خطاب الفتوى على الإنترنت: -02- العالم في مرآة الاستفتاء والإفتاء

لا توجد طبعا علاقة بين هذا السؤال والسؤال الذي طرحه رفاعة الطهطاوي في منتصف القرن التاسع عشر: “لماذا نحن متخلفون؟”، فهو لم يكن يسأل عن شيء يجهل كنهه، وقد أجاب عن السؤال مطولا. لقد طرح الطهطاوي تساؤله بنبرة تأكيد وقلق، فقد كان عالم المعرفة القديم الذي تغذى منه المسلمون قرونا، قد بدأ ينذر بالانهيار. وفي تلك الفترة كان طرح سؤال في العالم الإسلامي يعدّ مؤشرا على حدوث نقلة نوعية من موقع فكري، يرى في السؤال بدعة وفي البدعة ضلالة و كل ضلالة في النار، إلى موقع فكري مختلف يعتبر النقد والشك طريقين إلى التقدم، ويرى في السؤال بشرى بتوسيع دائرة إعمال العقل و برفع الغشاوة عن زاوية جديدة في ظاهرة ما. وقد ظهر هذا التحول من فعل التلقي السلبي إلى فعل السؤال، كرد فعل على التحدي الاقتصادي والثقافي والسياسي الذي فرضه الغرب، عندما قفز في غفلة من العالم الإسلامي، من عصوره الوسطى، حيث كانت الكنيسة تحرق المفكرين في العقل بالعقل، إلى عصر الأنوار. وتحدث واقعة الانقطاع الفكري عادة، حين تكفّ ثقافة عن الاطمئنان إلى الأسس التي قامت عليها وتشرع في التساؤل حول مدى صلابتها تجاه الحوادث المستجدّة.
لذلك تخشى الثقافات القديمة السؤال، وتواجهه بالتأكيد على أن كل ما يجب أن يقال قد قيل في مراجعها، ولم يبق للإنسان غير اكتساب المعرفة بالحفظ والتراكم فقط. وفي أقصى الحالات يظل المؤمن في انتظار أن يأتي العلم في عصره بما جاءت به مدونة المعرفة الشاملة والنهائية. يقول اليوم أحد الإسلاميين، وهو أستاذ جامعي وباحث في ميدان الفيزياء والرياضيات، في حديث حول نشأة الكون: “لقد تحدثت الآيات القرآنية عن هذه الظاهرة. وإذ أقول هذا فليس من باب إثبات صحة القرآن فهو أصدق الحديث، ولكن من باب إثبات صحة العلم ومن باب ’ولكي يطمئن قلبي’…”
لا يتكشّف معنى السؤال إذن بمجرّد فك حروفه والتّغاضي عن قراءة نبرته. ولا تدل أغلب الأسئلة المطروحة في مواقع الإفتاء على نبرة مختلفة عن نبرة الاستفهام العادي، فهي تنتهي بـ”وجزاكم الله خيرا” الموجّهة إلى العالم الذي سيخرج السائل من الظلمات إلى النور. وحتى الشخص الذي طرح السؤال الغرائبي:” ما الحكم فيمن أحدث جواز سفر أو بطاقة لشخص النبي (ص)؟ كان قصده مجرد الحصول على إجابة تشبع فضوله.
غير أن هذه النبرة المستكينة، شبه الجامعة، لم تمنعنا من تصنيف السائلين إلى فئات مختلفة حسب النبرات الفرعية التي تشي بها محاور الأسئلة.
وتقول هذه النبرة الفرعية لبعض المستفتين أن هناك قلقا واضحا بسبب الالتباس الذي يحدثه الواقع الحالي المختلف عن الواقع الذي أنتج تلك الأحكام. تقول النبرة أنه لم تعد هناك بديهيات ومسلمات. هو إذن قول محمّل بأسئلة العصر، يواجه حرّاس المعنى القديم وحتى حرّاس البلاغة واللغة المحنطة في بديعها الخاوي.
كما تضمنت بعض الأسئلة توجيها واضحا ورأيا مسبقا. لذلك قمنا بتصنيف السائلين إلى فئات مختلفة بالنظر إلى طبيعة مضمون تساؤلاتهم وأسئلتهم.
ومكّننا مضمون الاستفتاءات من تصنيف السائلين في خمس فئات، وهي: المسلم العادي والمسلم الجديد، والمسلم الباحث عن الأمل من خلال تنبؤات النصوص، والمسلم المتحدي أو الجريء الذي يطرح أسئلة كانت حكرا على النخبة، وأخيرا المسلم المحتج والرافض لمنطق حكمة الله تجاه وضع غير منطقي وتجاه سؤال لا يقدر المفتي توفير جواب مقنع له.
يمثل المسلم العادي الصنف الأول وينقسم بدوره إلى أصناف فرعية.
والمسلم العادي هو المواطن الذي يكتفي بممارسة الواجبات الدينية والذي يفضل “تعليق الذنب في رقبة المفتي” عوض التصرف حسب فهمه ومنطق الأشياء. ويسعى هذا الصنف عادة إلى الحصول على حيلة فقهية تسمح له بالخروج من ورطة، من مثل: “ما هو حكم إرسال صورة الزوجة بغير حجاب للحصول على الإقامة؟” وكذلك: “رجل سافر إلى بلد أجنبي لطلب المعيشة، ولا تتم حصول الإقامة والعمل في هذا البلد إلا بعد الزواج بالكافرة أو الكتابية أو غيرها. فهل يجوز له أن يتزوج للضرورة أم لا؟ علماً بأنه ترك عائلته في بلده”.
كما يطمع المسلم العادي في الحصول على فتوى تيسّر له المعاملات أو حتى على رخص تحلّل تام، تضمن مصالحه في هذه الدنيا الجديدة التي لم يعد من الممكن التعامل فيها بالحلال فقط.
و يقول أحد السائلين حرفيا ما يلي: “أنا مسلم أحمل جنسية بلد أوروبي، هل يجوز لي أن آخذ أموالهم بغير رضاهم إذا لم أكن مقيماً معهم؟ أعني أغادر بلادهم بشكل مؤقت أو دائم ثم آخذ أموالهم وأنا خارج بلادهم بغير رضاهم و بالخديعة. وبعد ذلك أعود أو لا أعود إلى بلادهم التي أنا أحمل جنسيتها…. العهد بيني وبينهم هل ينتهي بمغادرتي بلادهم ولو مؤقتا أم أن العهد يبقى لأني أحمل جنسيتهم حتى لو تركت بلادهم؟” وغيرها من الأسئلة مثل رؤية الشّرع للقرصنة الإلكترونية، أو جواز التزوج مناليهوديات اللاتي يعشن في إسرائيل الآن على أساس أنهن من الكتابيات، وجواز سرقة اليهودي…


الكاتب : سلوى الشرفي

  

بتاريخ : 27/07/2017

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

جيد أن تبحث عن ملاذات في أقاصي نيوزيلندا، لكن، أن تحاول تشييد حضارة جديدة على جزر عائمة، فذاك أفضل! إنه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *