط بالمركز الصحي، أراقب ظهور أول عربة تنقلني إلى المدينة، لقد عاد التيار الكهربائي، عادت شبكة الهاتف، تراءت لي من بعيد السيارة التابعة للجماعة المحلية، كنت أشير بيدي وأنا أحس بطعم العودة للحياة، كنت سعيدة أني تجاوزت كل ذلك، لم يقتلني الجوع، لم يعتد علي أي انتهازي. نقلتني السيارة التي كان يقودها رئيس الجماعة برفقة خليفة القائد إلى المدينة، إلى المستشفى مرة أخرى من أجل الاطمئنان على حالتي الصحية المنهكة والحصول على بعض التغذية عن طريق الوريد. بعد مغادرة المستشفى نسيت كيف أمشي في طرقات المدينة، أخذت إجازة قصيرة المدى، وذهبت لمعانقة والداي في صمت دون أن أحكي، حتى لا يحزن والداي أضعاف حزني …
عدت بعد الإجازة وكأن شيئا لم يكن، واصلت عملي، وذهبت من جديد لرؤية صديقتي الصغيرة صفاء ووالدتها ذات حس الدعابة المرتفع، لكني فوجئت بقرار رحيلهم إلى المدينة حتى تتمكن من إكمال دراستها الإعدادية، حزنت كثيرا وسعدت كذلك لأنها سوف تكمل دراستها كما وعدتني. ألفت المكان كثيرا، مرت خمس سنوات بسرعة، حتى أن كل أصدقائي كانوا يقولون لي لم لا تقدمين طلب انتقال، فكنت أجيب «لن أخرج من ذلك المكان إلا وأنا ذاهبة إلى القبر «ههه، فعلا لبعض البشر تعلق كبير بالأمكنة والأشخاص و أنا منهم، مرت العديد من الأحداث لكن بدأ بعض الملل يتسرب إلى حياتي العملية خاصة، مما جعلني أفكر في استكمال دراستي بالسلك الثاني للدراسات التمريضية شعبة التدريس، لم أتوفق في المرة الأولى، لكن المرة الثانية كانت حاسمة، نجحت في تحقيق حلمي الأزلي «مدرسة علوم تمريض»، و أنا أستعد للرحيل بعد أن علم جميع السكان بذلك، كانوا يطلبون مني البقاء وعدم الرحيل، كما كانوا يقولون لي أنهم سيحتجون قرب عمالة المدينة إن رحلت، فأخبرتهم أن الأمر ليس بيدي، وأنه علي أن أعيش حلمي الجديد وبأن هناك أطار تمريضية في المستوى سوف تأتي للعمل مكاني، وبأنه لكل شيء نهاية…
لم أعلمهم بموعد رحيلي لأني أكره الوداع. جاء أبي لنقلي إلى المدينة البعيدة الكبيرة التي تحمل الكثير من الأسرار، المدينة التي سأدرس فيها بيداغوجيا علوم التمريض، حملت قطتي (ساندي) ووضعتها في سلتها حتى ترافقني، لكنها ما أن دخلت السلة حتى هربت بعيدا، كانت عنيفة ذاك اليوم، خدشتني، وابتعدت، تبعتها، لكن أبت أن تأتي، اغرورقت عيناي دموعا، هل انتظر، كان علينا الذهاب حتى أستطيع الالتحاق بالدراسة في اليوم الموالي، و أنا ذاهبة، اختلجتني مشاعر مختلطة، لقد انتهى كل شيء. عدت بعد شهور إلى المركز من أجل تسليم المهام للممرضة الجديدة، كان كل شيء قد تغير، كثير من سكان المركز والموظفين رحلوا أو انتقلوا، فإذا بي أرى بالقطة ساندي تدخل المركز الصحي، وتصعد فوق المكتب كعادتها، انفجرنا ضحكا واستغرابا، داعبت يدي، عضتها عضة خفيفة، لقد تحولت من قطة مدللة إلى قطة متشردة…
أعلم أن أغلب زملائي الممرضين لديهم حكايات لا تنتهي، لأن مهنة التمريض مهنة شاملة، إنها مهنة للحياة، سردي لبعض من الحكايات بكل أمانة وصدق، جعلني أحس أني في عملية تداعي حر، تلك التقنية التي كان يستعملها المحللون النفسانيون من أجل تذكر أحداث قديمة، لكن هذه الذكرى امتزج فيها إحساس الفخر تارة وإحساس الأسى تارة أخرى، ربما لرحيل أشخاص أحببناهم، أو لأن الماضي جميل لأنه مضى ولو عاد ما أحببناه .. لا أدري.


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 14/06/2019