حكيمة لعلا، الأستاذة والباحثة في علم الاجتماع ومندوبة وسيط الجمهورية الفرنسية سابقا

لماذا لاينضبطون؟ لأننا نقيم محاضراتنا في فنادق فاخرة، نتحدث لغة غريبة عنهم ،

ولم ننزل أبدا لميدانهم لملاقاتهم

في ظل جائحة كورونا، طفت بعض السلوكيات المجتمعية
التي لاقت استنكارا عاما،بالنظر للظرفية التي تمر منها البلاد،وتتمثل الأولى في عدم رغبة بعض المواطنين في الامتثال لاجراءات الحجر الصحي ، خصوصا في الاحياء الشعبية والتي استدعت تدخل الامن والجيش لضبط الامور فيها .
والظاهرة الثانية هي حالة الجشع التي أصابت البعض من مختلف الطبقات دون استثناء، والتسابق لتكديس المواد الغذائية كأولوية من حمايتهم من عدوى الوباء.
لماذا لاينضبط بعض سكان الأحياء الشعبية لإجراء يحمي حياتهم كباقي الأحياء الأخرى التي تشهد امتثالا تاما ؟ ولماذا يتسابق الآخرون بكل هذا الشره في الادخار والاحتكار؟
ألا ينم هاذان السلوكان وغيرهما عن حالات خلل ما في التركيبة المجتمعية لدينا؟وعن عوامل نفسية سيكولوجية اجتماعية وايضا ثقافية هي وراء هذه السلوكات التي بدت كالنشار في زمن موبوء.
لفهم الظاهرة من وجهة نظر سوسيولوجية ، توجهنا بالسؤال لحكيمة لعلا ، الأستاذة والباحثة في علم الاجتماع بجامعة الحسن الثاني بالمحمدية ومندوبة وسيط الجمهورية الفرنسية سابقا، لفهم هذا السلوك المجتمعي من وجهة نظرعلمية ،لمحاولة اعادة بناء مجتمع مغربي جديد.

o كيف تفسرين من وجهة نظركم كأستاذة علم اجتماع ،حالة عدم اانضباط أو استهتار بعض المواطنين في أحيائنا الشعبية بالخصوص ،لاجراءات الحجر الصحي التي يفرضها زمن كورونا؟

n قد يعتبر الكثيرون منا أن هذه التصرفات الناجمة عن بعض أفراد مجتمعنا فوضى وعدم انضباط ، لأننا نعتبر أن في ذلك خطرا علينا، علما أننا نحتاط من هؤلاء قبلا و آنيا، ولم نطرح السؤال لماذا يفعلون ذلك ،لأننا تركناهم في بؤرهم، فهم يسكنون في أحياء تعج بهم، كان علينا فقط الابتعاد عنهم، كان لابد لنا أن يكون لدينا قطيعنا المتخلف لننتشي بفكرنا، نقيم محاضراتنا في فنادق فاخرة، نتحدث لغة غريبة عنهم، لم ننزل أبدا لميدانهم لملاقاتهم، نتذكرهم وقت الحاجة، وقت التصويت علينا في الانتخابات.
نحن نعتبر أنفسنا أوصياء عليهم، أولياء أمرهم، مثلوا لنا ولا زالوا ” الإملاق الفكري ” طالبناهم بالمجيء إلينا و”تمخزنا” عليهم، نحن الآن نراهم فقط على صفحات الفيسبوك ونسمع أخبارهم المتناقلة بيننا، وكأنهم دخلاء علينا، تنصلنا في كثير الأحيان منهم، ولازلنا نتنصل ، فهم لا يجيدون أحاديثنا ولا يجيدون خطاباتنا. الأغرب أننا نتحدث عنهم أكثر مما نتحدث عن فيروس الكورونا، ورغم الإلحاح عليهم للمكوث في بيوتهم، ظنا منا أنها قادرة على احتوائهم، تلك التي نتخيلها في أغلب الأحيان كفيلة باحتضانهم بسعة صدر، ولكن رغم الصراخ الموجه لهم، والذي قد لا يصل إليهم ، لانهم لا يتعاملون مع الإنترنيت كمصدر معلومة صحيحة، يستهلكون أكثر الإشاعات لأنها تخاطب مشاعرهم وتدغدغ معتقداتهم. هناك أفكار لا تعنيهم فلا يتوقفون عندها، بل قد يعتبرونها استفزازا أو “حكرة” لهم ، فيحتمون ببعضهم في تصرفاتهم وهيجانهم الاجتماعي.
نستنفد صبرنا نحن أمام اكتظاظهم في الترحال والتسوق، نفقد الصبر ونعجز عن الفهم، يختلط علينا الأمر و نحن الذين نفكر أن العقل كل العقل هو أن نحتمي ببيوتنا، إذ الأمر بالنسبة لنا لا يتطلب سوى القيام بشراء الحاجيات الضرورية وحتى الكمالية للمكوث في البيت حيث الامكانيات كثيرة للتواصل، لرؤية العالم الخارجي وإن كان افتراضيا، لمعرفة الأخبار وتقصي حقائق المرض. ليست لنا حاجة ماسة للآخر وملامسته لنشعر بالاطمئنان ولنتعرف على آخر الاخبار، ولسنا بحاجة لعمل يومي لتأمين الاولويات ، إذا يبقى همنا في هذه الأحيان هو حماية أنفسنا.
لكن الأمر يختلف عند الذين هم في حاجة لتدبير شأنهم المادي والاجتماعي والسيكولوجي ، الاجتماعي وهو المرئي في التدبير اليومي للحياة، وهو أمر ينهكهم ماديا ومعنويا، أما التدبير النفسي او السيكولوجي فذاك أمر آخر، قد نراهم في وضع الرافض المتجبر بجهله، الذي يتخذ من الهزل وسيلة للتعامل مع الأخبار والأحداث، يستمر في فعله الاجتماعي من بقاء في الشارع، في جميع الاعمار صغارا نساء ورجالا.
إنهم في حقيقة الأمر لا يراوغون الأوامر المدبرة للحجر الصحي الإجباري، بل يراوغون الخوف من شئ لا يدركونه، إنهم في حاجة ليعيشوا أحاسيسهم بشكل جماعي، يتقاسمون الفرح كما يتقاسمون الحزن، البكاء، إنهم في حاجة لملامسة بعضهم للتخفيف من الضغوطات، إنهم يمثلون دعما نفسيا لبعضهم البعض لا غنى عنه بالنسبة لهم ، إنها عملية احتماء جماعية من الموت، من الفناء، انهم لا يملكون الوسائل الحديثة التي نملكها للتدبير، أو كما قلت سابقا لم تعطى لهم وسائل وآليات التفكير، فكل الأشياء التي يستصيغها عقلنا قد تظل عقولهم عاجزة عليها، فيدخلون في عملية إنكار جماعي للخطر، هذا الإنكار الجماعي هو ضرورة عندهم للشعور بالاطمئنان في غياب الإدراك للشيء، فهم لايدركون كيف يواجهونه، بل قد يكون أكبر من استطاعتهم، فتربيتهم او تنشئتهم الاجتماعية لم تخول لهم ذاك الانضباط في تدبير حياتهم اليومية، إن كثرة تجمعاتهم هي أيضا احتماء من المجهول، المحتمل وقوعه، هم لا يتواجدون كأفراد بل كمجموعات، إنهم لا يعيشون في غرف مستقلة داخل بيوتهم، ومن المحتم لا يستطيعون البقاء فيها منعزلين، ففي العزلة مخاطرة مع الغيب والجن. إنهم لا يتجمعون داخل بيوتهم، لا يحتملون ذلك، بل يتكدسون في الأزقة وأمام أبواب المنازل وفي الساحات الفارغة ، يتجمعون ويعيشون على وقع أقوالهم ومعتقداتهم، يتجنبون حديث العقل، ويفضلون حديث العاطفة التي قد تكون ضاربة في الخيال، قد يسألك أحدهم “كيف يستطيع هذا الفيروس اختراق جسدي!! ” أو “كيف له ان يستقر في ذاتي!! ” إنهم لا يهتمون بكل قول علمي، فعلاقتهم مع العلم منعدمة لأن كل قنواتنا ووسائل اعلامنا تتحدث عن العمل الصالح الذي سيدخلنا إلى الجنة ،حتى بدا لهم ان الدخول للجنة أقرب من الذهاب إلى المستشفى العمومي بالطبع. لقد أخبرهم فقهاؤهم ان الجنة للفقراء، وأن المرض قدر والموت قدر، وكل مايقع هو قدر مقدر من عند الخالق ، وأن فيروس الكورونا هو الآخر قدر ، وبما انهم مؤمنون يريدون نيل الجنة.وعندما نخاطبهم بما نعتبره صوابا يخالف صوابهم، نصبح أعداء لهم، نزلزل إيمانهم، فيبحثون عن أمان غاب عنهم بيننا، فيرحلون لكي يحتموا بأبناء جلدتهم أو يغلقون باب حاراتهم تجنبا للعنف الذي نمارسه عليهم، ان كل فكر معقلن هم عنف وقهر لهم.
نحن لم نبذل جهدا لتبليغهم فكرا علميا بمقاربة قريبة من فهمهم ولم نرحم جهلهم ولم نوفر لهم ضمان بقائهم، بل دفعنا وندفع بهم يوما بعد يوم إلى هامش أعمق من الهامش الذي يعيشونه، هم حتما غير مسؤولين عن فكر صنعته و أبدعت في صناعته طبقة المركز، صاحبة القرار في صناعة الفكر والإنسان. إنهم النتيجة وليس السبب، إنهم يمثلون الضحية ولا يمثلون الجاني في غيابهم عن العلم والمعرفة.


الكاتب : حاورتها: فاطمة الطويل

  

بتاريخ : 01/04/2020