«حياة» لرؤوف الصباحي.. السفر كفلسفة لسبر العلاقات الاجتماعية

الشخوص في فيلم «حياة» ما هي إلا مجرد عينات تمثيلية لفهم ما يجري ويعتمل داخل «الحافلة/المجتمع»، خصوصا في هذه الظرفية الحساسة التي نختبر فيها قدرة مختلف الركاب على التفاهم بغية الوصول إلى نقطة النهاية دون حدوث أعطاب، خاصة أن الطريق طويلة ووعرة، ومن هنا فالرهان على مدى قدرة سائقها وركابها حاسم لتجاوز الصدامات التي قد تحدث بينهم

يتكئ الخط السردي لفيلم «حياة» للمخرج المغربي رؤوف الصباحي (إنتاج 2017) على رحلة تمر أطوارها على متن حافلة تقطع عدة مدن مغربية، إذ تحمل على متنها أصنافا من البشر سمحت لهم الرحلة بنسج علاقات متداخلة في ما بينهم، ومكنتهم من الدخول في تبادلات ومشادات بعضها لطيف، وبعضها طريف إلى حد الصدمة، ولكنها تظل عاكسة لما يمكن أن يحدث أثناء الاجتماع البشري داخل الفضاءات الخاصة والعامة.
ويستقل الحافلة عدد مختلف من الشخوص مما يدل على أن الحياة -ومن هنا جاء عنوان الفيلم- في عمقها سفر مفتوح على كل احتمالات اللقاءات، وأن السفر حياة يصعب على الإنسان التكهن بخباياها، فأن يختار المخرج خوض غمار الدراما عبر نوع فيلمي صعب يتمثل في «أفلام الطريق»، وأن يستند إلى فكرة السفر كفلسفة ناظمة لرؤيته الموضوعاتية والبصرية لأمر في منتهى المغامرة، ولكنه سيحقق الأهم من خلال تلك الرحلة الفاتحة لأعيننا على الغنى الرمزي للحافلة، إذ يمكن أن تكون معادلا مجازيا لفهم المجتمع المغربي إذا تمثلناه فيها.
وما الشخوص إلا مجرد عينات تمثيلية لفهم ما يجري ويعتمل داخل «الحافلة/المجتمع»، خصوصا في هذه الظرفية الحساسة التي نختبر فيها قدرة مختلف الركاب على التفاهم بغية الوصول إلى نقطة النهاية دون حدوث أعطاب، خاصة أن الطريق طويلة ووعرة، ومن هنا فالرهان على مدى قدرة سائقها وركابها حاسم لتجاوز الصدامات التي قد تحدث بينهم.
يتكون مجتمع الحافلة الميكروسكوبي من السائق ومساعده، اللذين تختلف نسبة تدخلهما في شأن الحافلة بدرجات متفاوتة، إذ يقودها السائق في بعض الحالات دون اكتراث كبير بما يقع فيها، تاركا تدبير شؤونها لمساعده، مكتفيا بالمتابعة عبر المرايا أو التعليق.
وقبل الانطلاق سيطلب أحد المسافرين من السائق أن يمهله بعض الوقت لقضاء حاجته كي لا يسير على إيقاع الضغط البيولوجي الذي يعادل الضغط الاجتماعي إلى حد ما، وتكشف لنا الكاميرا في لقطة تنفتح فيها ببطء على الجزء الخلفي من الحافلة، وفي لقطة راجعة إلى الوراء، عن شابين يلهوان في شبه انقطاع عن الآخرين، وعلى مقربة منهما شخصٌ ملتحٍ يلوك قطعة من عود الأراك، وفي يده سبحة يمرر حبيباتها بين أصابعه.
وبالتزامن مع ذلك نسمع حوارا فيلميا جريئا بين شخصيتين تمر أحداثه على شاشة تلفزيون الحافلة، وهو الأمر الذي سيستفز الملتحي الذي يطالب بصوت عال، ولغة وعظية تكفيرية، بإطفاء الجهاز ووضع حد لما يراه ويسمعه من منكر.
وقبل حدوث هذه المشاحنة تركز الكاميرا على سيدتين تشد إحداهما على يد الأخرى، وتداعب خصلات شعرها، وهما يتبادلان نظرات الإعجاب، والابتسامة المنشرحة تفضح دواخلهما. وستقدم هذه اللقطات، والحوار المبثوث عبر التلفزيون فضلا عن الخطبة العصماء للشخص الملتحي وكذلك إشارات السيدتين خريطة طريق السفر، والتباين الذي سيرتكز عليه الصراع بين الشخصيات، وهو في مجمله لا يخرج عن النزاعات الأيديولوجية الدائرة في المجتمع المغربي، والمنتشرة بين أفراده وجماعاته، وخاصة صراع القيم وتضارب الأهداف والمصالح بين الأجيال، بالرغم من أن غالبية الركاب من الشابات والشبان.
ويفتتح المخرج فيلمه بلقطة-مشهد تصل إلى ثلاث دقائق ونصف الدقيقة كي يصف ويقدم الشخصيات التي ستصعد الحافلة المنطلقة من ميناء مدينة طنجة قصد التوجه إلى جنوب المغرب، وذلك في حركة كاميرا بانورامية مضبوطة، وهي اللقطة المفتاح التي تذكرنا بلقطات راسخة في تاريخ السينما.
وتشكل كرة التنس التي يدحرجها الطفل بمثابة الذريعة الفنية التي تجعلنا نكتشف وجوه وسحنات وسَمْت الشخصيات التي ستتحلق مجتمعة حول أحد المسافرين الذي سيطلب منهم الاحتجاج على تأخر قدوم الحافلة، هكذا، ستضبط لنا الكرة إيقاع اللقطة والفيلم معا، وهو الأمر الذي يَنْظُم الدلالات المعرفية والرمزية والجمالية وِفْقَ تَصَوُّر مفهومي يُخْرِجُ الحافلة من دائرة الأشياء ويضعها في منظومة «الأيقونات».
وإذا كانت الكرة، على المستوى الافتراضي، دالة على الطاقة الكامنة التي يمكن أن تزودنا بالحركة وتدفعنا نحو التجدد، فهي تختلف من حيث اللون والحجم عن كل الكرات الأخرى، إن كرة التنس هنا ليست كرة البولينغ في فيلم «ليبوسكي الكبير» (1998) للأخوين المتآزرين «جويل وإيتان كوهين»، فالعوالم تختلف، وبالتالي فالسياق الاجتماعي والثقافي غير متشابه مما يعني أن حجم الكرة وتدحرجها يفيدان في رصد سرعة «الحافلة-المجتمع»: كل شيء يبدأ متأخرا، ومزاج بعض الأشخاص يمكن أن يعطل أمور الجماعة، وهذا ما يفسر الفوارق الكامنة بيننا وبين المجتمعات الأخرى.
تنطلق الحافلة بكل مسافريها فتتشكل الوضعيات الدرامية والكوميدية ذات الإيحاءات المتناقضة حَدَّ الاعْتِلاَل، وتؤشر تلك الحالات على ما يعتمل داخل المجتمع من فوارق يمكن شرحها عبر فهم نسيج العلاقات بين الركاب، وهي، في غالبها، ذات طبيعة شبه مرضية (باتولوجية).
وحاول المخرج أن يقدمها لنا بطريقة تحيل على لعبة النوافذ في مجال الإعلاميات، فضلا عن اعتماد تقنية الاستبطان في مجال التحليل النفسي، والتعبير عنها سينمائيا عبر توظيف تقنية الفلاش باك، وذلك للخروج بالمتفرج من الحافلة، وتكسير إيقاع زمنها الداخلي، والغوص في البواطن الوجدانية والعاطفية لكل زوج: تأثير، تعلق، حنان، عاطفة، ميل، نفور، خصام، إخضاع، تذكر، ندم، بكاء…
واجتهد المخرج في ملاءمة لغةٍ بصريةٍ تتناسق وموضوعة فيلمه المترحل، حيث كانت الكاميرا متحركة منذ البداية، وإن سَكَنَتْ فالحافلة تتحرك أو ترتج علاقات ركابها، ويمكن تفسير تلك الديناميكية البصرية بمحاولة تجاوز انحباس وضعية الركاب في الحافلة، ووعي المخرج المسبق بتكسير الرَّتَابَة التي لا تعكس إلا إيقاع المجتمع.
ويمكن أن تكون هذه الحافلة هي المغرب، السيار المتوقف، السريع البطيء، الهادئ المتوتر، وأن يكون هذا السفر بمثابة المقياس لتحولاته الداخلية والخارجية، والصدام الحادث بين ركابه هو انعكاس لما يجري بين مختلف أطيافه وثقافاته المتعددة، وستعبر الحافلة مُدُنًا وقرى، وستقطع مسافات طويلة، الأمر الذي سيلخص البعض من جغرافيات المغرب المحتضنة لأنماط عيشه الغنية والعاكسة لها.
تكاد الرحلة تنتهي على واقعة اصطدام الزوجة الجديدة للجندي المغربي المحارب بالجيش الفرنسي ذي النياشين الكثيرة مع زوجاته الثلاث اللائي تربصن به أثناء استقبال الأولى له بالمحطة الطرقية، وستستأنف الحافلة الرحلة، وعندما تتوقف بمدينة أو محطةِ نهايةٍ افتراضية، سَيُفْتَحُ الباب وتتدحرج الكرة فتركز الكاميرا بشكل مقلوب على توالي الأرجل الهابطة، وبعد حوار شاعري متفائل بين شاب وشابة كانا يركبان الحافلة، نسمع صوتا ينادي المسافرين للالتحاق بالحافلة الذاهبة إلى «باريس» أو العائدة إليها، فتبدأ أرجل أخرى نحو الصعود إليها، وتستمر الحياة.
ندرك أو نستشف أن أولئك كانوا قادمين من العاصمة الفرنسية بحكم ارتباط المغرب بها، وستتم العودة إليها من جديد، وفي ذلك أكثر من معنى وتأويل! فإلى متى سنظل متأرجحين بين الذهاب إليها وكأنها قدرنا الحتمي؟ ألا يمكن إحداث قطيعة معها؟ هل تغيير وجهتنا إلى عاصمة أخرى خطوة تَحُفُّهَا المخاطر أم أن ماما فرنسا هي وجهتنا الأبدية؟


الكاتب : محمد اشويكة

  

بتاريخ : 23/09/2017